أقلعت سفينة جيش الاحتلال الفرنسى من رشيد إلى القاهرة وعليها البطل محمد كريم يوم 4 أغسطس 1798، بعد قيام الجنرال كليبر حاكم الإسكندرية ونائب نابليون بونابرت فى قيادة الحملة الفرنسية على مصر بالقبض عليه يوم 20 يوليو 1798، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية، وتطور نظام الحكم فى مصر».
كان «كريم» محافظا للإسكندرية، ووفقا للرافعى فإن «كليبر» ارتاب فيه، بعد المقاومة الباسلة ضد القوات الفرنسية التى خرجت إلى دمنهور، ولم تكن القيادة الفرنسية تتوقعها، واستنتجت أن هناك مخابرات سرية بين الإسكندرية والمدن التى مر بها الفرنسيون، ولاحظت أن أهالى دمنهور كانوا على علم بقدومهم قبل وصولهم، فأعدوا العدة لحربهم.. يؤكد «الرافعى» أن كليبر اتهم «كريم» بأن له يدا فى هذه الأحداث، فقبض عليه، وبعث به إلى ظهر السفينة «ديبوا» بالإسكندرية، وأقلته إلى «أبوقير»، حيث كان الأسطول الفرنسى راسيا، وتم اعتقاله بالبارجة «أوريان» وفى سفينة الأميرال «برويس»، وفى 30 يوليو 1798، أرسله «برويس» إلى رشيد ليبعث به حاكمها الجنرال «منو» إلى القاهرة، ويذكر الرافعى: «كان «برويس» لا يفتأ يعامل السيد كريم بالاحترام حتى أنه كتب إلى منو كتابا ينبئه فيه أن السيد كريم ألح عليه فى أن يرسله إلى نابليون ويقول: «إنى لم أستطع أن أرفض رجاءه المتكرر البالغ نهاية التلطف، وأرجوكم إذا نزل برشيد أن تعاملوه باحترام».. يضيف الرافعى أن «برويس» كتب هذه الرسالة إلى «منو» لأنه لم يصله كتاب لنابليون بأنه تحقق من «خيانة» كريم، ويأمره أن يكبله فى الحديد ويسد عليه كل منفذ حتى لا يهرب.
وصل «كريم» إلى رشيد مطلق السراح، وفقا للرافعى، مضيفا: «كانت منزلته فى نفوس المصريين قد عظمت بسبب اعتقاله، وانتشرت محبته فى كل مكان، فلم يكد يعلم أهالى رشيد بمقدمه حتى سارعوا إلى ملاقاته بالحفاوة والتكريم مما اضطر الجنرال منو إلى القبض عليه والإسراع بإرساله إلى مصر «القاهرة»، وكتب منو إلى نابليون يقول: «إن السيد محمد كريم حضر إلى رشيد يوم 30 يوليو، فحدثت حركة كبيرة فى المدينة للحفاوة به وتهنئته، وحيال هذه المظاهرة رأيت القبض عليه وإرساله إلى القاهرة».
وصلت السفينة إلى القاهرة مساء 12 أغسطس 1798، وظل «كريم» مسجونا رهنا بالتحقيق الذى قام به الجنرال «ديبوى» حاكم القاهرة.. يذكر الرافعى: «استجوبه فى الاتهامات الموجهة إليه وهى، مراسلته لمراد بك وغيره من المماليك وعرب البحيرة، وانتهى التحقيق بثبوت التهمة عليه، فأصدر نابليون أمره فى 5 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1798 بإعدامه رميا بالرصاص، ومصادرة أملاكه وأمواله، وسمح له أن يفتدى نفسه بدفع غرامة ثلاثين ألف ريال فى 24 ساعة، ورفض «كريم» دفع هذا المبلغ وأظهر جلدا وشجاعة أمام حكم الإعدام».
يذكر «الرافعى» اعتمادا على الجزء الثالث من «التاريخ العلمى والحربى للحملة الفرنسية»، ومذكرات «بوريين» سكرتير نابليون، أن المستشرق «فانتور» كبير تراجمة الحملة الفرنسية نصح «كريم» بدفع الغرامة، وقال له: «إنك رجل غنى فماذا يضيرك أن تفتدى نفسك بهذا المبلغ؟.. فأجابه: «إذا كان مقدورا على أن أموت فلا يعصمنى من الموت أن أدفع هذا المبلغ، وإذا كان مقدرا لى الحياة فعلام أدفعه»، وظل على إصراره حتى إعدامه رميا بالرصاص فى ميدان الرميلة يوم 6 سبتمبر 1798.
يؤيد «الرافعى» رواية رفض «كريم» دفع الغرامة، ويرى أن رواية الجبرتى فى هذه المسألة تحديدا غير صحيحة، ويقول فيها: «حضر إليه «مجلون»، وقال له المطلوب منك كذا وكذا من المال، وذكر قدرا يعجز عنه، وأجله اثنتى عشرة ساعة وإن لم يحضر ذلك القدر يقتل بعد مضيها، فلما أصبح أرسل «كريم» إلى المشايخ وإلى أحمد المحروقى «كبير تجار القاهرة»، فحضر إليه بعضهم فترجاهم وتداخل عليهم واستغاث، وصار يقول: «اشترونى يا مسلمين، وليس بيدهم ما يفتدونه به، وكل إنسان مشغول بنفسه، ومتوقع لشىء يصيبه، فلما كان قرب الظهر وانقضى الأجل أركبوه حمارا واحتاط به عدة من العسكر بأيديهم السيوف المسلولة، وبقدمهم طبل يضربون عليه وشقوا به الصليبة، إلى أن ذهبوا إلى الرميلة، وكتفوه وربطوه مشبوحا وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمن يقتلونه، ثم قطعوا رأسه ورفعوها على نبوت وطافوا بها فى جهة الرميلة والمنادى يقول: «هذا جزاء من يخالف الفرنسيس».
يرى «الرافعى» أنه لو كانت رواية الجبرتى صحيحة لما فات الفرنسيون أن يذكروها ولما ذكروا رواية تشرف خصما لهم حكموا عليه بالإعدام، وعن أثر جريمة إعدامه يذكر «نقولا ترك» فى مذكراته «أخبار المشيخة الفرنساوية فى الديار المصرية: «كان حزن عظيم عند أهالى مصر لأنه رجل شريف من الأشراف، ومن ذلك الوقت فزت قلوب الرعايا الإسلام من الفرنساوية وأخذوا يضمرون الضمائر الخبيثة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة