• التصعيد في "القطاع المأزوم" يجر المنطقة والعالم طوعًا أو كرهًا لسيناريوهات قاتمة
• تسريح فيالق قوات الاحتياط يؤكد اعتراف إسرائيل بـ«خطيئة» التصعيد في قطاع غزة
• طموحات إسرائيل التوسعية على حساب دول الجوار وضعت الجميع أمام خيار صفري
• اسرائيل تشرف "بيدها لا بيد الغير" على سقوط في دائرة حرب إقليمية متعددة الجبهات
• جبهات اليمن والعراق وسوريا ولبنان وإيران تتأهب لاعتقال إسرائيل في "الفخ الغزاوي"
• "مترو أنفاق" غزة يقود تل أبيب حتمًا إلى "حرب شوارع" تكرر صدمة موقعة 7 أكتوبر
عكست تحذيرات الرئيس السيسي من اندلاع حرب إقليمية حال تمادي التصعيد في قطاع غزة، رؤية واعية لرجل استخبارات يفطن جيدًا لأبعاد الصراعات، وسهولة انزلاقها نحو أكثر من جبهة في الشرق الأوسط؛ لاسيما في ضوء تقاطع التهابات خطوط التماس الإقليمية المباشرة وغيرها مع توترات الداخل والخارج الإسرائيلي منذ فترة ليست بالقليلة.
التطورات في قطاع غزة سكبت مزيدًا من الزيت على الوقود، وحرضت على إنعاش سيناريوهات، أرجأتها في السابق أولويات الأهداف، وربما انشغال بقتامة الأوضاع الاقتصادية إقليميًا ودوليًا، أو حتى جائحة «كورونا». لكن تسريع وتيرة الحرب في غزة، وما انطوى عليها من طموحات توسعية على حساب دول الجوار، وضع الجميع أمام خيار صفري، لن يقتصر في خطورته على جبهات إقليمية فقط، وإنما قد يجر العالم طوعًا أو كرهًا لمزيد من التناحر واستنزاف الطاقات على مسرح عمليات الشرق الأوسط، بعد إهدار جانبها الأكبر في الساحة الأوكرانية، لاسيما بعد إعلان الصين وروسيا تبني موقف موحَّد إزاء القضية الفلسطينية، يناوئ موقف معسكر الغرب وفي طليعته الولايات المتحدة من القضية ذاتها.
لقد أدركت إسرائيل خطيئة التصعيد في غزة، و«تجاوزها حد الدفاع النفس إلى عقاب جماعي»، حسب تعبير الرئيس السيسي أمام وزير الخارجية أنتوني بلينكن؛ ولعل ذلك أيضًا هو ما أربك دوائر صنع القرار في تل أبيب، وفرض عليها قسرًا إعادة التفكير في تصعيد أكبر باجتياح القطاع برًا؛ فبعد استدعاء قوات الاحتياط داخل وخارج إسرائيل، أصدر مجلس الحرب بقيادة نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالنت، ووزير الدفاع الأسبق بني جانتس قرارًا مفاجئًا بتسريح جانب كبير من الاحتياط!
نفق مظلم
وبعيدًا عن تفسيرات مطاطية للخطوة، لا تعكس سوى عجز إسرائيل عن طريقة للنزول من أعلى الشجرة، لم تفطن تل أبيب من البداية - حتى قبل حرب غزة - إلى سقوطها في نفق مظلم، ضاعف اقترابها من دائرة حرب متعددة الجبهات؛ فإذا كان مبررها الحالي هو ثبر ثغرة الردع، التي اخترقتها المقاومة الفلسطينية في موقعة السابع من أكتوبر الجاري، فمسؤولية ثغرة الردع ملقاه على عاتق حكومة نتنياهو منذ أول أيام تشكيلها، حسب تقدير موقف أعده «معهد القدس للاستراتيجية والأمن» الإسرائيلي بتاريخ 17 أبريل 2023، وجاء فيه:
"لقد بات الخارج ينظر إلى إسرائيل على أنها مجتمع ممزق، يفقد تدريجيًا قدرته على العمل. الدول الصديقة، لاسيما تلك التي وقعت على الاتفاقات الإبراهيمية، واعتمدت بكل ثقلها على مكانة إسرائيل الاستراتيجية في المنطقة، أضحت تتابع بذهول صراع الداخل الإسرائيلي، وأدركت أن دولة إسرائيل تواجه تهديدات قد تؤدي إلى تفكيك قدرتها العسكرية. أما أعداء إسرائيل فاكتسبوا مزيد من الثقة في أنفسهم، وتوقعوا أن تفضي التوترات الداخلية لدى إسرائيل إلى تدمير الدولة العبرية ذاتيًا، وفقًا لنظرية «شبكة العنكبوت الواهنة".
إذا لم يكن ذلك كافيًا لإثبات تآكل قوة الردع الإسرائيلية على المستوى الإقليمي وقبل شهور من 7 أكتوبر الجاري؛ فرئيس هيئة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق الجنرال عاموس يادلين، حذر من سقوط إسرائيل «بيدها لا بيد الغير» في دائرة حرب متعددة الجبهات؛ وعزا تحذيراته لعدة أسباب، أدرجها في تقريره المنشور بصحيفة «جلوبس» العبرية بتاريخ 17 سبتمبر 2023، ومنها: «إثارة أعمال العنف في الحرم القدسي، وهجمات سلاح الجو الإسرائيلي المتكررة على سوريا، وإشعال التوتر على الحدود اللبنانية، واجترار غضب إيران غير مرة بعمليات نوعية برًا وبحرًا وجوًا».
كماشة جبهتين
الجنرال المتقاعد الذي شارك في عملية «أوبرا أو بابل» (قصف مفاعل نووي عراقي قيد الإنشاء عام 1981)، عاد بالتاريخ إلى الوراء، وقال نصًا: « قبل 50 عامًا، وفي حرب «يوم الغفران» عام 1973، واجهت إسرائيل هجومًا مشتركًا من الجنوب والشمال، ما وضعها وسط تهديد خطير. حينها أدركت مصر وسوريا الميزة العملياتية والاستراتيجية الواضحة للهجوم من عدة جبهات في نفس الوقت، ونفذتا ذلك بشكل غير متوقع، واستفادتا من تهاون إسرائيل وغطرستها».
وإذا كانت إسرائيل قد انحصرت بين كماشة جبهتين في الشمال والجنوب عام 1973، فدائرة الخطر في ظل التطورات الإقليمية الحاصلة باتت أكثر اتساعًا؛ فإلى جانب اعتراض مدمرة أمريكية متمركزة في البحر الأحمر 3 صواريخ أرض – أرض، وعدد من المسيَّرات في 19 أكتوبر الجاري، كانت في طريقها من سواحل اليمن إلى العمق الإسرائيلي، وفق تقديرات «البنتاجون»، استعرضت إيران في 20 أكتوبر الجاري، وعلى طريق طهران - قم السريع، جانبًا من منظومة قاذفات صواريخها البالستية.
ورغم تعتيم طهران على برامج صواريخها البالستية، لكن دوائر الأبحاث الإسرائيلية وضعت تصورًا لقوة البرنامج الإيراني؛ إذ تفيد بيانات تقرير نشره موقع «نتسيف» المحسوب على حقل تل أبيب الاستخباراتي بامتلاك إيران ترسانة من الصواريخ البالستية متعددة المدى، يتراوح قوامها ما بين 1000 إلى 2000 صاروخ؛ بالإضافة إلى حزمة لا تقل عن ذلك من صواريخ جو – جو، وجو – أرض، وأرض – جو، وأرض – بحر، وبحر – بحر؛ فضلًا عن تطوير إيران لصواريخ فضائية، قادرة على حمل أقمار اصطناعية ذات مدارات منخفضة.
الدفاع والردع
وبينما تعتبر الدولة الفارسية برنامجها الصاروخي جزءًا من استراتيجية الدفاع والردع ضد جبهات معادية، خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل، تسوق الأخيرتان إلى تهديد الصواريخ الإيرانية للأمن الإقليمي والدولي؛ لكن إيران لا تكترث بتلك المواقف، وتسعى إلى تطوير دقة، ومدى، وسرعة، وقدرة إطلاق وتأثير نيران ترسانتها الصاروخية.
وفيما عزا مراقبون إطلاق الصواريخ الـ3 والمسيَّرات، التي كانت في طريقها للعمق الإسرائيلي إلى ذراع إيران المسلح في اليمن (الحوثيين)، حذرت دوائر إسرائيلية من خطورة فتح جبهة في الشمال الإسرائيلي، أو بالأحرى اندلاع «حرب لبنان ثالثة» تزامنًا مع الحرب الدائرة في قطاع غزة.
وحسب ما نقله موقع قناة «أخبار 12» الإسرائيلية عن البروفيسور يجال هينكين، زميل «معهد القدس للاستراتيجية والأمن» الإسرائيلي، فإذا ساق حظ إسرائيل العسر إلى الصدام مع «حزب الله» على الجبهة الشمالية، فسينطوي الأمر على خطورة تفوق بكثير المواجهة خلال حرب لبنان الثانية عام 2006. وأضاف الخبير الإسرائيلي: «حزب الله يتمتع حاليًا بقوة نيران أكبر بكثير مما كان عليه في الحرب السابقة، بالإضافة إلى ترجيح تزامن المواجهة هذه المرة في الشمال مع أعمال شغب واضطرابات، تصل حد الانتفاضة الفعلية. وقد نرى أيضًا ما يعرف بـ«استراتيجية توحيد الساحات» المدعومة، من بين أمور أخرى، بالوسائل القتالية التي هربتها إيران إلى إسرائيل خلال العامين الماضيين».
أما البروفيسور إيلي كارمون، الباحث في «معهد سياسات مكافحة الإرهاب»، والمحاضر في جامعة «رايخمان» الإسرائيلية، فأكد أنه منذ حرب لبنان الثانية، أمدت إيران «حزب الله» بترسانة صاروخية ضخمة، تتراوح ما بين 100 ألف إلى 150 ألف صاروخ على الدقة في إصابة الهدف.
ترسانة صواريخ
تفصيلًا تشير تقديرات إسرائيلية موثقة، نشرها موقع القناة الإسرائيلية ذاتها إلى امتلاك «حزب الله» صواريخ «كاتيوشا»، يتراوح مداها ما بين 20 إلى 38 كيلو متر، وصواريخ «فجر 5»، التي يتراوح مداها ما بين 45 إلى 72 كيلو متر، ثم صواريخ من طراز «B-302» التي يصل مداها إلى 110 كيلو متر، وصواريخ «زلزال 2» بمدى يصل إلى 210 كيلو متر، وصواريخ «M-600» بمدى يصل إلى 250 كيلو متر، وصواريخ من طراز «سكاد D» بمدى يصل إلى 700 كيلو متر.
ووفقًا لتقرير أعده مركز «عالما» الإسرائيلي في فبراير 2022، شملت ترسانة صواريخ وقذائف هاون «حزب الله» في هذا الوقت ما يربو على 5 آلاف صاروخ طويل ومتوسط المدى (200 كيلو متر أو أكثر)، و65 ألف صاروخ أو قذيفة قصيرة المدى (45 كيلو متر و200 كيلو متر)، ونحو 145 ألف قذيفة هاون (يصل مداها إلى 20 كيلو متر).
وتؤشر تلك المعطيات إلى أن تعزيز تسليح «حزب الله» في الوقت الراهن بعدد كبير من الصواريخ بعيدة المدى والمسيَّرات بمختلف أنواعها، إلى جانب تعزيز قواته البرية بالدبابات والقدرات الحديثة المضادة للدبابات، يثبت أن إيران ترى أن جيش «حزب الله» هو القوة الوحيدة القادرة على مهاجمة إسرائيل إذا دعت الحاجة.
تكتل الجبهات
وبعيدًا عن «حزب الله»، حذر مراقبون في تل أبيب من تكتل جبهات أخرى موالية لإيران في المنطقة؛ فإلى جانب الحوثيين في اليمن، لايمكن استبعاد اشتباك المليشيات الشيعية في العراق وسوريا مع إسرائيل والقوات المتحالفة معها في شرق البحر المتوسط حال اجتياح قوات الاحتلال قطاع غزة، لاسيما بعد زيارة مسؤوليين عسكريين إيرانيين سوريا والعراق مع بداية العدوان على غزة المعروف إسرائيليًا بـ«السيوف الحديدية».
ولا يستبعد تقرير نشرته صحيفة «معاريف» تنسيق إيران مع أذرعها العسكرية في المنطقة لمجابهة إسرائيل، خاصة إذا حصل «حزب الله» على ضوء أخضر للشروع في الاشتباك. وحول تقييم التجاذبات الأخيرة بين إسرائيل والحزب المحسوب على إيران، رأت الصحيفة أن ما جرى لا يعدو كونه مجرد مناوشات، وأن ساعة صفر المواجهة الحقيقية مرهونة بإطلاق إسرائيل عمليتها البرية في القطاع. ولا يقلل تقرير الصحيفة العبرية من تعاظم قوة «حزب الله» خلال السنوات الأخيرة، وامتلاكه ترسانة صاروخية بالغة الدقة في إصابة الهدف، يمكنها تهديد جبهة إسرائيل الداخلية؛ فضلًا عن تجارب الحزب القتالية في سوريا، التي صقلت عناصره عسكريًا، وأحالتها إلى قنبلة موقوتة على جبهة إسرائيل الشمالية.
أخيرًا، لا يبتعد الخطر الغزاوي نفسه عن ناظري إسرائيل، فالقطاع أضحى ملغمًا منذ فترة ليست بالقليلة بشبكة أنفاق، تسميها إسرائيل «مترو غزة»، وربما تستحيل العملية البرية المتوقعة إلى فخ، يورط إسرائيل في «حرب شوارع» غير مأمونة العواقب، تزيد سخط الداخل الإسرائيلي على قيادته بعد واقعة 7 أكتوبر الجاري. ورغم اهتمام لندن وواشنطن على وجه الخصوص بتفادي احتمالات التورط الإسرائيلي في فخ غزة، وحرصها على توفير قوات من النخبة (خاصة) لمشاركة إسرائيل عملية الاجتياح المزمعة، تحذر دوائر تقدير الموقف الإسرائيلي من التعويل على قوات أجنبية "لن يُنسب لها الفشل حينئذ بقدر انتسابه للجيش الإسرائيلي".
وللحديث بقية..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة