تعد الدبلوماسية الإغاثية أحد العناوين الكبرى، التي هيمنت على أداء الدولة المصرية في الآونة الأخيرة، وهو ما يبدو في العديد من الحالات، ربما أبرزها أزمة الزلزال الذي ضرب كلا من سوريا وتركيا، ثم زلزال المغرب، ناهيك عن النجاح منقطع النظير في عمليات الإجلاء من السودان، والتي لم تقتصر على المصريين فقط، وإنما امتدت إلى مساعدة العديد من دول العالم، في إجلاء رعاياهم من مناطق الصراع، إلى الأراضي المصرية، تمهيدا إلى إعادتهم إلى بلدانهم، وهو ما يعكس أحد الأدوات الهامة التي باتت تعتمد عليها الدولة في إطار نهج من الشراكة مع العالم، مما يساهم في إضفاء الثقة الدولية على الكثير من المواقف التي تتبناها، خاصة وأنها جاءت بعدما أثبتت نجاعتها في مجابهة العديد من التحديات الأخرى التي واجهت العالم، وفي القلب منها الإرهاب والتطرف بالإضافة إلى الوباء، وغيرها.
ولعل النهج الإغاثي، ذو الوجه الإنساني، ساهم في تحريك المياه الراكدة، في إطار تعزيز العلاقات بين الدول في محيطيها الإقليمي والدولي، رغم الخلافات التي هيمنت خلال العقد الماضي، وهو ما يتجلى بوضوح في سلسلة من المصالحات العربية مع القوى الإقليمية الأخرى، وكذلك إعادة دمج سوريا في منطقتها عبر استعادة مقعدها، في جامعة الدول العربية، بعد تجميد دام لحوالي 12 عاما، وهو ما يمثل أحد أهم إيجابيات النهج الإنساني الذي تتبناه الدولة المصرية في سياستها الخارجية، في إطار انعكاساته على حالة الاستقرار الإقليمي بصورته الجمعية، وتحويل الصراعات إلى منافسة، تقبل "الشراكة"، في إطار ما أسميته في مقال سابق بـ"الشراكة التنافسية".
إلا أن الأزمة الراهنة التي يشهدها قطاع غزة، ربما تمثل نموذجا "فريدا" للعمل الدبلوماسي المصري، في ظل حالة التشابك بين الأوضاع الإنسانية، المترتبة على القصف الإسرائيلي المتواصل، والانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال، وما أسفرت عنها من مآساة تندى لها الأجبان، من جانب، والبعد السياسي الرسمي، في ظل ضرورة وقف إطلاق النار فورا، والعودة للمفاوضات، من أجل تحريك القضية، واستعادة الزخم لحل الدولتين، باعتباره الأساس الذي ترتكز عليه "الشرعية الدولية"، والذي يقوم على ضرورة تأسيس دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من يونيو لعام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
وهنا نجد أن نجاح الدولة المصرية تجسد على ثلاثة مسارات متزامنة، أولها إنساني يتجسد في فرض إرادتها فيما يتعلق بدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، بينما تواصل سعيها لدخول مزيد من الشاحنات المحملة بالغذاء والدواء إلى السكان الذي يعيشون تحت وابل من القصف، بينما اعتمد المسار الآخر، على العمل على تحقيق التهدئة عبر الدعوة إلى وقف إطلاق النار، ليس عن طريق الوساطة وإنما من خلال حشد المجتمع الدولي بأكمله على أرضها، خلال قمة "القاهرة للسلام"، لإضفاء الشرعية على دعوتها، حيث نجحت بامتياز في وضع العالم، خاصة الدول المؤيدة للاحتلال، والتي طالما تشدقت بالمبادئ الحقوقية، أمام اختبار كاشف لمدى صدق الدعوات التي كثيرا ما أطلقوها، في إطار سياسي أكثر ما هو إنساني.
بينما يبقى المسار الثالث سياسيا، عبر التحول نحو تحقيق تقدم ملموس فيما يتعلق بحلول الوضع النهائي، من خلال "حل الدولتين"، وما ما يمثل أحد أهم مرتكزات القمة التي عقدت بالقاهرة، والتي انطلقت من مجرد المطالبة بالتهدئة المؤقتة، نحو استقرار "مستدام" من شأنه تحقيق الأمن لجميع الأطراف، وحقن دماء المدنيين الأبرياء من هنا أو هناك.
وفي الواقع، يبدو التزامن بين دخول أول شحنة مساعدات إلى قطاع غزة مع انطلاق قمة "القاهرة للسلام" أحد أهم أوجه النجاح الكبير الذي حققته الدولة المصرية في التعامل مع الأزمة الراهنة، حيث يعكس قدرتها الكبيرة على فرض إرادتها، بينما أثبتت في الوقت نفسه البعد الإنساني في سياساتها، بعيدا عن النهج القائم على التسييس، الذي طالما تبنته العديد من الدول حول العالم في التعامل مع مثل هذه الأزمات.
وهنا يمكننا القول بأن نجاح الدولة المصرية في التعامل مع الأزمة التي يشهدها قطاع غزة، عكست قدرة كبيرة على استثمار الدبلوماسية في تحقيق الأهداف الإنسانية، في الوقت الذي يمكن أن تكون فيه السياسات الإغاثية ذات الطابع الإنساني سبيلا لتحقيق مصالح الدول، ومن ثم تحقيق الاستقرار الإقليمي بصورته الجمعية، وهو ما يمثل التحدي الأكبر والهدف الأسمى الذي تتبناه الدولة، في السنوات الماضية، والذي يقوم على تعزيز "المناعة" لدى مناطقها الجغرافية في مواجهة ما يطرأ عليها من محاولات لهز الاستقرار وبث الفوضى، خاصة بعد تجربة العقد الماضي، إبان "الربيع العربي"، وما نجم عنها من صراعات أهلية وبينية، كادت أن تطيح بالمنطقة بأسرها.