-١-
من الشعراء من يثير سؤال ماذا كتب؟ ومنهم من يثير سؤالا كيف كتب؟ وأشعرهم من يثير السؤال الأصعب ماذا؟وكيف؟
ومن حسن حظ قارئ هذا الديوان أنه جمع الحسنيين
ما كتب وكيف كتب!!
عنوان أى عمل أدبى هو كائن حى يسكن أعماق كاتبه وفى لحظة الميلاد يطفو على سطح روحه منارة تدل عليه، يراه المسافرون من كل اتجاه وسط أمواجه العاتية. وغالبًا ما يكون العنوان هو
ما بدأ منه الكاتب وما
انتهى اليه؟!
(ذاكرة منسية)
يعلن الكاتب أنه لا مكان له فى واقعه، وأن كل ما امتلكه قد اكتنزه داخله بعيدا فى ذاكرة، ربما اعتبر ذلك انسحابا ولكنه انسحاب العارف بجوهره وبسطوة واقع لا يرحم، ويقر أيضا بالحقيقة الصادمة. إنها منسية ولا يكترث بها أحد
فى المفتتح يحدد لنا الشاعر هويته (سأسرى نحو همس النور/لا ليل سيؤنسنى ) وهى مفارقة تحدد لنا رؤيته لذاته والعالم؛ فالباحث عن الحقيقة لابد له أن يكون وحيدا بعيدا عن ضجيج العالم.
والحقيقة /الحلم دائما هامسة خافته لا تدركها سوى بصيرة نافذة، ومنذ البدء أعلن غربته وانفصاله عن عالمه وواقعه. فعلى الرغم من أنه سيسرى والإسراء لا يكون إلا ليلا فإن هذا الليل لا يؤنسه ولا يواسيه.
ولا يترك للقارئ مساحة لتخيل ما حدث له فهو يقرر ببساطة أنه متعب، مرهق، محطم،ومحكوم على رحلته بالعدم :
(تعبت من انتظار الياسمين لشرفة الفرح المطل على فضاء /ليس لى/فأنا الرحيل)
فحتى لو وجد عالمه المضيء فلن يجده عالمه؛ لأنه رحيل دائم إلى ما سوف تمنحه رؤاه، وأن كل ما يمكنه امتلاكه أن يهب الحياة والفرح لأرض خراب
-٢-
دائما هناك صراع بين عالمين رئسيين:
-(الأنا)
التى تدرك جوهرها ومصيرها وفى نفس الوقت فهى وإن اعترفت بسطوة الواقع وقسوته، فهى تؤكد قدرتها على اكتناز لآلئها داخلها كينابيع حلم لا تنضب.
ودائما تملك الأنا طريقا سريا لا يدركه الواقع، تعبره بسلام الى كنزها المخبوء
-الواقع المحيط القاسي الذى ينتصر ظاهريا بانسحاب الأنا الى داخلها الثرى بالرؤي
ويبدو كل منهما مترقبا للآخر، مستعدا له بكل ما يملك من قوة وعتاد ، فكأننا نتأهل لصراع قاس لا يرحم.
وقد جرت عادة الشعراء أن يكون الانكسار والانسحاب خاتمة القصيدة أو في ذروة الصراع الدرامي بها، وأن يكون نتيجة قاسية لحلم ضاع وتبدد.
ولكننا هنا نجد الانسحاب هو ما يبدأ به الشاعر قصيدته وبعدها يأتى تصميمه على الدفاع عن مملكة الروح وإنقاذ جوهرها الثمين، وهو ما يجعل هذا الانسحاب هزيمة ظاهرية تنطوي على إعلان لميلاد جديد وتعرية لواقع يضيق به وهذا ما يجعل هذا الانسحاب الظاهرى فى حقيقته هجاء وسخرية من واقع لا يليق بالشاعر ولا يستحقه !!
وهذا ما يحقق جوهر الوجود الإنسانى على الارض الخراب. فإذا كانت قسوة الواقع أمرا لا مفر منه، وإذا كانت الحياة تضيق بالحالمين. فهذا أمر لا فكاك منه.
وإذا كان الإنسان أثمن ما فى الكون فهذا أيضا أمر لا شك فيه وهنا يكون رد فعل الإنسان على قسوة واقعه هو، وهو فقط ما يحدد قيمته على الارض الخراب وما يحقق التناغم بين ما نراه تناقضا
وهكذا يكون انهزام الشاعر سرابا وخدعة، وانتصاره خالدا لأنه امتلك ما لا يفنى وهو عالم الرؤى والأحلام
وببساطة كان الاعلان المستمر فى بداية القصائد عن الانسحاب من العالم غنائية وتمجيدا للمعنى الحقيقى للوجود الانسانى فى بحر رمال عظيم اسمه الحياة !!
ففى أولى القصائد افتتح لنا الشاعر عالمه بتأكيد ماهية الشعر والقصيدة وكأنها جزء أصيل من ؛؛تعريفه لهويته
فيقول فى قصيدة (من وراء القصد)
(ستمضى نحو غايتها القصيدة /وتستعلى على السأم الجموح وكأن الشعر أيضا مقاومة لعالم فان وتعال على عدم لن يكون.
وفى معظم قصائد الديوان تبدو هذه الثنائية شديدة الوضوح بين الأنا والعالم
ففى قصيدة ( هوية الخطى) إقرار واضح بالانسحاب من العالم، ولكن هذا لا يمحو هويته
(اغادر والحروف على شفاهى /وأمسح صامتا دمع الحكايا)
ويختتم قصيدته مؤكدا أنه ( خطاى أنا/وأسئلتى الرؤي)
فالخطى- وإن لم يحدد الشاعر إلى أين- كافية لتكون كينونته، والأسئلة- وإن لم يحدد ماهيتها كافية لأن تكون رؤاه وهذا إقرار بأن الأنا هى الاختيار وإدراك هذا الاختيار وكفى !!
وفى قصيدة (لا غير انت) يقرر الأمر ذاته ثانية
( ها أنت تفترش العراء/تئن/فى المدن الخواء /بلا ضجيج )فهو إدراك قسوة الواقع والانسحاب منه بهدوء بلا ضجيج ولكن هذا لا يكون أبدا خاتمة القصة فهو يؤكد وجود قوة ما متعالية عن الواقع تمنحه الرؤي والبصيرة (من لي ولك /من أمهلك/حتى تعيد كتابة التاريخ /فوق خرائط الوطن القديم ) فهو الإيمان التام بقدرته على التغيير وأنه ( صوت قديم /ما زال يرفض أن يموت )
وعلى الرغم من حصار العدم حوله (فما من جديد /كل الوجوه تجهمت /كل الدروب تشابهت ) وما (من هلال/كى يمد اليك حبلا من ضياء/تبتغىً فيه الصعود /إلى مدارات الوجود )
وعلى الرغم أيضا من انشطاره (وسط ازمته التشظى والدمار)
و(انطفاء الروح فى جسد الغياب) يصرخ عاليا فى ختام القصيدة
(لا غير أنت ومن تكون ؟)
فهو يؤكد أن إدراكه لذاته هو المصير وإن كان لا يزال متسائلا عن ماهية تلك الذات؟؟؟وكأنه لن يصل أبدا إلى شاطئ!!
وفى قصيدةً(لمن تقول) تتسع الذات لقلب نبى يبحث عن المعنى فى القطيع البشرى الذى ساقته الحياة الى العدم ولا تكف الأنا عن إدراك المأساة ولا عن الحلم المضيء
(وما زلت تبحث فى وجوه العابرين /عن الرؤى/تستنطق الليل الرمادى الملول لكى يقول)
وفى تحديد مؤلم حاد شديد القسوة لمأساة الإنسان على الأرض الخراب يطلق صرخته القاتلة متسائلا عن معنى الوجود وعن مصير الإله الحى الساكن فى أعماق كل إنسان، عن نفخة الله فينا
يقول فى قصيدته الخلود (من أين يتبعك الخلود /وانت سار فى تفاصيل المدينة بين بين /نهر تفيض بك المتاهة /كلما شارفت معنى الضفتين ) فهذا الانغماس فى تفاصيل العالم أهدر الروح، وأراق النفحة الإلهية، وأضاع النهر، وأسلم الإنسان لمتاهة لا نهائية العدم و الضياع !!
-٣-
تنوعت قصائد الديوان ما بين العمودي والتفعيلة، ومن أبرز جمالياته الفنية أسلوب تكوين الصورة.
فالخيال يتوالد بعضه من بعض بانسيابية وسهولة، وتتشابك الصور فى لوحة موزاييك جميلة يؤدى كل عنصر دوره تماما
وقد اعتمد الشاعر على استخدام الجمل القصيرة، ولا تحمل القصائد تفاصيل بصرية كثيرة قد تسهم فى عملية تشكيل الصورة وتجعلها أسهل لأن عناصر تشكيل الصورة أكثر وفرة. فكيف استطاع الشاعر خلق هذا المجاز الكثيف وتشكيله؟
اللغة هى كلمة السر فهى لغة ثرية تعتمد أساسا على قوة اللفظة وطاقتها التعبيرية.
وقد أظهر الشاعر فى ذلك تمكنا كبيرا، وربما لم يوظف تقنيات الحداثة الشعرية كاستخدام اللغة الدارجة ولا القصيدة البصرية المعتمدة على الوصف بما فيه من حركة ولون وصوت، ولكن تمكنه من أدوات قصيدته وتوظيف اللغة والثراء المجازى جعل من كل قصيدة وحدة شديدة التماسك، وقنبلة شديدة الانفجار داخل روح كل قارئ وقلبه وعقله.
ففى قصيدة (لا غير أنت ) مثلا يقول:
(ما من ذهاب أو إياب /ما من مسير/غير أحزان تسافر عبر أودية الضباب/من الصقيع إلى السراب)
وإذا تأملنا هذه الصور المتلاحقة فى عدد قليل من الكلمات نجد أن الطاقة التعبيرية فى الألفاظ هى ما كونت هذة اللوحة التعبيرية الممتلئة بالحركة والألوان والمشاعر،
فكلمة (الوادى ) وهو أرض منخفضة تمتاز بالخصوبة حين يأتى وراءها كلمة ضباب بما فيها من حيرة وتشتت يكون المعنى قد اكتمل؛ فالحزن الذى سافر فى الوادى حالما بالحياة والخصوبة يصدمه الضباب ويبدد أمانيه !!
وكذلك توظيف كلمة الصقيع، وهو الذى يتكون فى الهواء الساكن ويتراكم على الأسطح وتحمل كلمة الصقيع معانى موحية بالخديعة والصدمة فمع ريح ساكن يقتل الصقيع كل شيء، وفجأة وبلا مقدمات ينتقل من صدمة الصقيع إلى صدمة السراب، وهى كلمة تحمل أيضا صدمة مؤلمة لمن يحملون الأمل. فالسراب هو وهم الوصول للنبع /الحلم /الحقيقة المشتهاة عبر الدروب !!
وهكذا يتضح على سبيل المثال أن الاستخدام الواعى للغة والإلمام بأسرارها هو العامل الاساسي فى تكوين الصورة الشعرية بهذا الزخم المزاجى بجمل قصيدة وعدد محدود من الكلمات !!
وفى الختام نحن أمام عمل أدبى؛ أجمل ما فيه أنه كائن حى يحدد جمالياته من داخله ولا يلتفت فى تذوقه بالانحياز إلى مدرسة ادبية محددة لأن انتسابه الأساسى كان إلى جوهر الفن الخالد، وهو الإحساس الذى يحوى داخله الوعى.
الشاعر حسام وهبان
الغلاف
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة