بين صدمة وأخرى أكثر ترويعا ينتشر الموت بوجع لا مثيل له يمتد نازفا في طابور طويل، وعلى وقع مجزرة المستشفي الأهلي المعمداني يُكتَب هذا المقال مكللا بالحزن الشديد، ليس فقط على الأطفال الأبرياء الذين سقطوا هناك، معتقدين أنه يمكن أن يحميهم من هول الحرب.. هكذا اعتقدوا الذي يقصف يلتزم بقوانينها، وأن الطائرات التي تحرث سماء غزة يمكن أن ترحمهم وسط السعار الذي يظهره قادة الحرب في اسرائيل بل أيضا بسبب الصمت الذي يلف العالم.
هذا هو ثمرة الدعم الأمريكي بلا حدود، هذا هو الدعم الدولي والتعاطف غير المسبوق مع دولة لن تتورع عن ارتكاب كل الفظائع، وقد فعلت مرارا في حروب عربية وفلسطينية سابقا بدء من دير ياسين مرورا ببحر البقر وقانا وليس انتهاء بالمستشفى المعمداني، لأن اليد على زناد الصاروخ بلا خوف من مجتمع دولي أو محاكمة أو عقاب وقد كانت النتيجة وتكون.
منذ أيام الحرب الأولى جاء وزير الخارجية الاميركي ليعلن يهوديته متخليا للحظة عن دوره كممثل للدولة الكبرى ووسيط بين الفلسطينيين واسرائيل وخلفه رئيسا أطلق اليد الإسرائيلية المدججة بالسلاح بلا حساب ضد شعب يتكدس في بقعة صغيرة تحصد فيها كل ضربة االعشرات بل المئات .
غزة شكلت كابوسا للاحتلال منذ خمسينات القرن الماضي ومجموعات الشهيد مصطفى حافظ ثم تتكفل تلك المنظقة الصغيرة بإعادة بعث الهوية الوطنية على يد أبنائها ثم تطلق حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح العمود الفقري للحركة الوطنية التي قارعت اسرائيل لعقود وكذلك تنتج حركة الجهاد الإسلامي وبعدها حماس والإنتفاضة الاولى والحروب المتكررة محافظة على إدامة الإشتباك مع الإحتلال وهو ما تمناه رابين يوما أن يجد البحر قد ابتلعها .
في السابع من أكتوبر قامت مجموعات من حركة حماس بإقتحام الحدود الشرقية للقطاع والهجوم على البلدات والمقرات العسكرية الإسرائيلية وبضمنها قيادة مقر فرقة غزة التي تدير عمليات الحصار والحروب على القطاع وهي الفرقة على أهبة الإستعداد دوما والتي لا تتوقف زيارات المسؤولين السياسيين لتلك الفرقة كرمز للقوة ومتابعة الإخطار التي تتهدد اسرائيل من غزة كمكان شكَّل هذا الصداع المزمن لأمن اسرائيل .
فقدت إسرائيل توازنها وهي تقصف بمنطق الانتقام لا منطق الحروب، ولكنها وسط ذلك كانت تستغل اللحظة لا لتصفية الحساب مع حركة حماس، بل لتصفية الحساب مع قطاع غزة وأبعد من ذلك بتنفيذ الخطة القديمة بدفع السكان نحو سيناء داخل الحدود المصرية تحت ستار الضربة الشديدة التي أصابتها أمام العالم وغطاء العطف والضوء الأخضر والدعم الذي تلقته وقد قالها نتنياهو في اليوم الأول أن على سكان غزة الخروج من منازلهم ثم وزير دفاعه بأن واقع القطاع سيتغير لخمسة عقود قادمة فيما كان كان طلب الجيش الإسرائيلي بدفع سكان شمال القطاع إلى جنوب وادي غزة والذين يبلغ عددهم نصف سكان القطاع نحو جنوبه الذي لم يتوقف فيه القصف والدمار .
وبانعدام الحياة في الجنوب حيث لا ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا غذاء وملاحقة الموت ستجد الناس نفسها تذهب أكثر نحو الجنوب أكثر داخل الحدود المصرية التي لن تتوانى عن إغاثة الأخ الملهوف كما اعتقد الإسرائيلي وهكذا يسدل الستار على الكابوس المزمن وللأبد حين تُلقي بسكان غزة في حضن مصر .
القاهرة كانت مركز المخطط الذي كان سيتم تحت وقع السلاح واعتبرته تهديدا للأمن القومي، فسارعت بإغلاق المعبر بالكتل الخرسانية والتحذير من النية الإسرائيلية المعلنة بدا الموقف المصري أكثر حدة كأنه يدافع عن القاهرة وليس عن غزة، رافضا إخراج الأجانب من غزة من رعايا الدول الغربية بما فيها رعايا الولايات المتحدة الأميركية قبل السماح بإدخال المساعدات الإنسانية لتعزيز صمود الناس في القطاع لإجهاض خطة التهجير.
شاء قدر الجغرافيا أن تجاور غزة مصر لتتحمل القاهرة منذ نكبة الفلسطينيين مسؤلية ذلك الجوار وها هي غزة تتعرض لعملية سحق كبيرة ما يرفع تلك المسؤولية وخصوصا أن الامر يستهدفها هذه المرة وليس كالحروب السابقة التي شنتها اسرائيل على القطاع ولكن الأهم أن مصر الدولة المركزية الكبرى ولأسباب تاريخية والمكانة فإن الحرب التي تشنها اسرائيل إن استمرت تشكل مساسا معنويا لمكانة الدولة المصرية الأمر الذي يجعل مصر تتحرك مبكرا في كل الحروب لوقف العدوان .
هذه المرة مصر في قلب الحدث، وهو في الداخل وليس على الجدار و يشكل فرصة للدولة المصرية لإعادة للإمساك بقوة أكثر بالملف الفلسطيني بعد التداخلات الكثيرة التي تمت خلال الفترة السابقة وخصوصا أن التهديد وصل عتبتها وربما أن هذا ما دعا الرئيس المصري لعقد اجتماع مجلس الأمن القومي نظرا لخطورة الأمر .
تبدو القاهرة كأنها تلتقط اللحظة الحرجة بدعوتها لعقد قمة إقليمية ودولية السبت القادم، لكن وبعد مذبحة المستشفى المعمداني لم يعد الحديث عن ممرات انسانية في حرب متوحشة يتلاءم مع طبيعة تلك اللحظة. من هنا فإن الحديث المصري عن بحث سياسي للقضية الفلسطينية هو أكثر إدراكا لطبيعة الموقف فقد باتت اسرائيل التي لم تصمد أمام مجموعة محلية أكثر ضعفا في مواجهة المطالب العربية والدولية ويفترض أنها أقل قوة في ممانعة التسويات السياسية طالما أنها لم تعد قادرة على حماية نفسها كما كانت تدعي فلماذا هذا التصلب ؟
هل أدركت القاهرة أن هذه فرصة لممارسة السياسة بعد أن انكسر الرأس الإسرائيلي اليابس ؟ وبعد إدراك اسرائيل أن اعتقادها بسهولة تنفيذ ما تخطط له هو مجرد وهم ؟ يقول المفكر العسكري البروسي كلاوتزفيتز " الحرب هي محرك للسياسة بوسائل أخرى " فهل تجيء قمة السبت وفقا لنظرية كلاوتزفيتز ؟ ولكن تلك تحتاج إلى صرامة مصرية بحجم ثقلها كدولة مركز أمام الولايات المتحدة وقد ظهرت نذرها بمنع مرور الأجانب وبإلغاء قمة عمان مع بايدن ، هناك ظرف يؤهل لذلك ، تلك الصرامة حدها ستضمن نجاح الدور السياسي المصري حين ترفع القاهرة بطاقتها الحمراء كدولة كبرى لها مصالحها ولها ثقلها ومسؤوليتها بحماية الفلسطينيين دما وحقوقا سياسية ، لكن الأولوية الآن لوقف الحرب والدم الذي يسيل بلا رحمة ثم جس نبض السياسة في ظل مستجدات فرضتها الحرب احدثت تشققا في الجدار الحديدي للقوة الإسرائيلية.
كاتب فلسطيني مقيم في لندن
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة