قصة "سره الباتع" لـ يوسف إدريس.. الجزء السابع

الأحد، 02 أبريل 2023 05:00 م
قصة "سره الباتع" لـ يوسف إدريس.. الجزء السابع سره الباتع
كتب بلال رمضان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
سره الباتع .. قصة للكاتب الكبير يوسف إدريس، تحولت إلى مسلسل للمخرج خالد يوسف بعد مرور 65 عاما على صدورها ضمن مسلسلات رمضان 2023، وتزامنا مع عرض مسلسل سره الباتع، ينشر "اليوم السابع" قصة "سره الباتع" التى نشرت لأول مرة عام 1958 ضمن مجموعة قصصية بعنوان "حادثة شرف".

سره الباتع لـ يوسف إدريس.. الجزء السابع

هناك طريقة مشهورة لجعل السلحفاة تتحرَّك باستمرار؛ وذلك بأن نربط على ظهرها عصًا طويلة نضع في نهايتها طعامًا تراه السلحفاة فتتحرَّك للوصول إليه، وبالطبع لا تَصِله أبدًا؛ ولهذا تستمر تتحرك.

نحن مثل هذه السلحفاة، لا بد لكي نتحرَّك أن يكون ثمة أمل في متناول أبصارنا نحاول الوصول إليه، ولكننا أحيانًا لا نرى الأمل، تخفيه عنَّا أحداث الحياة فنتوقَّف، لا يائسين، ولكن لكي نبحث عن الأمل، ولا بد للبحث عن الأمل أن يكون لدينا «أمل» قوي في العثور عليه، فترات البحث عن الأمل هذه يسمِّيها الناس اليأس، بل ويُغالون ويضعون اليأس كشيء رأسه برأس الأمل سواءً بسواء، مع أن الحياة كما نرى أمل متصل، وحركتنا مستمرة، إمَّا لتحقيق الأمل أو العثور عليه، بل فترات البحث عن الأمل هذه التي يسمُّونها اليأس فترات يكون فيها الإنسان أشدَّ تفاؤلًا وأكثر حركة من المؤمِّل.

 
والباحث عن الأمل أو اليأس كما يقولون أشد حرصًا على الأمل ممَّن عنده أمل، والذي لا يملك القرش أكثر حرصًا عليه ممَّن يملكه، بل إنَّ المؤمِّل قد يضيع منه الأمل، أمَّا الباحث عن الأمل فإنه لا يفقد الأمل أبدًا في العثور على الأمل، اليأس أشدُّ تفاؤلًا من المؤمِّل، ولو كان أقلَّ تفاؤلًا لمات في الحال أو لانتحر.
 
وطوال هذه السنين التي كنتُ آكل فيها وأتخن — وقد تركتُ قضية السلطان — كنت في الحقية لم أيأس من العثور لها على حلٍّ، كل ما حدث أنني كنتُ أتحرَّك يحدوني أمل ما، ولكن الحكيم الطيب حين أراني أصابعه وسألني ذلك السؤال ضاع من أمام عيني الأمل، وضياع الأمل ليس بالأمر السهل، لا بد له دائمًا عن أسباب في غاية المنطق والمعقولية.
 
وحاول أن تناقِش «يائسًا» ما، فسوف تجِدُ ليأسِه أسبابًا في غاية القوة، ولكنَّك سوف تجِدُه أيضًا يبحث عن الأمل، وأن يعثر الإنسان على الأمل مرة أخرى مسألة أحيانًا لا تحتاج إلى منطق ومعقولية، ولنأخذ حالتي مثلًا.
 
لم يكن كلام الرجل المجذوب معقولًا ولا منطقيًّا، وليس له وجاهة كلام الطبيب، ولكن كم هي غريبة أمور الدنيا! فبلا مقدِّمات أو علامات وجدتُ أشياء مكتومة في صدري ومختزنة قد تراخَتْ فجأةً وانعكستْ، وحفِلَتْ نفسي باتِّساع وتفتُّح لا حدَّ لهما، وأحسسْتُ أنَّ الأمر لا يحتمل أكثر من أنْ أمُدَّ يدي وآتِي بحلٍّ لمشكلة السلطان.
 
كان شيء ما قد حدث بعدَما استمعتُ طويلًا إلى تخريفات المجذوب، شيء وكأنني كنتُ أشكُّ في وجود الله مثلًا، ويحيِّرني أمرُه ولا أستطيع أن أجزم بوجوده أو عدمه، وفجأة عثرتُ على تلسكوب غريب ممكن أن أنظر منه فأرى السماء، وأتحقَّق من وجود الله!.
 
ولم آخُذْ تخريفات المجذوب على أنها تخريفات، أخدتُها من زاوية أخرى، فلا بد أن السلطان حامد هذا كان من نوعٍ ما عاش ومات، كما يعيش الناس ويموتون، ولكن أية حياة هذه؟! وأيُّ رجل هذا؟! وتُرَى ماذا فعله حتى يحتلَّ من نفوس الناس تلك المكانة الرهيبة؟! وحتى يُجَنَّ أناس ويُجْذَبوا حبًّا فيه؟! وتُنسَج حوله الخرافات والأساطير، وتُقام له مئات الأضرحة في مئات البلاد وتُضِيء كل ليلة بعشرات الشموع، مئات الليالي، وربما لمئات السنين؟!.
 
وأمرٌ آخَر، فأن تعمَلَ طيِّبًا مسألة قد تخصُّك أنت وحدك، ولكن أن يقدِّر الناس أعمالك؛ وبالتالي يقدِّروك مسألة أخرى، فالدنيا حافِلة بالطيِّبِين الذين عاشوا للناس وماتوا من أجلهم فلماذا كلُّهم لا يُقدَّرون؟! لماذا يُقدَّر البعض دون البعض، وعلى أيِّ أساس إذن يختار ملايين الناس من أعمالك ما يستحق التقدير وما لا يستحق؟ ولماذا يُصبِح بعض الناس من معبودي الجماهير — كما يقولون — بينما لا يكونون هم أشرف الناس، ولا أطيب الناس، ولا أكثر حبًّا للناس وتضحية من أجلهم؟!.
 
ولم أكن أدري وأنا أقلِّب هذه الأسئلة كلَّها في رأسي أنني ممكن أن أجِدَ الإجابة عليها عند روجيه كلمان!.
 
كنتُ قد عدتُ إلى القاهرة من الإجازة القصيرة، وكلِّي تفتُّح لا لمسألة السلطان حامد وحدها، ولكن للحياة نفسها.
 
وكم أدركتُ خطئي لأني ظلِلْتُ فترةً طويلة من حياتي لا أفكِّر إلَّا فيها وحدها! فكما يقولون قد تجد ما تفكِّر فيه فيما لا تفكِّر فيه، وقد تجد ما لا تفكِّر فيه فيما تفكِّر فيه.
لا بد أن هذه الحكمة صحيحة إلى حدٍّ ما، ولو إلى الحد الذي يجعلني أومن أن لقائي بمدام إنترناسيونال كان مجديًا، وبالمناسبة لم يكن اسمها إنترناسيونال، كان اسمها «جين»، ولم أعرف إلى الآن جنسيتها، فأحيانًا كانت تقول إنها هولندية، والباسبور الذي معها كان من دوقية لوكسومبرج، وتقول: إنَّ باريس هي محل إقامتها، وحين عرَفْتُها كانتْ قادمةً من جنوب أفريقيا في طريقها إلى زوجها التشيكوسلوفاكي الذي يعمل مهندس مناجم في بولندا، وبالشرف، أني لا أبالغ؛ فهي نفسُها لم تكن تجد غرابةً في هذا، كانت تهزُّ كتفَيْها ببساطة وتقول: أنا إنترناسيونال، أمَّا كيف عرَفْتُها، فالمسألة في بساطة جنسيتها، الصُّدَف المحضة دفعتْني لأن أزور الإسماعيلية عقب الاعتداء الثلاثي على مصر، والصُّدَف المحضة هي التي دفعتْني لأن أقابِل أحد أصدقائي الأطباء في مطعم اللوكاندة التي كنتُ أنزل فيها، والصُّدَف المحضة هي التي دفعتْ صديقي هذا لأن تتولَّاه «نوبة شهامة» ويدعوني لأن أُقِيم معه في حجرته بمستشفى الإسماعيلية وكان يعمل فيه طبيبًا مقيمًا، وأنا أحب جوَّ المستشفيات والملابس البِيض الحِسان، ورائحة اليزول إذا جاءتْ إلى أنفي من بعيد وكانتْ لطيفةً خفيفةً.
 
وهناك عرَفْتُ مدام انترناسيونال، كانتْ إحدى مرضى المستشفى، وكانتْ موضوعة تحت الحراسة، فقد كانتْ أحدَ ركَّاب الباخرة «كارولينا» السويدية التي حجزها الاعتداء الغاشم في مياه القنال.
 
وكانت جين هذه ملحوسة لحسة منقطعة النظير، فهي لم تكن مريضة، ولكنها حاولت الانتحار في الباخرة، وأنقذوها في أول لحظة، ولكنها ادَّعَتْ أنهم جاءوا متأخِّرين بعدما سرى الأسبرين في جسمها، وأنَّ قلْبَها ما لم يعمل له «رسم» سيتوقَّف في الحال، وإذا عرَفْنا أنَّ الباخرة لم يكن فيها جهاز رسم قلب كهربائي أدركْنا أهدافَ مدام انترناسيونال، كان هدفها أن تهبط إلى البر وتعيش في مصر؛ إذْ كانتْ قد زارتْ تسعًا وثلاثين بلدة من بلاد العالم وكانتْ تريد أن تكملها الأربعين لتستطيع إذا عادتْ إلى باريس أن تحكي لصديقاتها عمَّا رأَتْه في الأربعين.
 
وسألتُها: «ألستِ ذاهبةً إلى زوجك في بولندا؟»
 
فقالتْ: «لا، نحن نلتقي على الدوام في باريس، فأنا لا أستطيع أن أحيا في غير باريس.»
 
وقلتُ لها مرة: «لم لا تفكِّرين في هدفٍ لحياتك؟»
 
فقالتْ: «كيف أفعل هذا وهدفي في الحياة أن أحيا بلا تفكير؟!»
 
ولو لم تقُلْ ذلك بطريقتها البادية الصنعة لحسبْتُها فيلسوفة، أو من المفكِّرين، وكان صديقي الطبيب لا يكاد يستقر في الحجرة أثناء الليل أو النهار خلال الأيام الثلاثة التي مكثتُها في المستشفى، ما تكاد تمضي دقيقة حتى نسمع دقًّا: «الخواجاية عندها مغص يا دكتور»، ويذهب صديقي فلا يجد مغصًا ولا إسهالًا، ولا يكاد يعود حتى يعود الدق من جديد: «الخواجاية عندها احتباس في البول.»
 
وكنت كثيرًا ما أذهب معه، ولم يكن صديقي ضيقًا بها، كانتْ شيئًا جديدًا في حياة المستشفى الروتينية وحياته، وكثيرًا ما جلسنا نتحدَّث، وكثيرًا ما حمَلَنا الحديثُ بعيدًا، إلى أبعد من جدران المستشفى ومأساة الحرب، وأخطأتُ مرة وذكرتُ لها حكاية السلطان، وكأنَّها كانتُ تنتظر طول عمرها أن يقول لها أحد شيئًا كهذا، فإلى أن انتُزِعتْ من سرير المستشفى انتزاعًا إلى الباخرة كانتْ لا تزال تسألني وتُلْحِف، وتدقِّق، وتروع للتفاصيل وتقول: «أوه! يا سلام!» و«يا سلام» هذه هي الكلمة الوحيدة التي تعلَّمَتْها أثناء إقامتها بالمستشفى.
 
ولم تكتَفِ بعنواني المكتوب الذي أعطَيْتُه لها، ولكنَّها ظلَّتْ تردِّده حتى حفِظَتْه عن ظهر قلب.
 
وودَّعَتْني وهي تقول: «حتمًا سأكتب لك.»
 
ولكن لم أتوقَّع أبدًا أن تفعل.
 
وعدتُ إلى عملي، وإلى القاهرة، وإلى الساعات اليومية الثابتة التي كنتُ أقضيها في دار الكتب.
 
كنتُ قد أمسكتُ بخيطٍ ما، وكان تردُّدي على الدار هدفُه التأكُّد منه، فبحثتُ عن أسماء جميع السلاطين الذين حكموا مصر أو حتى مَن قدِموا إليها غازين أو زائرين، بل حتى أسماء سلاطين آل عثمان راجعْتُها كلَّها، ولم أجِدْ ظلًّا ولا إشارة واحدة لسلطان باسم السلطان حامد.
 
وحتى هذا الخيط الواهن انقطع، وبهذا فقدتُ كلَّ أثر للسلطان.
 
غير أنَّ حماسي لم يفتر أو يقل.
 
يومان في الأسبوع كنتُ أذهب إلى مكتبة الجامعة، ومِن هناك إلى قسم التاريخ في كلية الآداب، وأخطئ إذا قلتُ إنَّ جهودي كانتْ تذهب عبثًا؛ إذْ خلال شهور طويلة كنتُ قد تعلَّمتُ أشياء عن تاريخنا لم أكن أحلم بمعرفتها، وكنتُ قد خرجتُ بعدة صداقات، ليس أقلها صداقة متينة كانت بيني وبين «علي بك» القزم الذي لا يكاد طوله يزيد على المتر والذي يبيع الكتب القديمة رائحًا غاديًا بين العتبة والأزهر، وكانتِ الحكاية قد تسرَّبَتْ مني إلى أصدقائي وإلى معارِفهم، حتى كنت أحيانًا أجِدُ أناسًا لا أعرفهم يبتسمون لي إذا قابلوني في مكان عام ويقولون: «هيه! عملت إيه في حكاية السلطان؟»
 
ونفس السؤال كنتُ أسمعه من شبَّان أهل بلدنا وطلبتها، وحتى الكهول، ومع أن الوضع كان قد انقلب، وانتقلتُ من الطفل السائل إلى الرجل المسئول، إلَّا أنَّ إجابتي كانتْ لا تكاد تختلف عن الإجابات التي كنتُ أُجَنُّ لها وأنا صغير.
 
وما أكثر ما كان يصلني من أفكار واقتراحات! يضرب أحدهم كتفي بشدة ويقول: «وجدتُ لك كتابًا يصلح»، ويأخذني آخَر بالحضن ويقول: «خلاص، عرفت حكاية السلطان»، ويحكي، وإذا به سلطان غير السلطان، وكنتُ أتوقَّع أي شيء إلَّا أن أفتَحَ صندوقَ الخطابات مرة فأجد خطابًا راقدًا في قاعِه وعليه طابع بريد أجنبي.
 
كان الخطاب من مدام انترناسيونال.
 
وما كدتُ أفتَحُه حتى تساقَط منه شيء، ولكني شُغِلْتُ عنه بقراءة الخطاب، ولم أكن أتوقَّع أن يكون لها مثل ذلك الخط الجميل، ولم لا أقول: إني ما كدتُ أعرف أنَّ الخطاب منها حتى وجدتُها تلوح في خاطري، وأحس أني حقيقة افتقدتُها، أحيانًا يبدو الشخص المتعِب جذَّابًا من بعيد.
 
وعلى عكس طريقتها في الكلام كتلك الطريقة التي تظن معها أنها لا تتحدث، ولكنها تمثِّل، كان أسلوبُها في الكتابة رزينًا، حتى كدتُ أظنُّ أنها أصبحتْ أرملة، والأغرب من هذا كانت تتحدَّث عن السلطان!
 
قالت إنها منذ أن تحركتْ بها الباخرة وغادرتْ قنال السويس، وهي لا تفكِّر إلَّا في مشكلة السلطان، وقد أحسَّتْ — وبنصِّ كلامِها — لأول مرة أنها وجدتْ شيئًا يستحق أن تفكِّر فيه، ولأسخر منها ما شئتُ، ولكنَّها فعلتْ، والنتيجة مُرفَقة بالخطاب.
 
وتأمَّلْتُ ما سقط من يدي حين فتحتُ المظروف، فإذا به صفحات من كتاب مطبوع.
 
وعدتُ أكمل قراءة الخطاب الغريب:
 
لا تَسَلْ كيف عثرتُ على هذه النتيجة، فمنذ عودتي إلى باريس وأنا وصديقاتي لم نستَرِحْ لحظة واحدة، ولم يكن لنا همٌّ طول الوقت إلَّا البحث في مشكلة السلطان، وكنتُ أريد أن أحدِّثَك بالتفصيل عن الجهود الكبيرة التي بذلناها لولا أني أُوثِر أن أُخْبِرَك بأهمِّ شيء، ففي الشهر الماضي صدر عن إحدى دُور النشر هنا كتاب يُعتَبَر وثيقةً تاريخيةً مهمَّةً، وهو عبارة عن مجموعة الخطابات التي تلقَّاها المسيو جي دي روان من صديقه روجيه كليمان، وروجيه كليمان كان أحد علماء الآثار الذين رافقوا حملة نابليون على مصر، ويُقال إنَّه لم يَعُدْ وإنَّه استَمْصَر وارتدى الملابس الوطنية وأقام هناك، وها أنا ذا أُرْسِل لك مع خطابي هذا بعض صفحات منتزعة من الكتاب وهي تحتوي على الخطاب الأخير، ولعِلْمِك أنَّ الذي قام على تحقيق هذا الكتاب ومراجعته وتدوين الملاحظات عليه هو الدكتور س.
 
مارتان عضو الأكاديمي فرانسيز، وبهذا تستطيع أن تطمئنَّ تمامًا إلى سلامة كل ما ورد فيه، وأنا لا أعرف إذا كان ما جاء في الخطاب الذي أرسَلَه العالِم الفرنسي ما يكفي لحلِّ لغزِ السلطان أم لا، ولكن لا أريد أن أمنعك من قراءة الشيء الذي انتظرتَه طويلًا، وأظنُّك في شغف شديد للاطِّلاع عليه.
 
أرجوك، اكتب لي حالًا وأخبرني بكل شيء.
 
عزيزتك
 
جين إنترناشيونال
 
ملحوظة: هل عندكم حقيقة قرية اسمها «شطانوف»؟
 
وهل لا تزال موجودة إلى اليوم؟ صِفْها لي في خطابك أرجوك.
 
 
 






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة