وائل السمري يكتب: فيلم شابيلا.. الأبعاد الثلاثة للسياسة والفن والإنسانية.. جسد معاناة الصوماليين وانتصر لقضية المناخ والتوجهات العميقة لمصر وحارب الإرهاب وكتب شهادة ميلاد لوثائقيات "القاهرة الإخبارية"

الجمعة، 13 يناير 2023 03:43 م
وائل السمري يكتب: فيلم شابيلا.. الأبعاد الثلاثة للسياسة والفن والإنسانية.. جسد معاناة الصوماليين وانتصر لقضية المناخ والتوجهات العميقة لمصر وحارب الإرهاب وكتب شهادة ميلاد لوثائقيات "القاهرة الإخبارية" وائل السمرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لأن الشيء بالشيء يذكر، فقد استدعى ذلك الاسم ما يشبه.

شابيلا.. في جنوب الصومال التي جف عنها المطر لمدة عامين وعانى أهلها من الجوع والحرب والبرد والتشرد، وضاعفت من كربهم حروب متتاليات.

وشاتيلا ذلك المخيم الذي نزح إليه الفلسطينيون بعد احتلال أراضيهم وصار مسرحًا للعديد من المآسي الإنسانية المؤلمة، والذكريات العربية الموغلة في الوجع.

شابيلا في الجنوب، وشاتيلا في الشمال، الفارق بينهما حرف واحد، وحتى ذلك الحرف المختلف، قريب الشبه والتشكيل من الآخر، فحرب الباء في القرية الصومالية، يقابله حرف التاء في المخيم الشهير، وهي المقابلة التي تجعل المفارقة شبيه "بسخرية القدر" وكأن هذا القرب دل على المصير.

أعلنت قناة القاهرة الإخبارية عن الفيلم الوثائقي الجديد، فتدافعت الأفكار إلى ذهني متزاحة، وشكل صوت محمود درويش شاعر فلسطين الأكبر وشاعر العربية الشهير ما يشبه الخلفية الموسيقية

أنا الحجر الذي شدَّ البحار إلى قُرون اليابسهْ

وأنا نبيُّ الأنبياءِ

وشاعرُ الشعراءِ

منذ رسائل المصريِّ في الوادي إلى أشلاء طفل في شاتيلا

أنا أوَّلُ القتلى وآخر مَنْ يموتْ

إنجيلُ أعدائي وتوراةُ الوصايا اليائسهْ

دخلت إلى قاعة العرض الخاص الذي نظمته القناة للصحفيين والإعلاميين والمهتمين وصاحبتني هذه الأبيات، غير أني بالطبع قد استبدلت كلمة "شابيلا" بكلمة "شاتيلا" لتستمر الدهشة إلى ما بعد ذلك، ويستمر التشابه إلى أبعد ما أتصور.

يحكي الفيلم الذي صاغه الدكتور محمد سعيد محفوظ بمهنية واقتدار مأساة قرية "شابيلا" الصومالية، وبحسب حديث أحمد معلم فقي وزير الشئون الداخلية بالصومال، فيعتمد حوالي 70 % من سكان الصومال على حرفة الرعي في كسب أقواتهم وإقامة حياتهم، وحينما جف المطر وعم الجدب واشتد الجفاف لخسمة مواسم متتالية عانى حوالي 7 ملايين من الشعب الصومال تضررًا بالغًا بسبب الجفاف فاضطر المزارعون إلى الرحيل الاضطراري

بلادي البعيدةَ عنّي.. كقلبي!

بلادي القريبةَ مني.. كسجني!

لماذا أغنّي

ومع موسيقى تصويرية ملهمة، ممزوجة بنعيق الغربان، ومصاحبة لمشهد الأرض التي أجبرها الجفاف على التشقق، تمضى أحداث الفيلم ومقابلاته، فيجمل "محمود معلم" مدير هيئة الكوارث الصومالية أسباب المأساة، فيقول إن التغيرات المناخية العالمية شكلت عاملا كبيرا لتفاقم الأزمة، يضاف إليها ما تمر به الصومال من مواسم جفاف قاسية، وما أجج الوضع وفاقم الأزمة ذلك الوضع الأمني المضطرب الذي تعيشه الصومال، فقد ترك ترك أهالي شابيلا منازلهم بدافع تلك الظروف المأساوية وفروا باتجاه العاصمة طلبا للغوث، ناصبين خيامهم في العراء، في معسكر دل اسمه على بشاعته.

لمَ ترحلونَ

وتتركون نساءكم في بطن ليلٍ من حديد؟

لمَ ترحلونْ

وتعلّقون مساءكم

فوق المخيم والنشيد؟

هكذا قال محمود درويش في وصف أهالي "صبرا وشاتيلا" وهو ما ينطبق أيضًا على أهالي شابيلا الذين علقوا المساء بلونه الكابي على نهاراتهم ولياليهم على حد سواء، بل أنهم أطلقوا اسم "معسكر القبور" على البقعة التي استوطنوا فيها، في رسالة مباشرة إلى المصير المحتوم. وهي المفارقة التي لفتت نظر الكاتب والمخرج الدكتور "محمد السعيد محفوظ" أيضا، وقد حرص "محفوظ" على قراءة دلالة الأسماء بعناية وتأمل، فذكر أن بقرب هذا المعسكر من مقابر المدينة أثر في تسميته، وكذلك لأن الجوع والعطش كثيرًا ما يجعل أهالي المخيم ينظرون إلى خيامهم المنصوبة وكأنهم شواهد لقبور مستقبلية، وفي موضع آخر يتأمل "محفوظ" اسم قرية أخرى هي قرية "كمد" التي يرجعها إلى معناها العربي الدال على الحزن الشديد، وهو الأمر الذي أثرى الفيلم "رؤيويا" وساعد المشاهد على قراءة الفيلم وكأنه قصيدة شعرية.

من أجواء فيلم شابيلا (1)
من أجواء فيلم شابيلا 

بيوت من خيش، ومدارس من صفيح، وصوت الأطفال يستعيذ "برب الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس" فما نفعت الدعوات ولا تحققت الأمنيات.

يعيش أهالي "معسكر القبور" تحت الحصار، حصار الجوع والعطش، حصار الفقر والجهل، حصار المرض والقصص الحزينة، جزء من هذه المأساة ترويها "خديجة مادو" التي فقدت ثلاثة من أولادها الست، بعد أن أصابتهم الحمى ولم تجد لهم دواء ولا غذاء ولا ماء، أنا لا أعترض فكل ما يحدث قدر من الله.. لكني لا أستطيع أن أنسى لحظة دفن أطفالي بيدي"

 

 

 

رحلوا وما قالوا شيئا عن العودة

ذبلوا وما مالوا عن جمرة الوردة!

هذا ما فعلته الطبيعة الغاضبة، والجغرافيا القاسية، فلا وجود هنا للحديث عن "قضية المناخ" فالمناخ هو من يتحدث بنفسه، قال المناخ جفافا فكان جفاف، ثم كان الضحايا وكان الألم، ولم يترك الإنسان هذا الوضع على حاله، فلعلت يد شر لعبتها، ويد الشر هنا أسمها "حركة شباب المجاهدين الإسلامية" التي لم تترك الموجوعين بأوجاعهم، ولم تترك الأطفال اليتامى ولا الآباء الثكالى، ولم تترك ما يأتي من عند الله يصل إلى عباد الله، فقطعت الأرزاق واستولت على المعونات التي تمنحها بعض الدول للاجئين، وفرضت الأتاوات على البؤساء.

من أجواء فيلم شابيلا (2)
من أجواء فيلم شابيلا

أضافت "حركة شباب المجاهدين الإسلامية" للمأساة بعدًا آخر، فيد الطبيعة القاسية تعتبر رحمة مهداة إذا ما قارناها بيد تلك الحركة السوداء، فقد يرحل المزارعون إذا ما جفت الأرض ومات الزرع في أمان وسلام، لكن أن يرحل المزارعون وفوق رؤوسهم وابل من رصاص ودانات من مدافع فذلك شيئا آخر.

كم مرة ستسافرون

وإلى متى ستسافرون

ولأي حلم؟

وإذا رجعتم ذات يوم

فلأي منفى ترجعون

لأي منفى ترجعون؟ الوجع الذي عاشه الفلسطينيون في "شاتيلا" يعيشه الآن الصوماليون في "شابيلا" والأخطار مضاعفة، والآلام في ازدياد، ومنذ أن تأسست تلك الحركة الإرهابية، والجميع في المعاناة سواسية، وقد أنشأت تلك الحركة كذراع عسكري لاتحاد المحاكم الإسلامية في 2004، وهي في الحقيقية ليست أكثر من ذراع عسكري لتنظيم القاعدة الإرهابي، وقد هزمت تلك الحركة على يد القوات الحكومية في العاصمة مقديشو، لكن فلولها مازالت تزرع الاضرابات في القرى المنكوبة، تضرب في قسوة، وتهرب في جبن، وهو ما استدعى إنشاء مقاومة من نوع خاص، حملت اسم حركة "حشد العشائر" التي تحارب الآن "حركة شباب المجاهدين" في أوكارها، بكل ما يتيسر لها من قوة.

من أجواء فيلم شابيلا (3)
من أجواء فيلم شابيلا 

عادوا وما عادوا لبداية الرحلة

والعمر أولادٌ هربوا من القبلة.

وقد يظن من يطالع فيلم "شابيلا" أنه كل تلك المصائب هي آخر ما يمكن أن تصاب به أمة، لكن للأسف فقد خبأ القدر لهذا البلد المسكين ما لم يكن في الحسبان، فألقت الحرب الروسية الأوكرانية بأوزارها على هؤلاء الضعفاء الذي يعتبرون السكن في بيوت من صفيح من أغلى الآمال وأثمنها، وقد أثرت تلك الحرب التي يعيش العالم متألما بسببها في حجم المعونات التي يتلقاها الشعب الصومالي، كما ضاعفت من أزمة نقص الغذاء، وأشعلت الأسعار وقللت من حجم البضائع المعروضة في الأسواق.

من أجواء فيلم شابيلا (4)
من أجواء فيلم شابيلا

لا أمل ولا خلاص إلا في مساعدة دول العالم لنا، هكذا يلخص غالبية المتحدثين من المسئولين والمتخصصين تصورهم للحل، وتخبرنا الذاكرة بأن مثل هذه الحلول كانت تؤتي بثمارها في الماضي، حينما كنا نشهد اهتمامًا إعلاميًا بالشأن الإنساني، فكانت تخطط الحملات وتقوم الكثير من الهيئات والنقابات بحملات للتبرعات، لكن هذا للأسف لم يعد في الحسبان.

خديجةُ ! لا تغلقي الباب

لا تدخلي في الغياب

سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل

سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل

سنطردهم من هواء الجليل.

برغم كل هذا الألم تأتي بارقة من نور في حديث محمود علم رئيس هيئة الكوارث في الصومال الذي قال إنه يثمن الدور المصري في بلده، شاكرًا الرئيس عبد الفتاح السيسي على دعمه الكبير لبلاده، كما أشاد أيضا بما تتبناه مصر من مشاريع تنموية للقارة الأفريقية، وحرصه الدائم على تبني قضية الغذاء والمناخ.

من أجواء فيلم شابيلا (6)
من أجواء فيلم شابيلا 

مزج فيلم "شابيلا" بين عمق الرؤية وبراعة التوثيق ودقة الاختيار، وأعاد بتلك النقلة النوعية من صناعة المحتوى الثقة في ما يمكن أن يضيفه الإعلام المصري من قضايا جادة وإنسانية على مائدة الإعلام العربي، وقد ضرب الفيلم مثالا حيا على عدالة القضايا التي تتبناها الدولة المصرية، وقدم على أهميتها أكثر من دليل، فمصر تتبنى قضية المناخ عالميا، ورعت ونظم مؤتمر المناخ العالمي منذ أشهر قليلة، وهذه هي آثار تقلبات المناخ لمن لا يريد أن يصدقنا، ومصر تحارب الإرهاب منذ عقود، وقد دفعت من أقواتها وأعمار شبابها ما يضيق عن الحصر، وهذه آثار الإرهاب لمن لا يعرفون، ومصر تجاهد ببسالة كبيرة للحفاظ على استقرارها، وهذه هي نتيجة عدم الاستقرار، ومصر تتبنى القضايا الأفريقية، وتضع التوجه إلى تنمية القارة الأفريقية نص عينها، وهذه هي الأسباب.

من أجواء فيلم شابيلا (7)
من أجواء فيلم شابيلا 

امتاز الفيلم بعمقه الفكري وقد كل ما يمكن أن نتحدث عنه "نظريا" في صورة واقعية صادمة، كما توغل في المجتمع الصومالي بشكل يكاد يصبغ عليه الصبغة المحلية، وقد خاض فريق عمل الفيلم صعابا كثيرة من أجل إتمام مهمتهم، متحملين في ذلك تهديدا أمنيا، وغربة قاسية وظروف حياتيه غير ملائمة على الإطلاق، وهو أمر يجب أن نشكرهم عليه مثمنين تلك الرسالة السامية التي حملوها على عاتقهم، ويبقي أن نقول إن هذا الاهتمام الكبير بقضايا القارة الأفريقية لم يكن وليد اليوم، وهذا ما أشار إليه في التفاتة ذكية الكاتب الصحفي الكبير أحمد الطاهري رئيس القطاع الإخباري في الشركة المتحدة في تعليقه على الفيلم بعد مشاهدة العرض الخاص، فقد قدمت الدبلوماسية المصرية أول شهدائها على أرض الصومال في العام 1957، وقد كان هذا الشهيد كمال صلاح الدين الذي لقب بجيفارا الصومال من أهم المناضلين الذين حاربوا الاستعمار في الصومال وسعى إلى صناعة نهضة اجتماعية وثقافية كبيرة في أرجاء الصومال ولم يجد الاستعمار طريقا لإزاحته إلا الاغتيال، وقد عكس هذا الاشتهاد البليغ مدى ما يتمتع به رئيس قطاع الأخبار من ثقافة واسعة وعمق في الرؤية وأحاطة شاملة بملف السياسية المصرية الخارجية وقد كانت هذه المقومات سببا في حماسه الكبير لفكرة الفيلم التي اقترحها الدكتور محمد السعيد محفوظ ونفذها وبحسب تصريح "محفوظ" عقب الفيلم فقد كان لحماسة الطاهري الشديدة وتوفير قناة القاهرة كل أمكانياتها في تذليل كل الصعاب أكبر الأثر في خروج هذا الفيلم بهذه الصورة المشرفة.

من أجواء فيلم شابيلا (7)
من أجواء فيلم شابيلا
من أجواء فيلم شابيلا (8)
من أجواء فيلم شابيلا
من أجواء فيلم شابيلا (9)
من أجواء فيلم شابيلا 
من أجواء فيلم شابيلا (10)
من أجواء فيلم شابيلا 
من أجواء فيلم شابيلا (11)
من أجواء فيلم شابيلا 
من أجواء فيلم شابيلا (12)
من أجواء فيلم شابيلا 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة