احتشد مثقفون ورسميون يتقدمهم وكيل محافظة الإسكندرية وأبناء الطائفة اليهودية بالمدينة وعمداء كليات بجامعة فاروق «الإسكندرية»، وأساتذة وطلاب من الجامعة فى «المدرسة المجانية للطائفة الإسرائيلية» بالإسكندرية، يوم 24 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1943، للاستماع إلى الدكتور طه حسين، مراقب الثقافة بوزارة المعارف، فى محاضرته بعنوان «اليهود والأدب العربى»، حسبما يذكر الدكتور على شلش فى كتابه «اليهودية والماسونية فى مصر»، والكاتب الصحفى حلمى النمنم فى كتابه «طه حسين والصهيونية»، وأنور الجندى فى كتابه «طه حسين حياته وفكره فى ميزان الإسلام».
استهل طه حسين محاضرته بوصف موضوعها بأنه «فى غاية الخطورة وغاية الدقة وفى غاية العسر»، حسب نصها فى «الجزء الثانى» من أوراق طه حسين ومراسلاته، عن دار الكتب والوثائق القومية، ولهذا أثير الجدل وما زال حولها، فهناك من اتهمه بالترويج لليهود والصهيونية، وذهب إلى ذلك أنور الجندى وآخرون، فى حين يرى «شلش» و«النمنم» وغيرهما أن هذا افتراء.
ينقل «الجندى» ما نشرته مجلة المكشوف، يوم 2 يناير 1944 عن المحاضرة، قائلة: «ذكر الدكتور طه حسين العلاقات بين اليهود والعرب منذ الجاهلية، وأى أثر كان لليهود فى تحضير سكان الجزيرة ثم تكلم عن انتشارهم فى أفريقيا الشمالية وإسبانيا، حيث كانت لهم خدمات فى سبيل الثقافة، وكيف نافسوا العرب أنفسهم على أكثر المناصب فى الدولة، إلى أن قال إن المسيحيين واليهود كانوا خير عون للعرب فى نقلهم العلوم والفنون والآداب عن اليهود والهنود والفرس، وختم الدكتور حديثه داعيا يهود مصر إلى توثيق صلاتهم بالمصريين من أهل الثقافة العربية، والاندماج فى سوادهم اندماجا روحيا، وتدارس أدبهم شعرا ونثرا»، وأضافت المجلة: «قوبل كلام المحاضرة بعاصفة تصفيق، وقرر المجلس الملى الإسرائيلى إنشاء جائزتين باسم طه حسين يمنحان لألمع طالبين فى المدرسة الإسرائيلية».
يرى «الجندى» أن هذا الكلام فيه شبهة الصهيونية، لكن «النمنم» يرفضه، مؤكدا ضرورة التفريق بين اليهودى والصهيونى، وأن طه حسين فعل ما فعل من قبله رشيد رضا وشكيب أرسلان وجورجى زيدان وآخرون، ويرى وضع المحاضرة فى سياق جو عام ألقيت فيه، فقد حضرها وكيل محافظة الإسكندرية، وعمداء كليات جامعة فاروق وأساتذتها وطلابها، وكان مقررا أن يحضر الأمير عمر طوسون، لكنه اعتذر بسبب انحراف فى صحته، وهكذا لم تكن المحاضرة فى محفل يهودى بالمعنى الضيق للكلمة، لكنها فى تجمع ثقافى أدبى مصرى .
يذكر «النمنم» أن المحاضرة تفيض إحساسا عميقا بالعروبة، حيث يقول طه حسين: شارك اليهود العرب فى حياتهم، وتعلموا لغتهم للاستفادة بها فى حياتهم العملية والعقلية، فكان من اليهود شعراء ممتازون فى الشعر الجاهلى وأشهرهم «السموءل بن عاديا»، ويقول أيضا: لوحظ أن الشعر اليهودى كان كالشعر العربى فى قوافيه وأوزانه وفى أسلوبه، إلا أنه كان مصطبغا بلون هادئ من الحزن كالدعوة إلى الخير والاستخفاف بالحياة، وهذه النغمة اليهودية تأثر بها العرب أنفسهم فى شعرهم، ويلاحظ طه حسين أن نشاط اليهود وتأثيرهم فى الحياة الأدبية والفلسفية فى العصر الإسلامى كان محدودا، فلا نكاد نعرف كاتبا أو فيلسوفا فى هذا العصر، ويعلل ذلك بأن اليهود شغلوا بالحياة الاقتصادية والمالية، وكان لهم فيها تأثير عظيم.
يضع «شلش» هذه القضية فى سياق تاريخى أشمل، قائلا: لم يكن التيار الغالب فى الثقافة المصرية خلال القرنين الماضيين 19 و20 يعادى اليهود، وليس معنى هذا أن التيار غير الغالب كان يعاديهم، وإنما معناه أن التيار الذى سميناه غالبا، كان أقدر على تثبيت أفكاره وترويجها بحكم اعتماده على قوة الأحزاب التى ناصرها، وابتداء من رفاعة الطهطاوى وتلاميذه إلى طه حسين والعقاد والمازنى وهيكل باشا، مرورا بالأفغانى وتلاميذه مثل محمد عبده ولطفى السيد وغيرهما، لم يظهر فى هذا التيار غير التسامح مع اليهود والتغاضى عن نشاطهم الصهيونى فى مصر، فى حين أن التيار الآخر المحدود الذى مثله رجال كرشيد رضا وإسماعيل مظهر كان يعادى الصهيونية، ولا يعادى اليهود بشكل عام، وإن كان إسماعيل مظهر تلميذ لطفى السيد لم يفرق بين اليهودى والصهيونى ابتداء من الأربعينيات «القرن الماضى»، وبالرغم من تلاقى التيارين واتفاقهما حول أمور كثيرة، لم يدرك التيار الغالب خطر الصهيونية إلا بعد 1948.
يذكر «شلش»: كان هناك تسامحا واسعا فى الصحافة والأدب والفكر والفن مع اليهود، مشيرا إلى الشاعر حافظ إبراهيم الذى مدح مطرب يهودى يدعى جاك رومانو، كان صديقا للمطرب عبده الحامولى ومن رجال المال بالإسكندرية، وأن عباس العقاد استوحى شخصية روايته الوحيدة «سارة» من فتاة يهودية عرفها، ولم يكن قبل كتابته للراوية ولا قبل حرب 1948 يفرق بين اليهودى وغير اليهودى ولا بين اليهودى والصهيونى، وكان طه حسين من أكثر أدباء مصر المحدثين تسامحا مع اليهود وعطفا عليهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة