سعيد الشحات يقدم مقالا نادرا لـ بيرم التونسى عن سيد درويش.. الشاعر يكشف أسرار علاقته بموسيقار الشعب من اتهامه بالسرقة إلى الاعتراف بعبقريته.. ويوضح كيف انتقم منه فى تلحين كلماته "أنا المصرى كريم العنصرين"

الإثنين، 11 سبتمبر 2023 03:30 م
سعيد الشحات يقدم مقالا نادرا لـ بيرم التونسى عن سيد درويش.. الشاعر يكشف أسرار علاقته بموسيقار الشعب من اتهامه بالسرقة إلى الاعتراف بعبقريته..  ويوضح كيف انتقم منه فى تلحين كلماته "أنا المصرى كريم العنصرين" اليوم السابع العدد الورقى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وكيف حول أبو الموسيقى الحديثة نشيد البردة فى جنازة الميت إلى لحن لزفاف "كشكش بك"

بحثت عنه فى تونس

طاف الشاعر بيرم التونسى على تجار الفونوغراف بشوارع تونس، يسألهم عن أعمال الشيخ سيد درويش، فلم يجدها، وتعجب من عدم رواجها، ففهم أن الشيخ الدرويش عند الجماهير مغن كبقية المغنيين، وأدواره كسائر الأدوار يتلهى بها الناس برهة من الزمن ثم ينسوها إذا ظهر غيرها من الأغانى والألحان.

 حين فوجئ بيرم بهذه الحالة قرر أن يعيد تقديم سيد درويش للتونسيين، وهو الذى ربطته به علاقة عمل وصداقة، فكتب مقالا طويلا عنه بعنوان "سيد درويش" نشره بمجلة "لزمان" الأسبوعية بتاريخ 2 مايو1933، ونشر نصه الدكتور محمد صالح الجابرى فى الجزء الثانى من مجلده "محمود بيرم التونسى فى المنفى آثاره وأعماله".
 
كان بيرم وقتئذ فى تونس يواصل سنوات تشرده بنفيه عن مصر بقرار من الملك فؤاد فى 25 أغسطس 1920، وعاش سنوات منفاه فى فرنسا، يتخللها فترات فى تونس، حتى عاد إلى مصر متسللا بعد نحو 18 عاما، ويذكر "الجابرى" أن بيرم التونسى فى تونس أشرف وأصدر وساهم فى تحرير أكثر من صحيفة ومجلة، وهى على التوالى صحف «"لزمان" و"السرور" و"الشباب" و"السردوك" و"القلم الحر" و"مجلة الجامعة".
 
يذكر بيرم فى مذكراته "المذكرات" الصادرة عن "أخبار اليوم عام 2015": "تركت فرنسا إلى تونس، حيث استطعت إنشاء جريدة أسبوعية اسمها "الزمان"، وجدت رواجا عظيما فى شمال أفريقيا، وصارت ملتقى أقلام الأحرار بها لا سيما أحرار الجزائر، الذين كانوا يقاومون سياسة التجنيس الفرنسية التى كانت تتبعها فرنسا حينئذ فى الجزائر".
 
 

 هاجمته ورحب بي

يقدم بيرم فى مقاله "سيد درويش" وجبة معرفية ثرية عن سيد درويش باعتباره فنانا استثنائيا كون معه ثنائيا نادرا فى تاريخ الفن العربى، ويبدأ مقاله بقوله:

 "ولدت أنا وهو فى عام واحد وهو عام 1893، وفى مدينة واحدة هى الإسكندرية، وفى حى واحد من هذه المدينة هو حى "المزار"، ولم يعرف كلانا الآخر إلا سنة 1921 فى مدينة القاهرة، إذ كان الشيخ سيد منهمكا فى تأسيس جوقته الخاصة بعد أن نفض يديه من التلحين للأجواق الأخرى، وهو فى حاجة شديدة إلى "زجال" يقدم له أزجال رواية الافتتاح، فى تلك الأيام كان جوقة الريحانى "كشكش بك" فى عنفوان شبابها، وكانت تستمد قوتها من ألحان الشيخ سيد، إلا أن نوع التمثيل الذى كانت تقوم به هذه الفرقة كان وبالا على الأخلاق، بما يحويه من دعارة وفجور، وكانت عشرات الألوف من الجنيهات تتدفق إلى جيب الريحانى نظير عمل يهرج لا يكلفه مجهودا يذكر، فضلا عما يبثه فى الشبيبة من روح النزق والتهتك".
 
يضيف بيرم: "كنت إذ ذاك أحرر جريدة "الشباب" الأسبوعية، وجعلت نصب عينى محاربة هذا الجوق وأمثاله بالحق والباطل، وكان الشيخ سيد يقرأ تلك الصحيفة، فيرى أن الحملة موجهة إليه قبل غيره، ويقرأ أنه متهم بسرقة الألحان التى يقدمها لجوق الريحانى، وكيف سرقها".
 وفيما كان بيرم يواصل هجومه، حدثت المفاجأة، ويكشفها قائلا: "كانت الحملة مستمرة على الشيخ سيد شهورا طويلة، ولكن تأبى الظروف إلى أن تجمعنى به فى ليلة، جلس كلانا بجانب الآخر وهو لا يعرفه، ولاحظ أحد الجالسين وجودنا، فقام ووضع يديه على كتفينا وبحسن نية قدمنا لبعض، وما كنت أنتظر بعد هذا الشر العظيم والعواصف التى أثرتها عليه فى الجريدة، أن يقوم لى مبتسما فرحا كأنما انفتح أمامه كنز، ولم يكن فرحه متكلفا، ولا بشاشته جبنا، فقد كان يتمتع بكل ضروب القوى، قوة بدنية هائلة، وقوة فنية لم يرزق غيره مثلها، وقوة مالية قلما تنفق لموسيقى فى الشرق، وقوة عصبية يستمدها من مئات الألوف من الأنصار المعجبين والأحباب المخلصين، ولكن الناظر للسيد درويش يدرك على الفور أن هذه القوى لا تساوى عنده جناح بعوضة، فقد كان يترك بدنه لجميع أنواع المهلكات، أو ينفق ما فى جيبه عن آخر درهم، ولا يهتم بمعرفة غنى أو وجيه".
 
 

3 أيام بلا طعام ولا شراب

  يعترف بيرم: "فى تلك الليلة لم أفارقه إلا فى ظهر اليوم الثانى لنتقابل بعد ساعتين من هذا الفراق، ولله طبائع الإسكندريين وشمائلهم وأخلاقهم، فيهم الشراسة مع الاعتراف بالحق، وفيهم القوة والبطش مع التواضع والإغضاء، لقد كان معظم حديث السيد عما لاقه من المحن والبؤس، قال لى من أول الحديث ولم يمض على تعارفنا ساعات: هل مكثت فى حياتك ثلاثة أيام على الأرض بلا طعام ولا شراب "وضحك ضحكة رزينة" وقال: والله فعلتها، وهل تعلم أننى كنت أغنى فى قهوة حقيرة على شاطئ وترعة المحمودية حتى يستمع لى بحارة المراكب القادمة من الصعيد، ورشيد، ودمياط، السهرة والقهوة والسماع كل هذا بعشرين فضة "خمسة وعشرين سنتيما". 

عصابة الشوام مع الريحاني

جاء الحديث عن اتهام بيرم للسيد بالسرقة، فرد سيد عليه قائلا: "هذا جوق الريحانى ولا أخالك تجهل أنه عبارة عن عصابة شوام، تجمع عشرات الألوف من الجنيهات من جيوب المصريين بأبسط الوسائل، ولا أخالك تجهل أن فى مدينتنا الإسكندرية طائفة من الأناشيد هى فى ذاتها ثروة فنية لو وضعت فى محلها، تسمع الفقهاء الذين يشيعون الجنازة ينشدون البردة أمام الميت من لحن "السيكة" أو "الصبا" بنغمة مفرحة لا تتفق مع هيبة الجنازة، وتعرف أن العوالم "وهن المنشدات فى حفلات الزفاف" يشيعن العروسين إلى حجرتهما بلحن يشم منه التهكم والتمسخر، أكثر من أن يسمع منه الفرح والابتهاج".

 
ويضيف بيرم: "ذكر لى الشيخ سيد أمثلة أخرى من هذه الأناشيد ثم قال: وهذه الذخيرة الطيبة التى علقت بالذاكرة ظلت محفوظة إلى أن جاء وقتها.. طلب الريحانى لحنا لزفاف "كشكش بك" وهو عائد من سفر أو غيبة، فلم أر أنسب من بردتنا التى ننشدها أمام الموتى وطبقناها على قولهم: "ألفين حمد الله على سلامتك/ ياسى كشكش هيص أدى وقتك"، وعلى هذا المثال كانت معظم البضاعة التى نقدمها للريحانى، وهو عمل يتفق عمله مع المصريين، على أن هذه الألحان حلت فى المحل اللائق بها وانتفع بها العباد".

الكون كله لحن عند سيد 

 وانتهى الشيخ سيد من توضيحه وتفنيده لاتهامات بيرم له بسرقة الألحان، ويعلق بيرم فى مقاله: "أتيحت لى الفرصة لدراسة هذا العبقرى الكبير، فقد كان الكون كله عند السيد لحنا يؤلفه بما فيه من ضجة، وهدير، وتغريد، وبكاء، وضحك، ووعد، وكانت أذنه دليله الخرتيت الذى يدله على حقائق الأمور وبواطنها، يستمع لكل صوت ويفسره أصدق تفسير، ويصغى لحديث محدثه ومن نبرات صوته يفهم مقصده وحالته، وما يخفيه، وما يعلنه، يسمع وسوسة الأساور فى معصم الحسناء، ويترجمها إلى لغة اللسان، ويسمع قطرة الماء فى الحوض فيبين عما فيها من بيان".

حول إنذار المحكمة لأغنية

 وينتقل بيرم إلى أول حب فى حياة الشيخ وتأثيره الفنى عليه، قائلا: "كان فؤاد الشيخ سيد مرتعا خصبا للحب، بل أتونا حارا للحب المخلوق لأجله كل فنان، ويروى حادثة الحب الأول فيقول: دعيت للغناء فى عرس وأنا بالملابس العربية، واعتليت التخت فإذا بى قريب من "بلكون" يجلس فيه بعض السيدات والأولاد، فخرق أذنى صوت امرأة يقول: دول ياختى جايبين لنا فقى الليلة ولا الداهية إيه؟ فما أتممت الدور الأول وكان: "يا اللى قوامك يعجبنى" حتى جاءنى طلب صريح بالمقابلة داخل الحريم، وكانت الداعية غانية أهلكت الكثيرين من العمد والتجار والموسورين فى مصر بما لها من جمال، ودهاء، وقوة جاذبة، وحادثة هذا الحب مشهورة".

 يضيف بيرم: "تزوج السيد خمس مرات، الواحدة بعد الأخرى، ومن فكاهاته التى تذكر أنه استلم إنذار حضور أمام المحكمة الشرعية من إحدى مطلقاته، والإنذار عادة يكتب على الصيغة الآتية: "نكلف المدعو سيد الدرويش الساكن بحى السيدة زينب بالحضور فى يوم- التاريخ- أمام المحكمة الشرعية الكائنة- المكان..إلخ»، وكان فى جماعة من أصحابه عند استلام هذا الإنذار، فكان أن قرأه لحنا مرتجلا يحفظه معظم أصدقائه إلى اليوم".

 بدر مكتمل

يذكر بيرم: "هذه بعض أوصاف هذا الفنان العظيم، صاحب النفس المرحة اللاعبة والذوق الرفيع، أما فنه وموسيقاه فلا نعرف أحدا تقدمه فيما ابتكر، ولم يظهر تدريجيا كغيره من أصحاب المواهب، وإنما سطع على الناس بدرا كاملا يبهر الأنظار، وكان أول إنتاجه الأدوار والتواشيح والطقاطيق كغيره من الملحنين، فلما احتاجت المسارح للموسيقى وجدت فى السيد منبعا فياضا أمدها بكل حاجتها، ولم تسجل له الأسطوانة من ألحانه المسرحية إلا القليل، كافتتاح رواية "العشرة الطيبة" المعروف بمطلعه: "على قد الليل ما يطول/ مسترضى بسهرى ونوحى".

 يذكر بيرم فى الجزء الأخير من مقاله تقييمه للشيخ سيد درويش كملحن "الشيخ سيد كملحن امتاز على المتقدمين بإرسال الكلام المنسجم، كما لا يردده ولا يقطعه بالآهات السخيفة، والحشو المرذول، وهو الملحن الشرقى الوحيد الذى يفرغ على الكلام ما يناسبه من التلحين، فإذا سمعت ألحانه موسيقى، مجردة من الكلام، أدركت ما فيها من طرب، وحزن، وثورة، وذل، وضحك، وتهكم، ويودع اللحن روح الشخص الذى يعبر اللحن عنه كما يسمع من لحن «الحشاشين» و«السقالين» و«المراكبة» وسائر ألحانه التى غناها الكبير والصغير فى الشرق العربى".

 تلاميذ سيد

يضيف بيرم: "وقد أصبحت الفئة القليلة التى يخصها الشيخ سيد بصداقته ويختارها لمجلسه، أصبحت وكل واحد منها لحن يشار إليه بالبنان اليوم، كالأساتذة زكريا أحمد ومحمد القصبجى، وإبراهيم فوزى وغيرهم، ومحمد عبدالوهاب يفتخر بأنه يقتفى أثر أستاذه الشيخ ويتتبع خطواته، ويعترف هو وأقرانه من الملحنين أنهم لا يزالون فى ساحل هذه المحيط العظيم، وقلت إننى كنت أمام رجل اتهمه بالسرقة وهو يقيم أدلته التى بررت عمله فى بساطة، ولكنه وقد انصرف عن الريحانى وغيره، وبدأ يلحن لنفسه، قد رأى نفسه فى ميدانه الذى يحلو له الركوض فيه، والذى يسمح له بإظهار قوته الجبارة".

انتقام سيد درويش

ويعطى بيرم مثلا بالقوة الموسيقية الجبارة للشيخ سيد قائلا: "كانت الرواية التى افتتح بها فرقته "شهر زاد" وكان على أن أنظم له خمسة عشر لحنا فى مواقفه المختلفة، ولا يتصور غيرى وغيره أننا اسكندريان لكل منا المشاكسة والعناد وما يخيف الآخر، ويجعله يحسب حساب صاحبه، وأشعر أن السيد رد على أبلغ رد فى ألحانه لهذه الراوية، بل أشعر أنه انتقم لنفسه أبلغ انتقام وأدب من اتهمه أحسن تأديب بدون أن يحتاج إلى جريدة وقلم، ويعلم الله أن الوقت الذى قضيته فى العمل معه كان عبارة عن جِلاد ونزال، فلم أقدم له من الأوزان إلا كل غريب مستعصى لم يركب عليه لحن من قبل، وكنت أنظم اللحن الواحد فى عدة أيام، بينما الزجل العادى لايكلفنى إلا ساعات قليلة وكان هو من جهته يقابلنى بالمثل، فلا يرضى من اللحن إلا بعد أن يستعد له فى أسعد ساعات صفائه، ويعود عليه بالتنقيح والتغيير، ثم يعلنه ويسجله بالنوتة".

 تجربة "شهرزاد 

 يؤكد بيرم: "كانت روايته "شهر زاد" مثلا بديعا للموسيقى الكلاسيكية التى لم تطرق الأذن الشرقية، ولذلك لم تلتقطها أسماع العامة فى الشوارع وتغنيها كغيرها من الألحان الخفيفة الشائعة، إلا أنها تغنى فى الحفلات الراقية بواسطة الهواة الذين يجيدونها، فمنها اللحن الوطنى الذى ينشده جندى مصرى أمام الملكة حين سألته من أى بلاد هو؟: "أنا مصرى كريم العنصرين/ بنيت المجد بنيت الأهرامين/ جدودى أنشأوا العلم العجيب/ ومجرى النيل فى الوادى الخصيب/ لهم فى الدنيا آلاف السنين/ ويفنى الكون وهم موجودين/ وأقول لك عللى خلانى / أفوت أهلى وأوطانى / حبيب أوهبت له روحى / لغيره لا أميل تاني".

ويكشف بيرم : فى هذه الرواية "شهر زاد" لحن وقف يعالجه مدة طويلة حتى سلسل له، واستطاع نقله إلى عالم النغمات، وهو زفاف الجندى إلى حبيبته فى حلفة كبرى وقد ضاق المرحوم "الشيخ سيد" به ذرعا، وثبت لديه أننى أتعمد معاكسته، ولكنه كان أشد مراسا وأقوى شكيمة، وكنت أعتقد أننى قدمت له من هذا اللحن قطعة من الفولاذ المسبوك ولكنه نفخ عليها فإذا بها قد طارت شعاعا إلى عليين.
 
تغنى المجموعة: زفوا العروسة للعريس الجميل/ زينة العرسان/ البدر يتمتختر وجنبه تميل/ وردة البستان 
 ترد إحدى الجوارى: يارب تجعل فى ليالى السعود/ طالع النجمين/ واجعل سهامك فى عيونك الحسود/ واحرس الاثنين.
 العريس للعروسة: الليلة اتهنى وأشوف فى المنام/ صدك الهزاز/ وافرح واسقينى كاسات المدام/ خدك الغماز 
 ترد العروسة: أنت ظهر نجم سعودك/ وانا الزمان عوض صبرى/ الليلة حلوة بوجودك/ ما تنتكبشى من عمرى.
 
 
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة