كثيرًا ما يلحظ القارئ وجوهَ شبهٍ بين عمل فني يقرؤه وبين عمل آخر، حتى وإن كان الأمر لا يتعلق بتأثر أحدهما بالآخر، بل وكثيرًا ما يكون العمل المشابه سابقًا على العمل الآخر، مع عدم وجود إمكانية اطِّلاع كاتبه على العمل السابق بأي حال من الأحوال وليس هناك من تفسيرٍ لذلك سوى أن تشابُهَ التجارب الإنسانية الأدبية، ووحدة المشاعر التي تدفع كاتبًا إلى صوغ تجربته الفنية، يمكن أن تُنتج أعمالًا ذات ملامح متقاربة، وهذا بالطبع إلى جانب الأعمال التي تأتي بتأثير مباشر أو غير مباشر من كتاب معين أو كاتب معين على كاتب آخر.
ويقول ماهر البطوطى في كتاب روايات وروائيون من الشرق والغرب: ثمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمال أدبية مختلفة اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجة لتوارد في الأفكار والخواطر أو نتيجة تأثر مباشر أو غير مباشر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقاربة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين، ورواية «زينب» لحسين هيكل التي تُعيد إلى أذهاننا أجواءَ «هِلُوِيز» الجديدة لروسو، مع اختلافات جوهرية في المكان والزمان.
وهناك ملامح تجمع رواية الكاتب البرازيلي «باولو كويلو» وهذه هي الصيغة العربية الأقرب إلى اسمه، كما يُنطق في لغته البرتغالية«السيميائي»، وقصة بهاء طاهر «أنا الملك جئت» وقد أشار الروائي المصري إلى أوجه ذلك الشبه في مقدمته لترجمته للرواية، وإن كان لم يجد تفسيرًا لذلك؛ حيث إن قصته صدرَت قبل الرواية البرتغالية بثلاث سنوات، ولم تُترجم إلى لغة أجنبية.
ملامح مشتركة
ويضيف ماهر البطوطي فى كتابه: "حين ننظر إلى القصتين، البرتغالية والعربية، نجد بالفعل ملامحَ وخطوطًا عامة تجمع بينهما، فهما ينطلقان من مبدأ النوع القصصي المسمى «رحلات السعي» QUEST (وأشهر مثالين لها رواية «رحلة الحاج» لجون بنيان ورواية «موبي ديك» لهرمان ملفيل)، التي يقوم فيها بطل القصة أو إحدى شخصياتها برحلة بحث، تشمل كلَّ ما يتصل بالرحلات العادية من تفاصيل الاستعدادات للسفر ومعداته ومراحل التقدم في الترحال، والمخاطرات والاستكشافات المصاحبة لكل ذلك. بيد أن تلك الرحلات تكون رمزًا لرحلة روحية نفسية في أعماق ذات مَن يقوم بها، توسلًا إلى استكشاف حقيقة وجوده والوصول إلى الخلاص الذاتي والتطهر النفسي، وكل هذا من غايات الطبيعة الإنسانية؛ فرواية كويلو تحكي عن الرحلة التي يقوم بها بطلُها «سنتياجو» من بلدته الأندلسية في جنوب إسبانيا، يعبُر فيها «العدوة» التي تفصله عن المغرب، حيث يذهب إلى مدينة طنجة، في طريقه إلى مصر. وهو يقوم بهذه الرحلة المسعى، تحقيقًا لحلم رآه أكثر من مرة مما يجعله أشبه بالرؤيا الصادقة، بأن عليه الذهاب إلى أهرامات مصر، حيث يعثر في رمال الصحراء المحيطة بها على كنز مخبوء ويقودنا ذلك السر إلى سمة من سمات ذلك النوع من القصص وهو ذو أثر عربي واضح هي السعي وراء كنوز مرصودة؛ أي مخصصة لشخص بعينه مكتوب له هو وحده فك أسرار الكنز والعثور عليه.
بيد أن أهداف رحلات السعي ليست وحدها العثور على الكنوز المادية؛ فرحلة السعي التي يقوم بها الدكتور فريد عبد الله في قصة بهاء طاهر، هدفها الظاهري البحثُ عن واحة مجهولة في الجنوب الغربي من سيوة، وهي واحة لا يعرفها أحدٌ ولم يرصدها أيُّ مستكشف، وبذلك فهي تمثِّل الواحة التي سيجد فيها بطلُ القصة خلاصَه النفسي. ورغم ذلك فإن رحلة الدكتور فريد تتكشف عن العثور على معبد فرعوني ضخم لم يكن أحد يدري بوجوده، وهو أيضًا رمز لما كان ينشده البطل من رحلة سعيه.
فالدكتور فريد يخرج إلى الصحراء الواسعة المجهولة في رحلةِ سعيٍ بحثًا عن السلوى والنسيان؛ أي خلاصه الذاتي، بعد مأساة وقعَت له منذ سنوات، ويعرضها لنا المؤلف على نحوٍ غامض مقتضب، ويتفرق في ثنايا القصة، ونفهم منه أنه أحبَّ زميلةً له حين كان يدرس الطب في جامعة جرينوبل بفرنسا، وهي فرنسية تُدعَى مارتين، وأنهما تواعدَا على الزواج، وبعد تخرُّجهما، تقوم مارتين بزيارة فريد في مصر لتتعرف على أسرته وتتعرَّف أسرتُه عليها، ثم تعود إلى فرنسا بعد أن يكون الحبيبان قد أصبحَا «شبه مخطوبَين»، ونفهم من سياق القصة أن مارتين قد تعرَّضت بعد ذلك لمرض أو محنة لا ندري كنهها، ألزمَتها دخول مصحة للأمراض العقلية؛ حيث دأب فريد على زيارتها كل عام. وما تذكره القصة عن بداية ما حدث هو ما يلي: "وفي أبريل 1925، سافرت مارتين إلى مرسيليا شبه مخطوبة لفريد. صحبها فريد إلى الإسكندرية، ولوحَت له بمنديل أبيض من فوق الباخرة. وكان حول رقبتها إيشارب وردي يُرفرف أيضًا في الهواء، وكانت تلك هي النهاية. رغم ذلك، ظل الدكتور فريد يسافر كل سنة إلى فرنسا شهرًا على الأقل لكي يرى مارتين. رفض أن يسمع أيَّ حديث عن زواج آخر" ثم تَصِف القصة زياراتِ البطل لمارتين في المصحة، ولمحات لبداية إصابتها بالمرض العقلي، دون ذكر تفاصيل أكثر تحديدًا لما حدث لها وأدى بها إلى ذلك الوضع، ثم تركز القصة على حالة الدكتور فريد النفسية، وخطته في السفر إلى قلب الصحراء الواسعة إلى المجهول، حيث لم يذهب أحد قبله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة