حازم حسين

الحوار والتحرر من محفوظات الماضى.. كيف نخرج من الشعبوية إلى التعايش الناضج؟

الإثنين، 31 يوليو 2023 02:38 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فسحةٌ من خمسة أسابيع، انقضت بعودة لجان الحوار الوطنى إلى عقد جلساتها المُوسَّعة. أتاح موسم العطلات من عيد الأضحى إلى ذكرى ثورتى 30 يونيو و23 يوليو مُتّسعًا للنظر فى بقيّة المسارات التنظيمية، بعدما تراكمت حصيلة مُقترحات وأفكار مُعتبرة عبر أربع جولات من الانعقاد الأسبوعى.. الآن، وقد أصبح الحوار يسير على ساقين: لقاءات عامة لاجتراح بقيّة العناوين الخلافية فى السياسة والاقتصاد والاجتماع، وموائد تخصُّصيّة من الحزبيين والخبراء؛ لصوغ المُخرجات على وجهٍ صافٍ من الهوامش ومُحيطٍ بالمُتون والمفصليّات، وقابلٍ للإجراء تنفيذيًّا أو تشريعيًّا. أفرزت التجربة ما يصلح للدرس والتقييم، ليس من زاوية المنصَّة الحوارية وقدرتها على ضّمّ الصفوف فقط؛ إنما ما يخص الأجندات السياسية، ونُضج الممارسات الفردية حول الطاولة وخارج القاعات. لعلّ مجلس الأمناء يُنجز حصَّته المطلوبة من حساب العوائد وتطوير ديناميكية العمل؛ لكن شُركاء المشهد مدعوُّون أيضًا إلى إنجاز حصصهم، إن بتقدير سلامة الغايات والوسائل، أو بمراجعة التحالفات، وتخليص الخطاب من شوائب الارتباك والنوازع الشخصية.
 
كانت الدولة/ منظومة الحكم، تعى أهدافها من الحوار حينما دعت إليه. لعلّ الغرض الأول أن تتراصّ الصفوف مُجدّدًا، ويستعيد تحالف 30 يونيو بريقه الذى كان خافتًا؛ وهى من زاوية المُبادرة كانت تنزل عن بعض المُكتسبات، وتستدعى المُعارضين قبل المؤيِّدين إلى حيِّزٍ مُشتركٍ، تُدار فيه التناقضات على أرضية مصلحيّة عامة. وبالنظر إلى طبيعة المشهد الذى كان خاليًا من المُنغّصات السياسية، ولو بشكل جزئى، فإن فتح كُوّة فى الجدار لتمرير الأفكار المُناوئة والخطابات المُضادّة؛ إنما يُشير إلى رغبة جادة فى ترميم الصورة واستعادة الأجواء الطبيعية، وحتى لو رأى البعض أن الدعوة جاءت تحت ظرف الاستثناء تأسيسًا على أوضاع طارئة، خارجية أو داخلية، فإن التداعى إلى قراءة المستجدات، وحُسن التعاطى معها، يكشفان عن روح جديدة فى إدارة المجال العام. فى المقابل، فإن على المعارضة التزامًا واجبًا بالإفصاح عن رُؤية ناضجة لمسألة الحوار، وتحديد أغراضها منه، وترجمة ذلك عمليًّا عبر أداء ينسجم مع المنطق والمأمول، حتى لو بدا براجماتيًّا فى بعض حالاته. الحادث أن الدولة تبدو على دراية، والمعارضة ما تزال تتلمّس الطريق.
 
 
لأسباب مُعلنة، حتى لو لم يرها البعض مُقنعة، قضت السلطة سنوات فى إنجاز أولويّات فُرِضَت عليها.. كانت التحدّيات الأمنية بعد 2013 تهديدًا وجوديًّا للدولة ومُرتكزاتها الصلبة، وحربًا مفتوحة استوجبت تصفيتها قبل الالتفات إلى غيرها من المسائل. بفعل ذلك لم تكن الساحة السياسية فى كامل عافيتها، وكثير من القوى اختارت الانزواء، أو اختفت وراء غبار المعارك الكثيف. عندما استتبّ الأمر آخر أربع سنوات تقريبًا، كان أغلب اللاعبين مُرتاحين على دكَّة البُدلاء، ولم يُخرجهم من تلك العُزلة إلا مُبادرة الرئيس بدعوة الحوار. أثر سنة الإخوان فى الحُكم، ثمّ جولات المُواجهة مع إرهابهم الصريح، تركت قدرًا من الصدأ على أبواب الأحزاب، وفى قنوات اتصالها بالمُؤسَّسات والفضاء العام؛ لهذا كان على الحوار الوطنى أن يستكشف طريقه بهدوءٍ وحذر، وأن يُناور الألغام التى ربما خلَّفها خصوم الماضى وتورّط فيها بعض شُركاء الحاضر. أخطر لغمٍ فيها ما يخص النوايا وسوء الفهم، وتلك كانت لعبة الإخوان الأثيرة فى تفخيخ الساحة وتفريق قواها. لعلّ ذلك كان الباعث وراء بُطء التحضير، والتوقف بين وقتٍ وآخر لتصفية الأجواء. إحسان الظن يقتضى طوال الوقت أن تُوضع الأمور فى نصابٍ صحيح؛ إذ لو كانت لدى الدولة رغبةٌ فى إغلاق هذا المسار، ما فتحته منذ البداية. لكن استهلاك الحديث عن إيقاع الحوار ربما لا يكون من حُسن الفِطَن، وربما يُشير أيضًا إلى تسرُّع البعض للقصاص من الزمن بأثر رجعى، وإلى افتقاد بوصلة ضبط المسيرة الجماعية نحو الغاية المأمولة.
 
 
لم تتأخّر كل التيارات فى الاستجابة للدعوة، ولم تتقاعس عن الانخراط فى الحوار بكامل طاقتها؛ لكن الانفعالات داخل القوى السياسية وعلى تخومها حملت شيئًا يُلامس نطاق «توزيع الأدوار». حدث أن مُمثّلى بعض الأحزاب كانوا داخل اللجان، وزملاء لهم بالخارج يتحدّثون عن دراسة الموقف بين المُشاركة أو القطيعة. وحدث أنّ رموزًا أقرّوا «30 يونيو» سقفًا للعمل، مع ما يتحصَّل عن ذلك بلَفظ الإخوان قولاً وعملاً، وكان شُركاء ائتلافاتهم يستهلكون خطابًا مُغايرًا، أو يُطلّون من شاشات الجماعة ويلتقون وكلاءها بالخارج. وحدث أن بُنيت تحالفات مرحلية على أجندة الدعوة، ثم انتقد بعض أطرافها أن تتشكّل «كتلة الحوار» داخل التجربة، واعتبروها خصمًا منهم. كان الناضجون كُثر من كلِّ التيارات، لكن لم تخلُ الصورة من بعض الخفَّة، ومن مُمارسات لا تشى بإضمار السوء، بقدر ما تُعبّر عن اختلال الرؤية، أو غياب الإحكام فى صياغة مُستهدفات كل فصيل من الحوار، بوصفه مسارًا تكتيكيًّا يُؤسِّس لقواعد السباق؛ وليس غاية استراتيجية يجب أن تُحسَم داخل أروقتها كل المُعادلات والأوزان النسبية.
لم يكن كثيرون من طبقة السياسة على قَدر الحدث. وبمعنى أوضح؛ بينما سعت القيادة إلى أن يكون الحوار بيئةً استشفائية، واستكشافية للغة المفقودة، رآه البعض من كل التيارات حلبةَ مُصارعة يمكن أن تُفرض فيها الشروط عنوة، ويجب أن يخرج أحد طرفيها مهزومًا. هذه المُعادلة الصفرية لم تكن مقصود الدعوة، ولا قاعدة البرمجة التى بُنيت عليها منظومة المحاور واللجان وباقة الموضوعات المُنتقاة لاختبار الجدل. وإلى اللحظة تبدو الدولة أكثر الأطراف نضجًا فى التعاطى مع التجربة؛ سواء بابتكارها من العدم، أو تحصينها من المغالبة والاستقواء بالعدد وعُلوّ الصوت، وأخيرًا تعهّد الرئيس بإنفاذ مُخرجاتها محل التوافق دون قيدٍ أو شرط. فى المقابل حضر أهل السياسة مُحمّلين برواسب الماضى، يضعون عينًا على الفرصة ويغمزون بالثانية مُغازلةً لجاذبية الشعبوية فى إرضاء القواعد والحلفاء، ولم يكن حديث بعض مُنسّقى اللجان عميقًا وتأسيسيًّا كما يليق بالحالة، وإلى كل ذلك، لم تهدأ ماكينة الاستهداف من الإخوان وحُلفائهم بالخارج، ما كان يفرض على شركاء الداخل نمطًا أكثر مسؤولية فى إدارة المنصّة وتفرُّعاتها. خصوم الحوار كانوا سطحيِّين عدوانيّين ومارسوا عليه دعائيّةً فجّة، وداعموه كانوا طيِّبين باسمين لكن لعلّهم ليسوا الجنود المثاليِّين. يمكن القول إنه كان محظوظًا للغاية بأعدائه، وكان منكوبًا فى بعض أصدقائه.
 
 
فى مسألة نظام الانتخاب مثلاً، تنوَّعت الرؤى بين: القائمة المُطلقة مع الفردى، والنسبية مع الفردى، والنسبية بالكامل، ومزيج من الثلاثة. يبدو الفارق شاسعًا بين الأطروحات؛ لكنه مقبولٌ فى إطار الحوار وتداول الرؤى. المحكُّ أن تُصاغ تلك التصوُّرات فى مُقترحات موضوعية قابلة للإجراء، وأن يتواضع الجميع على قبول أى منها؛ طالما تعذَّر التوافق على الطاولة العامة وداخل لجان الصياغة المُغلقة. المُبرّرات أن هناك التزامات دستورية فى إطار «الكوتة» وتمييز بعض الفئات إيجابيًّا، وهناك تعقيدات لوجستية تعوق بعض البدائل المطروحة، وكل نظام له عيوب لا تقل عن مزاياه: القوائم تعزل النواب عن الدوائر والناخبين، والفردى يُشجّع العصبية وسُلطة المال، والنسبية تُفتّت قوّة المجلس، والمُطلقة تحرم الأحزاب الصغيرة من التمثيل. فى النقاش قد يتفق الجميع على تلك الشروحات أو بعضها؛ لكن السؤال عن التنفيذ: هل يقبل الجميع بالخيار الرابح ولو لم يكن خيارهم؟ الإجابة قد تكون «نعم» لو كان الحوار مبدأً أصيلاً، ولو رآه البعض على حقيقته كفرصة لفتح القنوات وتشبيك القوى مُجدّدًا، وآليَّة مرحليّة غرضها التوافق تحت لافتة الانتقال لظرفٍ جديد، وليس ملعبًا لحسم صراعات مكانها الشارع والبرامج وصناديق الاقتراع. أمَّا ما دون ذلك فإنه من أثر انغلاق الذهن، وضبابية الرؤية، وإدمان الصراعات العدمية.
 
 
قد يكون مفهومًا أن هناك من يضعون العصىَّ فى الدواليب، ولا يسرّهم شىء قدر تعطيل الحوار أو إفشاله؛ لكن غير المفهوم أن يتقاعس المعنيّون بالتجربة، والمستفيدون المباشرون منها، عن التصدّى لتلك الاستهدافات المكشوفة. لا أحد ينكر أثر ميراث سوء الفهم، وتحدَّث عنه المُنسّق العام للحوار ضياء رشوان كثيرًا؛ لكن إشارات الواقع أصدق من رواسب الماضى. عندما استجاب الرئيس لخطاب مجلس الأمناء بشأن تمديد الإشراف القضائى على الانتخابات؛ كان يُبرهن على فلسفة مُغايرة، وعندما تلقّى خطابهم بتفعيل صلاحياته الدستورية والعفو عن باتريك زكى ومحمد الباقر وآخرين، كان يُجدّد البرهان ويُوطّده، تُضاف لذلك حصيلةٌ مُعتبرة من عمل لجنة العفو الرئاسى عن المحبوسين، ومن جهود التأهيل وإعادة الدمج، ومن مناخٍ يتقدّم بثبات نحو الانفتاح وسِعَة الصدر. إنَّ ما تركته السنوات الماضية لم يكن قاسيًا على أهل السياسة فقط؛ بل أرهق الدولة قبلهم، وكبَّدها خسائر باهظة من أمنها ومواردها، وكشف سوءات بعض النُّخب الذين تربّحوا من الفوضى أو خدموا أجندات شخصية ووافدة، وكما أن الأحزاب لديها ظنون مُزعجة، فالمُؤسَّسات بما توفَّر لها من أحداث ومعلومات لديها ظنون أكثر وأفدح، والمصلحة مُتبادَلة فى تصفية الحسابات القديمة، ومَن يجتهد لقطع طريق التوافق ربما لديه ما يُخفيه، أو يتطلَّع إلى استبقاء منافع تُحقّقها له حالة الالتباس القديمة. عندما قال الوزير السابق والقيادى الناصرى كمال أبو عيطة عن أحد الائتلافات المُتشكّلة حديثًا، إنه يستشعر فيه «أجندة أجنبية»، كان يُعبّر عن شىء من بقايا الظنون، وهى مآخذ يمكن أن تقع داخل التيّار الواحد، وليس بين القوى السياسية والدولة فقط، كما يحلو للمُعارضة تبرير مواقفها دائمًا.
 
 
بدأ ماراثون صياغة المُقترحات بلجنة مُباشرة الحقوق السياسية، وحضرها 15 مُشاركًا: 5 تكنوقراط من أساتذة القانون والعلوم السياسية والباحثين، و10 من الحزبيّين والبرلمانيين. لم تتوصَّل الجلسة إلى ورقة مُخرجاتٍ مُكتملة، ويُنتظَر أن تعود للانعقاد من جديد، وتلك الحالة مُرشَّحة للتكرار فى كلّ اللجان وأغلب العناوين، وإذا عزَّ التوافق فسيكون الاحتكام للرئيس فى الرؤى المُتنوّعة، بحسب ما استقر عليه رأى المُتحاورين. ونعود إلى النقطة الأهم؛ ليس من واجب الحوار الوطنى أن يضع نقطةً فاصلة فى آخر كلِّ جُملة خلافية، إنما أن يفتح قنواتٍ عريضةً ومُنسابة لتداول الخلافات، الآن ومُستقبلاً، والاحتكام إلى صراع الأفكار والمنطق والبرامج، لا صراع الاستئثار والمُزايدة والتخوين ومُكاسرة القوى لبعضها. أرادت الدولة أن تجمع صفوفها كما كانت فى 30 يونيو، وعلى كلِّ صفٍّ أن يلتزم سُبلاً وغاياتٍ تُحقّق مصالحه ولا تصطدم بالهدف العريض، وعماده أن تصفو الساحة من غبار الماضى، وأن يتجاور الجميع بمبدأ الشراكة والتعايش، ثم تأتى المُنافسة فى السياسة، لا فى الوطن ولا على حساب قيم الجوار العادل. أيًّا كانت المُخرجات المُرتقبة فلن تكون نهاية المطاف، وديناميكية الساحة قادرةٌ على إنجاز مزيد من التطوير بالتشابك اليومى الخلّاق، وفى أروقة المُؤسَّسات الدستورية، وتحت بصر الناخب وإرادته؛ لكن المهمّ أن يُحسن كل الأطراف إقامتهم داخل تلك الحالة الوطنية، وأن يخرجوا منها واعين بعيوبهم، ومُتسامحين مع عيوب الآخرين، وأن تستقيم الخطابات مع المُمارسة، والأهداف مع وسائل تحقيقها، وألَّا يجلس أحدٌ مع الدولة ثم ينام فى أحضان الإرهابيين والأعداء، وما دون ذلك هو من المُشاكسات الطبيعية، ودليل عافيةٍ للبلد والسياسة.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة