رفع على شريف باشا، رئيس مجلس شورى القوانين، استقالته إلى الخديو عباس الثانى فى 23 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1894، وجعل سببها المرض والتقدم فى السن، وفى اليوم التالى انتدب السردار طبيبين إنجليزين ليكشفا عليه، فأقرا بإصابته بمرض شديد فى القلب، وضعف فى الجسم، حسبما يذكر محمود كامل المحامى فى كتابه «أشهر القضايا المصرية».
لم يكن مرض «شريف باشا» السبب الجوهرى لاستقالته، وإنما كان السبب هو اتهامه فى قضية «الاتجار فى الرقيق» التى شغلت الرأى العام وقتئذ، وتابعها الخديو عباس فى أوروبا أثناء إجازته التى بدأها فى 16 يوليو 1894، وكان نوبار باشا رئيس الحكومة يوافيه ببرقيات حول آخر تطوراتها، وفقا لأحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديو فى الجزء الثانى من مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن».
بدأت وقائع القضية فى أوائل أغسطس 1894، ويذكر محمود كامل المحامى: «أقبلت قافلة من الجنوب برئاسة شخص من النخاسين يدعى محمد شغلوب عن طريق واحة سيوة، ونزلت فى «عزبة نصار»، ومعها ست جوارى سودانيات لبيعهن لبعض سراة مصر وأغنيائها، وفى 8 أغسطس هبط أحد أفراد القافلة إلى القاهرة وتقابل مع وسيط وعرض فكرة بيع الجوارى، فذهب به هذا الوسيط إلى بستانى على باشا شريف رئيس مجلس الشورى الذى وعده بعرض الأمر على سيده، ثم عاد وأخبرهما باستعداد الباشا لشراء الجوارى بعد رؤيتهن».
رأى شريف باشا الجوارى واختار ثلاثا هن، حليمة، وسعيدة وقراشينة، ودفع ثلاثين جنيها ثمنا لهن، وأخذ إيصالا بالمبلغ، وبعد ذلك توجه النخاسون إلى منزل الدكتور عبدالحميد بك شافعى، وعرضوا عليه الثلاث الباقيات، فاختار واحدة ثم أرسل الثانية إلى محمد بك الشواربى عميد أسرة الشواربى، وأرسل الثالثة إلى منزل حسين باشا واصف مدير أسيوط.
وقعت هذه الأحداث بعد 28 عاما من إلغاء الخديو إسماعيل للرقيق فى مصرعام 1866، ويذكر سعد رضوان فى دراسته «عهد جويدان» المنشورة فى «مذكرات الأميرة جويدان زوجة الخديو عباس الثانى»، الصادرة عن «كتاب الهلال، 1977»: «رغم أن الخديو إسماعيل ألغى الرقيق فى مصر عام 1866، إلا أن الأسر المصرية فى ذلك الحين بما فيهم أسرة الخديو كانوا يحتفظون ببعض الجوارى ويشتروهن ويستخدموهن فى قصورهم، ولهذا لم يكن غريبا أن يحضر تاجر الرقيق ببضاعته، ويعرضها للبيع دون خوف كبير».
يذكر محمود كامل المحامى، أنه فى 14 أغسطس 1894 ذاع الخبر فكلف «شيفر بك» رئيس مصلحة الرقيق ضابطها المقيم فى الأهرام بضبط النخاسين، فانتقل فورا وضبط أربعة منهم ولم يتمكن من ضبط الخامس، ثم توجه البكباشى محمد أفندى ماهر إلى منزل الدكتور عبدالحميد بك الشافعى، وسأله، فاعترف بأنه اشترى جارية وأرسل اثنتين إلى الشواربى باشا وواصف باشا.
اتسع نطاق التحقيق فى القضية وتولاه «شيفر بك»، ويذكر شفيق باشا أنه تم اعتقال على باشا شريف، وهرب الشواربى باشا إلى قليوب، وأثناء ذلك ادعى على باشا شريف بأنه من رعايا دولة إيطاليا، وتدخل قنصل إيطاليا لإطلاق سراحه إلى أن يتلقى تعليمات حكومته.
اجتمعت الحكومة برئاسة نوبار باشا لمناقشة الموضوع، وأمرت بتشكيل لجنة قضائية للبحث فى: هل شراء الرقيق يعاقب عليه؟ أم أن العقاب يقتصر فقط على الإتجار وبيعه؟ وأفتت اللجنة بأن الشارى لا عقاب عليه، ولكن سلطات مصلحة الرقيق أصرت على وجوب محاكمة المتهمين مهما كانت مراكزهم، فأحيل الجميع إلى المحاكمة أمام المجلس العسكرى يوم 4 سبتمبر 1894.
يذكر شفيق باشا، أن المتهمين هم، محمد شعلوف، وعبدالله سعد، وحمدان مشكان، ووهدان أبوزيد، وعبدالرحمن نصار، ومحمد رحيم البطران، ومحمد باشا الشواربى، وحسين باشا، واصف والدكتور عبدالحميد الشافعى، ولم يحضر على شريف باشا لعدم وصول رد إيطاليا بخصوص انتمائه إليها، وأخيرا صدر الحكم فى 14 سبتمبر 1894، ويقضى بحبس المتهمين بين السنة ونصف السنة والخمسة أشهر، وصادق السردار على هذه الأحكام لكنه لم يصادق على الحكم ببراءة محمد الشواربى باشا وحسين واصف باشا لعدم توافر أدلة براءتهما، أما بخصوص على شريف باشا فلم تثبت رعويته لإيطاليا، وتقرر محاكمته لكنه تقدم باستقالته من رئاسة مجلس الشورى، وأعفاه المجلس العسكرى نظرا لحالته الصحية.
فى 28 سبتمبر 1894 أمر الخديو عباس الثانى بمعافاته، ويذكر شفيق باشا، أن الخديو اكتفى بأخذ إقرار منه نصه : «أقر أنى اشتريت ثلاث سودانيات للخدمة بدائرتنا، وبقين بالدائرة لحد يوم تسليمهن للحكومة، واعترف بأنى مذنب فى هذا الفعل لعلمى أن هذا غير جائز ولكن حصل ذلك بنوع من الإهمال، والآن قد ندمت وتأسفت على حصول ذلك، وعليه أطلب العفو والسماح من لدن ولى الأمر»، وصدر الأمر العالى بالعفو عنه وصدر الأمر باثبات تبرئة محمد الشواربى باشا وحسين واصف باشا، وفى 27 أكتوبر صدر الأمر بالعفو عن الدكتور عبدالحميد الشافعى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة