تبدو الأزمة الراهنة التي يشهدها قطاع غزة، نقطة تحول مهمة في تاريخ الإقليم بأسره، في ظل الحدة غير المسبوقة في طبيعة الاعتداءات التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي، في إطار النزعة الانتقامية التي تطغى عليها، وما صاحبها من انتهاكات، تجسدت في مقتل آلاف المدنيين، معظمهم من النساء والاطفال، ناهيك عما ترتب عليها من حالة من الاستقطاب العالمي، التي قد تسفر، حال استمرار العجز الدولي عن احتوائها، عن حرب إقليمية شاملة سوف تعصف، حال اندلاعها، بالمنطقة بأسرها.
ولعل الدعوات التي بزغت مؤخرا حول تهجير الفلسطينيين من سكان قطاع غزة، بمثابة ترجمة حقيقية للعديد من أهداف الاحتلال، تتعلق في أحد مساراتها بتصفية القضية الفلسطينية، عبر تقويض حل الدولتين، والقائم على تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وذلك بتفريغ الدولة المنشودة من أحد عناصرها الرئيسية، وهو مواطنيها، وهو ما يفتح الباب أمام إسرائيل نحو مزيد من التوسع والاتساع، بينما ترتبط في المسار الآخر بالرغبة الملحة في تصدير الأزمات، ليس فقط لدول الجوار، وفي القلب منهم مصر، وإنما في الاقليم بأسره.
وفي الواقع، تبدو رغبة إسرائيل في تصدير الأزمات للمنطقة، منطقية بحسب رؤيتها لمصالحها، في ظل العديد من المستجدات، لا ترتبط في جوهرها فقط بالقضية الفلسطينية التي استعادت جزء كبير من مركزيتها، في السنوات الماضية، وإنما أيضا بحالة القلق الكبير جراء ما تشهده المنطقة من توافقات جراء الاستقرار النسبي، وهو ما يبدو في سلسلة المصالحات التي عقدت بين الدول العربية من جانب، وتركيا وإيران من جانب آخر، وهو ما يمثل "لبنة" مهمة لتشكيل معسكر محتمل مناوئ لها، يمكنه تعطيل مصالحها، سواء في إطار القضية، أو فيما يتعلق بالجانب التنموي، القائم على الاستدامة، والذي يمثل تهديدا للمشروعات التي ترغب الدولة العبرية في تدشينها، ناهيك عن حجم التأثير الذي باتت تحظى به المنطقة، في لحظة مخاض يمر بها النظام الدولي، تجاه العديد من الأزمات والقضايا التي يشهدها العالم في اللحظة الراهنة.
وهنا تبدو رغبة إسرائيل الملحة في تصدير الأزمات لمحيطها الجغرافي، مرتبطة في طياتها بالبعد السياسي التقليدي في إطار القضية الفلسطينية، ناهيك عن أبعاد أخرى تتعلق بالجانب التنموي وكذلك حجم التأثير الدولي، والذي يمثل في جوهره كابوس لسلطانه الاحتلال، خاصة مع صعود قوى جديدة مرشحة لمزاحمة الولايات المتحدة، والتي تعد الداعم الرئيسي لها، على قيادة العالم، على غرار الصين وروسيا، وهو ما خلق قدرا من المنافسة الدولية على المنطقة العربية، بدت في التقارب العربي مع كلا من بكين وموسكو، وهو ما دفع واشنطن إلى اتخاذ خطوات مماثلة في هذا الاطار، عبر القمة الامريكية العربية التي عقدت في العام الماضي، وكذلك الحوار الاستراتيجي الذي أطلقته وزارة الخارجية الأمريكية مع جامعة الدول العربية قبل شهور قليلة.
فلو نظرنا إلى دعوات التهجير، التي أطلقها الاحتلال خلال الأزمة الراهنة، نجد أن ثمة محاولة استنساخ حقبة الفوضى، التي شهدها الإقليم خلال العقد الماضي، بالإضافة إلى كونها بذرة جديدة لوأد حالة الاستقرار الوليدة، عبر تأجيج النزاعات مجددا بين الدول المتجاورة، وهو ما يساهم بالتبعية في تقويض الحالة التنموية، جراء التهديدات التي ستلاحق الأوضاع الداخلية في كل دولة، من جانب، بالاضافة إلى عودة الدول لسياسة الانغلاق والانكفاء على الذات لحماية نفسها من التهديدات القادمة من الخارج، جراء احتمالات تسلل عناصر خطرة إلى أراضيها، وكذلك ما يشكله نزوح الألاف من ضغوط اقتصادية كبيرة في ظل مرحلة دولية تبدو صعبة.
تبدو الدولة المصرية وضعت على كاهلها المسؤولية لحماية ما تحقق من مكتسبات للإقليم بأسره في السنوات الماضية عبر موقفها الواضح تجاه دعوات التهجير التي أطلقتها إسرائيل، وهو ما بدا واضحا في كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال قمة "القاهرة للسلام"، حيث تمكنت، رغم اختلاف المواقف تجاه بعض النقاط التي دارت في معظمها حول تصنيف الاعتداءات الاسرائيلية على غزة بين وضعها في خانة الانتهاكات من قبل الدول المؤيدة لفلسطين، أو دفاعا عن النفس من قبل المعسكر الآخر، إلا أنها تمكنت من تحقيق "إجماع" دولي على رفض فكرة التهجير، وهو ما يمثل حماية ليس فقط من مخاطر الفكرة على القضية، وإنما في جوهرها حماية مكتسبات الإقليم بأسره، في ظل الاستقرار النسبي الذي تحقق، بالإضافة إلى التوجه الجماعي نحو التنمية المستدامة، عبر اجراءات إصلاحية، اتخذتها العديد من الدول في الآونة الأخيرة ساهمت في زيادة ما تحظى به من تأثير على المستوى الدولي.
وهنا يمكننا القول بأن الموقف المصري القوى في قطاع غزة يمثل غطاء من الحماية للمنطقة بأسرها، خاصة مع التخوفات الاسرائيلية الكبيرة جراء الاستقرار الحالي، بعدما كانت سنوات الفوضى الاقليمية بمثابة فرصة لها للتوسع وبناء المزيد من المستوطنات، والتهام أراضي دولة فلسطين المنشودة.