انشغلت الصحف المصرية فى عام 1905 بسؤال طرحه أحمد حافظ عوض، الصحفى بجريدة اللواء وهو: أيهما أنفع للقطر المصرى فى حالته الحاضرة، الكتاتيب أم مدرسة عليا كلية؟
كان السؤال يدور حول ضرورة إنشاء جامعة فى مصر، بدلا من أن يكون مجال التعليم مقتصرا على الكتاتيب، ويذكر أحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديو عباس الثانى، أن السؤال استدرج كثيرا من الكتاب فى مناظرة على صفحات الجرائد المختلفة، وانتهت بغير طائل ولا نتيجة، ويؤكد أن الخطوة الأساسية الأولى فى بناء الجامعة بدأها مصطفى كامل الغمراوى بك، فى العام الذى يليه 1906، حيث رأى قصور المحصول العلمى فى مصر، وكان لزاما على من يريد استكمال معارفه التحول إلى أوروبا، وذلك بما فيه من مشقة فى السفر وبعد عن الأهل وإرهاق فى النفقات، ففكر فى إنشاء جامعة تضم كليات مختلفة على مثال جامعات أوروبا، تكفى طالبى العلم، وفكر فى الدعوة لمشروع الجامعة والتبرع لها، وكان ذلك فى بنى سويف، وكان مستشاره القانونى فى ذلك الأستاذ نجيب شقرا بك المحامى.
يؤكد شفيق، أن الخطوة الأولى العملية بدأت فى 30 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1906، بأن نشر نداء فى جميع الصحف العربية والأفرنجية فى مصر داعيا لفكرة الجامعة، مهيبا بالقادرين من الأمة أن ينزلوا الميدان، وقال فى ندائه:
«كثر بحث الجرائد فى الزمن الأخير بارتقاء المعارف فى مصر، والمعارف والعلوم، وقد استلفت أحد المحامين بمقالة نشرها فى إحدى الجرائد أنظار المرحوم منشاوى باشا إلى تخليد ذكره بإنشاء مدرسة جامعة، فصادف الاستلفات أذنا واعية، وكان فى نية المرحوم إنشاؤها لو لم يعاجله القضاء، فهل تعجز الأمة المصرية، وهى تزيد على عشرة ملايين، عن أن تقوم بمشروع حيوى نوى تنفيذه فرد واحد لم تكن ثروته تبلغ جزءا يسيرا من ثروة غيره من الأفراد؟.. وهل لا يعد إحجام أغنياء الأمة عن الاكتتاب دليلا على أنها لا تزال بعيدة عن الترقى الحقيقى؟.. وهل يعتقد الناس أن الوطنية تقوم بشقشقة اللسان أو ببذل النفس والنفيس فى سبيل الوطن وترقيته بالطرق التى تفيد ولا تضر؟ بالطرق التى يجمع عليها العقلاء المعتدلون».
يضيف: «هذه الأمور جالت فى خاطرى زمنا، ووجدت أن من العار علينا أن نقف وغيرنا يتقدم، وأن نكتفى بالشكوى والتحسر من الزمان والأقدار، وحقنا أن نشكو من قلة وطنيتنا وبخلنا على الأعمال العظيمة المرقية للوطن، لذلك، ولاعتقادى بأن على كل منا دينا لوطنه، يجب وفاؤه وعدم المماطلة فيه، بادرت للاكتتاب بخمسمائة جنيه أفرنجى لمشروع إنشاء مدرسة جامعة مصرية على الشروط الآتية:
أولا: ألا تختص بجنس أو دين بل تكون لجميع سكان مصر على اختلاف جنسياتهم أوأديانهم، فتكون واسطة للألفة بينهم، ثانيا: أن تكون إدارتها فى السنين الأولى فى أيدى جماعة ممن يصلحون لإدارة مثل هذا المعهد العلمى الكبير، وتثبيت كفاءتهم للملأ..ثالثا: أن يكتتب على الأقل من سكان مصر كل منهم بمبلغ لا يقل عن مائة جنيه، ويجوز أن يزيد عن هذا المبلغ إلى ما شاء كرم الواهب وحبه لوطنه وللإنسانية، رابعا: أن يقام بناء هذه المدرسة الجامعة فى بقعة خلوية من أجمل بقاع مصر على شاطئ النيل، وتعمل لها حديقة من أجمل الحدائق وغير ذلك من الأمور التى يقررها المكتتبون».
يواصل الغمراوى: «يقينى أن كل من فى فؤاده ذرة من حب الوطن الحقيقى من الميسورين يجود بمائة جنيه أو أكثر لخير وطنه وخير أولاده، ليتربوا فى وطنهم التربية الحسنة، ولكى نبرهن للأمم الغربية على أن فينا بعض الاستعداد والكفاءة، وأملى أن جرائدنا تترك النزاع الشخصى وتنشئ المقالات الضافية فى استنهاض الهمم لإتمام هذا المشروع العظيم».
يختتم الغمراوى نداءه بقوله: «فى الختام، أقول إذا لم يجب هذا النداء ألف من أغنياء مصر، وهم ألوف عديدة، فلنخبئ وجوهنا أمام كل الأمم ولنعترف بأننا عاجزون عن مباراة الأجانب فى مضمار الحياة الأدبية، وها أنا ذا فى انتظار ما يكون، فلعل أغنياءنا يقبلون بكلياتهم على هذا المشروع المفيد لأفرادهم وللأمة، حتى يكون ذكر من يشترك منهم فى هذا العمل خالدا فى سجلات كبار الرجال، الذين كانت لهم الأيدى البيضاء فى ترقية أوطانهم، ويبقى لهم بين الخلق أثر جميل لا يمحى».
يكشف شفيق، أن الغمراوى حضر إلى مصر «القاهرة» بناء على برقية، وردت له من الشيخ على يوسف صاحب جريدة «المؤيد»، وأخبره يوسف بأن الخديو عباس راض تماما عن هذا المشروع ومشجع له، ويطلب منه الاستمرار فيه، ويذكر «شفيق» أنه تم الاتفاق على عقد الاجتماع الأول برضاء الجميع فى دار سعد زغلول بك «القاضى»، مساء الجمعة 12 أكتوبر 1906، وفى هذا اليوم غص المكان بالملبين للدعوة، ومنهم رجال للقضاء والعلم والسياسة والجاه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة