كان الوقت ظهر 14 نوفمبر، مثل هذا اليوم، عام 1970، حين اتصل نائب رئيس الجمهورية، حسين الشافعى، بالدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة، لمقابلته لأمر مهم، فتوجه «عكاشة» إلى مكتبه، حيث أبلغه بأنه تقرر عدم إشراكه فى الوزارة الجديدة، التى كلف الرئيس السادات الدكتور محمود فوزى بتشكيلها، حسبما يذكر «عكاشة» فى الجزء الثانى من مذكراته.
كان السادات رئيسا للجمهورية منذ أسابيع قليلة خلفا لجمال عبدالناصر، الذى توفى يوم 28 سبتمبر 1970، وكان ثروت عكاشة هو أول وزير للثقافة يختاره عبدالناصر فى 9 أكتوبر 1958، واستمر إلى عام 1962، ثم عاد مرة ثانية عام 1966، ويعد الوزير التاريخى للثقافة المصرية التى شهدت نهضتها الكبرى طوال الثمانى سنوات التى شغلها، وبالرغم من ذلك استغنى عنه السادات، ويكشف «عكاشة» السر وراء ذلك، مشيرا فى مذكراته إلى المحطات التى جمعتهما منذ عام 1940، واستمرت بعد ذلك وكانت فى مجملها سلبية.
يذكر «عكاشة»: «لم تكن بيننا سوى المجاملات التقليدية، غير أنه كان هناك لقاءان مست فيهما كرامة السادات أمامى لمسلك خاطئ سلكه، ولقد عجبت عندها، كيف لم ينبس ببنت شفة، بل افترَ ثغره عن ابتسامة عريضة وكأنه يتلقى إطراء أو يقلد وساما، كان أولها فى استراحة برج العرب مع عبدالناصر، والثانى فى جنازة أحد الأصدقاء مع عبدالحكيم عامر، وقعا فى حضورى عرضا ولن أذكر عن تفاصيلهما شيئا، إذ كم تمنيت أنى لم أكن شاهدهما».
كما يكشف «عكاشة» عن موقفين آخرين، الأول حين تلقى فى 4 ديسمبر 1958 تقريرا عن رغبة السادات، الذى كان رئيسا للمؤتمر الإسلامى فى بناء استراحة على طريق الهرم، وكان الموقع من أرض الآثار المحرم البناء عليها، ورفض عكاشة التصريح له بالبناء، وكان الموقف الثانى فى الفترة بين وفاة جمال عبدالناصر، وانتخاب السادات رئيسا، حيث اعترض على طلب السادات بإخلاء متحف محمد محمود خليل من مقتنياته، والتوقف عن البناء فى قصر الفنون بحديقة القصر، وذلك لإلحاق المكان كله بمنزل السادات المجاور له كمكاتب تابعة.
هكذا يبدو أن ماضى العلاقة بين الاثنين ألقى بظلاله على التشكيل الوزارى الجديد، ولم تكن الأسباب الظاهرية التى قيلت هى الأساس، يذكر «عكاشة» أن حسين الشافعى فسر له عدم إشراكه فى الوزارة الجديدة «بأن عظمى ناشف على محمود فوزى» رئيس الحكومة، فرد عكاشة قائلا: «لست مستوزرا، ولم أسع من قبل إلى كرسى الوزارة، ومن الطبيعى أن يكون لرئيس الجمهورية حق اختيار من يتعاونون معه».
يكشف «عكاشة» أنه بعد ظهر اليوم نفسه، اتصلت به رياسة الجمهورية لمقابلة الرئيس الجديد فى الساعة الثامنة مساء، ويذكر: «بعد أن هنأته بالمنصب إذا هو يبادرنى بقوله إن الرئيس عبدالناصر أوصاه بالسهر على راحة الضباط الأحرار، وإن ثمة منصبا فى الخارج يحتاجنى للقيام بأعبائه وهو منصب سفير مصر فى باريس، مضيفا أنه ينوى تعيين الأخ كمال رفعت سفيرا فى لندن، ثم التفت إلى ليخبرنى أن هناك من يقول بصعوبة التعامل معى، وحين سألته أن يوضح لى من هم القائلون بهذا، ذكر لى اسم سامى شرف، فلم أدهش».
يضيف «عكاشة» أنه اعتذر عن قبول منصب السفير، ليتفرغ لاستكمال موسوعة «تاريخ الفن»، لكن السادات أبدى اندهاشه، موضحا أن إعفاءه سوف يظهر بمظهر من يتخلص من الضباط الأحرار، الأمر الذى لا يوافق عليه خاصة بعد توصية عبدالناصر له بهم، ثم قال لى: «عليك رسالة نحو الثقافة يجب أن تتمها»، وعرض على أن أعمل مستشارا له دون أن يحدد لى مجالى فى العمل، يؤكد «عكاشة»: لما رأيت إصراره على بقائى إلى جواره فى هذه الآونة اقترحت أن أعمل مساعدا له للشؤون الثقافية، فقال راضيا «ماشى»، ثم أردف: «إن مهمتك ستكون التخطيط لا التنفيذ، إلا فيما يتصل بإنقاذ آثار النوبة فعليك مواصلة جهودك فيها، وهنا أبلغته بقرب انعقاد المؤتمر الدولى لجمع التبرعات الحكومية لإنقاذ معبد فيلة فى 19 ديسمبر 1970، فبادر بإنابتى عنه فى رئاسته وإعداد الخطاب الذى سألقيه باسمه».
يضيف «عكاشة»: «قبل أن أمضى طلب منى إعداد مشروع متكامل لإحياء ذكرى عبدالناصر، وهو ما أبديت له حماسة شديدة، وعكفت على إعداد هذا المشروع بعد أن استعنت بصفوة المفكرين اللامعين، حتى إذا ما فرغت منه وأرسلته إليه، وانتظرت طويلا إجابة أو دعوة للنقاش غير أنى لم أظفر بشىء من ذلك، بل إن السنين مضت دون أن يكتب لهذا المشروع أن يتحقق، وكان ما حدث بعد يناقض هذا الاتجاه، إذ بدأت حملة التشهير بعبدالناصر، ونفس الشىء حدث بالنسبة لعدد من المشروعات الثقافية والتقارير التخطيطية، التى كنت أجهد فى إعدادها، وضاعت محاولتى سدى فى لقائه لأعرف رأيه فيما كنت أعده له من تقارير».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة