حازم حسين

طاقية بديع ومهزلة رابعة.. عندما أراد الإخوان شعبًا مقهورًا أو بلدًا برأسين

الأحد، 13 أغسطس 2023 03:24 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التاريخ لا يُعيد نفسه وإن تشابهت الأحداث، حسب مارك توين. لكن ماركس يرى أن ذلك لو حدث فإنه يكون تراجيديًا فى الأصل وملهاةً فى التكرار. فى حكاية الإخوان الطويلة سبقت عشرات الوقائع البائسة؛ وكانت دراما الجماعة بعد 2011 تكرارًا سخيفًا لتناقضات تلبّستها على امتداد عمرها، أما تجمُّع رابعة، الذى تحل ذكرى فضّه هذه الأيام، فكان «ذُروة المسخرة». تنبع المُفارقة من أنهم كانوا دائمًا على الجانب المُعادى للإرادة الشعبية، عندما غازلوا القصر قبل يوليو 1952، أو عندما حلّوا فى السلطة منتصف 2012 وظلُّوا على عادتهم فى اختصام الشارع بأدواته. المُعتاد أن التظاهر كان فُسحةَ الجمهور ومنصَّته للتواصل مع الحُكم؛ لكن حسن البنا ومَن خلفوه تنظيميًّا حوّلوه إلى أداة تسلُّط، وإلى سياجٍ معنوى ومادى للإخضاع وخنق التفاعلات الاجتماعية.. باختصار؛ عبَّر اعتصامهم المشبوه، بالتزامن مع ثورة 30 يونيو، عن انحياز قديمٍ، وراسخ، لتوظيف الحشد وكُتلة الأجساد فى إنتاج رسائل مزدوجة: إلى السلطة؛ نحن هنا وقادرون على إسنادكم فبادروا إلينا لئلا ندعم الخصوم، وإلى الشارع؛ إننا الأقوى فاصمتوا وابقوا على الحياد حتى لا نسحقكم.. انكشاف الآلية كان واضحًا فى 2013، عندما أصبحوا هم أنفسهم السُّلطة؛ فتحوّل الغزل القديم إلى بلطجة، وعندما لم يعد الشارع مُحايدًا؛ فتطوَّر التلويح بالقوة إلى إرهاب صريح.
 
كان حزب الوفد بعد ثورة 1919 ودستور 1923 كفّةَ الناس الوازنة أمام العرش. وجاء الإخوان مُتأخّرين لكنهم سعوا للحضور فى المعادلة؛ ولمّا عجزوا عن اختراق البيئة الوفدية وتطويعها، أو عن منافستها على أصوات الناخبين؛ اختاروا المناورة والتقلُّب بين الشارع والملك. جاهر حسن البنا بعدائه العميق للأحزاب وائتلافاتها، ودعا لحلِّها، وفى المقابل بايع «فؤاد» وابنه من بعده على الخلافة، وعندما هتفت تظاهرات فى 1937 «الشعب مع الوفد»، سيّر مُؤسِّس الجماعة عناصره هاتفين «الله مع الملك»، وكتب مُغازلاً فاروق بأنه «حامى القرآن»، وطبع صورته على أغلفة صحائفه وذهب بالهدايا لقصر عابدين. فى الساحة نفسها، احتشدت عناصرهم بعد 17 سنة؛ لمؤازرة اللواء نجيب ضد بقيّة مجلس قيادة الثورة، وصعد عبد القادر عودة إلى الشُّرفة خطيبًا بعدما كان يُلوّح بقميص يُخضّبه الدم فى سيارته الجيب.. كان التظاهر انشقاقًا خشنًا عن الحالة الشعبية، بعيدًا من اختلافنا فى تقييم أسبابها حسب سياقات التاريخ، وكذلك كان تجمُّعهم على مفترق طرق فى مدينة نصر خروجًا من الشارع إلى حاضنة السلطة؛ ولأنهم كانوا فى الحُكم؛ فقد كان الخروج تلك المرّة إعلانًا للحرب على الجمهور العريض؛ لأنه ما من سبيل لإخضاعهم بالخطابية السياسية أو الاتجار العقائدى، كما أن الجماعة لا تتقبُّل إجهاض حُلم التمكين ومغادرة القصر إلى المجهول.
 
كان غرض «اعتصام رابعة» الإيحاء بانقسام المجتمع عموديًّا وأفقيًّا، ولا تتحقّق الرسالة من دون مقدرة إنفاذها؛ ولو تطلَّب الأمر أقصى درجات الخشونة؛ لذا كان الاستعداء والاستقواء وحشد السلاح وإرساء حالة ميليشياتية أدوات حاضرة منذ أول لحظة. عندما تفتّق ذهن الشباب والمعارضين عن تنظيم الصراع فى مسارات سلمية عبر «تمرّد» واستماراتها، ردَّ الأصوليّون بمُقابلة خفيفة ومُضحكة أسموها «تجرّد»، وغلّفوها بتهديداتٍ تطوَّرت للاعتداء على مُتطوّعى الحركة ومقرّاتها. وعندما طُرحت الدعوة لتظاهرات 30 يونيو استبقها الإخوان بالاحتشاد فى رابعة، ومقابل الرسائل السلمية الداعية لانتخابات مُبكّرة أو إطاحة «مرسى» لانتهاكه الدستور وخروجه على التعاقد السياسى والوطنى مع ناخبيه، توّعد طارق الزمر: «سنسحقهم»، وتبجّح صفوت حجازى بأن «اللى يرشّ مرسى بالميّه هنرُشّه بالدم». استندت التظاهرات المدنية لمنطق أن الرئيس الذى جاء بـ13 مليون صوت يُمكن أن يرحل بجبهة رفض أوسع، وتحقَّق ذلك بما يفوق 22 مليون استمارة وجموعٍ أكثر منها فى الميادين؛ لكن الجماعة لم تنجح فى جمع بطاقات تأييد، وحشدت فى اعتصامها أقل من نصف فى المائة من أصوات الصناديق.. كان المشهد كاشفًا عن تبخُّر الشعبية واحتراق القبول؛ إنما غرض «رابعة» لم يكن رسائل السياسة أو منافسات الحشد؛ بقدر ما كان تحضيرًا لنقل حالة الانقسام من المجتمع لدولاب الدولة.
 
معنى ما فات يتضح بالنظر إلى مُمارسات التنظيم قبل «رابعة» وفى أروقته. ازدحمت أجندة مرسى ومُعاونيه منذ دخول الاتحادية بلقاءات تُثير الشبهة، وبعد كلٍّ منها كان يتَّخذ موقفًا ينزع للتسلُّط وابتلاع الدولة خارج الدستور. شملت هيلارى كلينتون، ومساعدها وقتها وليام بيرنز، وكاترين أشتون، فضلاً عن قادة ومبعوثين يحملون مُخطّطات إقليمية صريحة فى عدائها لأمن مصر القومى. تبع ذلك مُحاولة إعادة مجلس الشعب المُنحلّ، ثم طبخ دستور مشبوه، وإطلاق إعلان دستورى غير شرعى، وإطاحة النائب العام وتحصين قرارات الرئيس، وترافقت معه مساعٍ لبناء قوة ردع مُسلَّحة أقرب إلى «الحرس الثورى» كمُقدِّمة لجيشٍ مُوازٍ. تعدَّدت لقاءات السفيرة الأمريكية آن باترسون بقادة الجماعة فى السفارة أو مكتب الإرشاد ومقرّ الشاطر بمدينة نصر. وبعد 30 يونيو انتقلت بعض الجولات إلى رابعة، ومنها زيارة مُمثّلة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى، وأعلن الإخوان عن برلمانٍ داخل الاعتصام، وكانوا بصدد تشكيل حكومة. ما كان واضحًا أن التفاهمات السابقة واللاحقة أنتجت برنامج عمل غايته هضم الدولة؛ إمَّا بالأدوات القانونية من مقعد الحكم وسُلطة الرئيس، أو بمنازعة المُؤسَّسات الشرعية عبر اختراع بدائل وتصدير حالة البلد المُنقسم بحكومتين وبرلمانين، وربما جيشين أيضًا، وما إن يتحقَّق الاعتراف الخارجى بالرأس الثانية يذوب البلد وتتم الغاية.
 
فى الإصدار الأول، مارس الإخوان الدعوة والسياسة، وأطلقوا الصحف وأسَّسوا مطبعة وفرقةً مسرحية؛ لكن الوجه السلمى المُعلن لم يمنعهم من تدشين ميليشيات عنف/ النظام الخاص. حضر التناقض نفسه على طول تاريخهم؛ إذ رغم ادعاء الهضيبى تفكيك الجناح المُسلَّح ظلّ نشاطه قائمًا، وتكشَّف ذلك فى «تنظيم 65» مع سيد قطب وزينب الغزالى ومُرشد المستقبل مهدى عاكف، وفى تجريدة المطاوى والجنازير ضد طلاب اليسار بالجامعات، وتفريخ كوادر الفنية العسكرية والجماعة الإسلامية والجهاد وبقيّة تنظيمات الدم منذ السبعينيات، وتأهيلهم وتسليحهم، مرورًا بالسمسرة فى إرسال المُقاتلين للشيشان وأفغانستان. وتسرَّبت لاحقًا أدلة على وجود تنظيم باسم «95 إخوان»، فضلاً عن استعراض «ميليشيات الأزهر» عام 2006، وتحدَّث السياسى الراحل رفعت السعيد عن مجموعة نشطت لاحقًا اسمها «الأحرار».
 
فى ميدان التحرير أظهر شباب الإخوان شكلاً من التنظيم والخشونة البدنية يدلّ على طابع نظامى فى الحركة والتدريب، وتبيّن أن هناك بالفعل مجموعات يقودها أسامة ياسين، اتّخذت شكلاً أكثر تنظيمًا وعنفًا مع عضو مكتب الإرشاد محمد كمال، الذى قُتل فى مواجهة مع الشرطة 2016، بعدما طوّر «اللجان النوعية» ومنها جاءت حركات الإرهاب الصريحة: حسم، ولواء الثورة، والعقاب الثورى وغيرها. والخُلاصة، أن الإخوان الذين تسلَّلوا فى أربعينيات القرن الماضى بهيئة سلمية وظهيرٍ إجرامى، كانوا يلعبون اللعبة ذاتها طوال الوقت، قبل يناير 2011 وبعدها وحتى 30 يونيو، ولم يكن سلاح رابعة وكتائبه المُوثّقة بصريًّا إلا تصريحًا بالواقع، وتلويحًا بالبدائل الخشنة؛ بغرض تخويف الناس وردع المُؤسَّسات استباقيًّا.
 
كانت السلطة غاية الإخوان دائمًا، وتاريخ الأصولية وفقهاء السلطان قدوتهم، والتلوّن دستورهم والعنف سبيلهم و»أستاذية العالم» أسمى أمانيهم؛ لكنهم على سبيل التقيَّة رفعوا شعارًا مُغايرًا، كان ساذجًا ومكشوفًا فى تقابلاته: تاجروا بالقرآن لإحراج دُعاة الحياة الدستورية، وبزعامة الرسول لتقويض الزعامات الشعبية، ووضعوا الأُمميّة الدينية قبل الوطن.. كانت مُفردات الممارسة السياسية أداةً خاضعة لحسابات المصلحة: تظاهروا تقرُّبًا للسلطة وأفسدوا المظاهرات لعيون الإنجليز والأمريكان، كما روى مستشار السفارة البريطانية والتر سمارت عن احتجاجات الطلبة 1945، وأورد محسن محمد فى كتابه عن مقتل البنا بشأن تعهُّده خلال لقاء سكرتير السفارة الأمريكية فيليب إيرلاند بإنهاء احتجاجات فى أغسطس 1947. خاصموا حكومات «الوفد» لكنهم دعموا إسماعيل صدقى وحرَّفوا الآية القرآنية «واذكر فى الكتاب إسماعيل...» لترويجه. لا يختلف الماضى عن فضّ تظاهرات مُعارضيهم قبل عشر سنوات، وقتل الحسينى أبو ضيف وغيره فى محيط الاتحادية وعند مكتب الإرشاد، ولا عن ادّعاء تنزُّل جبريل فى رابعة أو صلاة الرسول خلف «مرسى».. تكذب الجماعة كما تتنفس، وتُمارس الانحطاط والقتل والعمالة وتجارة الدين كأنها فى مهمَّة مُقدّسة؛ بل تعتبر خداع المجتمع والدولة من حُسن الفِطَن ومُقتضيات السياسة الشرعية، وبالمنطق نفسه حاولت تسويق اعتصام رابعة على عكس حقيقته الإجرامية الواضحة.
 
لم يكن الحشد تعبيرًا عن الرأى كما زعموا، ولا استهلاكًا للديمقراطية ينضبط بإيمانٍ حقيقى بالحرية والصراع السياسى السلمى. بدءًا من استباق دعوات 30 يونيو، وتجميع الإرهابيين السابقين والحاليين، وتعبئة الخيام بالأسلحة، ورصّ الحواجز والمتاريس، وسرقة عربات البث التليفزيونى، والتلويح بالقوة وتكثيف التهديدات على المنصَّة وأمام الكاميرات.
 
كلها كانت إشارات إلى نزوعٍ عدائى ورغبة مُسبقة لشقّ الصف، لا سيما أن الجماعة كانت فى السلطة وتُعبّر عن رأيها بأدوات الحكم، ولم تكن العودة إلى آليات الاحتجاج الشعبى إلا دليلاً على كُفرها بالدستور الذى ينظم علاقة الحاكم بالشارع، وتمرُّدها على المُؤسَّسات التى تتقيَّد فى عملها بالقانون والعقد الاجتماعى بين المسؤول وناخبيه. كان الطبيعى والواجب أن يتحاور «مرسى» داخل أروقة الدولة، وأن يسمع الناس وينزل على إرادتهم؛ لكنه بدلاً عن ذلك تحدَّث إلى عشيرته ورضخ لإملاءات سادته فى التنظيم، ولم يكن «حشد رابعة» سوى إسنادٍ لرأس السلطة الفعلية فى المقطم، ودفاعٍ عن الصقور الذين تحكَّموا فى القصر والحكومة من دون صفة. اعتبرت الجماعة انتخاب الرئيس تصويتًا للمُرشد، وبينما يملك الناخبون استعادة أصواتهم وسحب الثقة، رأى الإخوان أن مُرشدهم فوق العزل، فتجمَّعوا فى اعتصام الدم دفاعًا عن «طاقية بديع» لا عن «شرعية مرسى».
 
كل التهديدات المُتردّدة فى أروقة الاعتصام أصبحت واقعًا، وخاضت مصر صراعًا مريرًا مع القتل والتفجير والاغتيالات وميليشيات سيناء. السنوات التالية لـ2013 أكَّدت أنهم تحرّكوا وفق مُخطَّط مُحكم، ولم يكن الأمر ارتجالاً أو انزلاقًا عشوائيًّا. أرادت الجماعة من «رابعة» أن تكون ساحةً لاستعراض القوّة، وفُسحةً لرصّ الصفوف وتوثيق اتفاقات الفوضى والدم مع الشركاء. كانت تسعى فى بادئ الدراما إلى إرهاب الثائرين، وإرباك المُؤسَّسات التى قد تضمن بقاءها لو خضعت، ومن وراء ذلك جهَّزت بدائل مُتدرِّجة: أن تكون الخيام نواةَ سلطة مُوازية يعترف بها حلفاء الخارج؛ فتسقط الدولة فى التنازع وازدواج منظومة الحكم، أو يظل الحشد ورقةَ ضغطٍ؛ تُهدّد الاستقرار وتنتقص من شرعية الثورة، وأخيرًا أن يتطوّر الموقف لمواجهة شاملة تنبنى على ما جرى فى أروقة رابعة، وتستفيد بشراسة المُتردِّدين عليها من جهاديِّين ومُحترفى عنف؛ وقد تم لهم الخيار الأخير الذى أنفقوا عليه أغلب الجهد والمال.. إن الوقوف أمام حال تلك البؤرة الإجرامية مع تجدُّد ذكرى الفض؛ يكشف عن أُصولٍ فكرية وحركية باتت من ثوابت العقل الإخوانى طوال تاريخه؛ أهمها أن التنظيم لا تعنيه فكرة الوطن، ويُعادى فلسفة الدولة الحديثة، وليست الحرية أكثر من أداةٍ يستعيرها لو اقتضى الظرف؛ ثم يجتهد فى خنقها ومنعها على الآخرين.
 
كما يكشف أيضًا أن الالتحاق الراهن بجهاتٍ إقليمية ودولية ليس طارئًا؛ فقد بدأ مع المُؤسِّس وامتدّ فى كل المراحل، وكان حاضرا بقوّة داخل رابعة.. تلك المساحة الزمنية والجغرافية التى يستغلها الإخوان لصياغة إصدارٍ جديد من خطاب المظلومية المُمل، وقد باتت دليلاً وثيقًا على أحطّ صور العمالة والخيانة، مرسومةً بالدم وحبر المُؤامرة الأسود، ومُحاطةً بهياكل ووجوه مُشوَّهة، لا يختلف فيها المُرشد عن التابع، ولا الداعية عن الإرهابى، ولا مُرتزقة القنوات عن جواسيس القصر. الذين تاجروا بالدين عقودًا باتوا قتلةً وسفَّاكى دمٍ مدموغين بالعار، وبعد ادّعاء الوطنية أصبحوا عُملاء وأدوات رخيصة تنتعلها دول وحكومات وأجهزة، وفى كل سنة يُجدِّدون لطميَّاتهم؛ فيتذكّر الناس سفالتهم وإجرامهم.. لا تطلع الشمس عليهم من دون سقوطٍ جديد، أمس واليوم وغدًا، عُملاء وقتلة وكذَّابون ومُرتزقة ببطون مُنتفخة وأرواحٍ مُتعفّنة وملامح تُفصح عن كل مذمَّةٍ ونقيصة. إنها جماعة ساقطة منذ بدايتها، والمرض فى جذورها، وآيته أنها تُدمن تكرار التاريخ وكلّ تكراراتها مساخر، وليس آخرها مسخرة رابعة.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة