بعد ثورة 30 يونيو 2013، سيطر التشاؤم على البعض، ممن رأوا أن مصر باتت شبه محاصرة بتحالفات دولية وإقليمية تريد أن تعيد الدولة إلى الوضع الذى كانت عليه قبل هذه الثورة الشعبية غير المسبوقة، فهناك تحالفات تعمل بكل ما أوتيت من قوة على خنق الدولة والثورة الشعبية، كما أن هذه الفترة شهدت تحركات خارجية رسالتها كانت واضحة لكل المصريين، وهى أن العالم لن يقبل بنتائج هذه الثورة، ووصل الحال بمصر التى كانت المؤسس الرئيسى للاتحاد الأفريقى وقت أن كان بمسمى «منظمة الوحدة الأفريقية»، أصبحت عضويتها معلقة فى هذه المنظمة الإقليمية، واشتد الخناق الدولى حول مصر والمصريين، حتى فى ظل الوقفة القوية من جانب عدد من أشقائنا العرب والدول الصديقة التى رأت فى التغيرات المصرية تغيرا فى الخريطة السياسية الدولية، وهو ما يستتبع الوقوف بجانب مصر فى هذه اللحظة المصيرية التى تمر بها مصر.
كان البعض متشائما، لكن فى المقابل كان التفاؤل هو السمة السائدة لدى غالبية المصريين، رغم أن محيطنا الإقليمى بات شديد التعقيد بسبب الأزمات السياسية والأمنية فى المحيط المجاور لنا.
فى المشاركة المصرية الأولى بالجمعية العامة للأمم المتحدة بعد 30 يونيو، كنت شاهدا على تفاصيل كثيرة من تحركات مع وضد مصر فى نفس الوقت، وحاول الوفد المصرى فى نيويورك لملمة الأوراق، والبدء فى صياغة مواقف تعيد الاصطفاف الدولى حول مصر مرة أخرى، وبالفعل نجح فى الكثير، وإن كانت النظرة العامة لدى وفود كثيرة أن الوضع فى مصر يسير نحو المجهول، وأن نقطة الفصل ستكون بالانتخابات الرئاسية وما ستفرزه.
الجدل فى مصر فى هذه الفترة دار حول هذه النقطة تحديدا، فالانتخابات الرئاسية هى المفتاح الذى من خلاله سنفتح الأبواب المغلقة، لكن بقى السؤال، من سيملك هذا المفتاح؟
القرار كان لدى المصريين واضحا وصريحا، المفتاح بيد شخص واحد قادر على القيادة وإحداث التغيرات المطلوبة ليس فقط فى الداخل المصرى، وإنما فى السياسة الخارجية، وهو «المشير عبدالفتاح السيسى» حينها، خاصة أنه كان أحد الداعين إلى صياغة مفهوم جديدة لعلاقات مصر الخارجية يقوم على الندية فى التعامل، وتنويع العلاقات وعدم الاقتصار على وجهة واحدة، كما كان يحدث فى الماضى.
فى هذه اللحظة تحديدا، لحظة الأزمة، وجدت مصر رجلا استطاع أن يجعل من إرادته رمزا لإرادة الوطن، ومن تمسكه وإصراره على إنشاء سلطة دولة غير تلك التى كانت قبل ذلك، هذا الرجل هو «عبدالفتاح السيسى»، الذى جاء انتخابه رئيسا لمصر وأداؤه اليمين الدستورية فى الثامن من يونيو 2014 نقطة تحول ليس فقط فى سياسة مصر الداخلية والخارجية، وإنما فى الخريطة السياسية للمنطقة بأكملها.
مع انتخابه رئيسا لمصر فى 2014، بدأت سياسة التحولات فى سياسة مصر الخارجية، وبدأت معها فكرة تنويع العلاقات، وعدم الاقتصار على عاصمة أو اثنتين، بل الباب مفتوح أمام كل دول العالم، شريطة أن يكون ذلك مبنيا على قاعدة الندية فى العلاقات، وكذلك تغليب المصالح المشتركة، والعمل على إرساء قواعد الأمن والاستقرار فى المنطقة، انطلاقا إلى ترسيخ هذه القواعد فى المجتمع الدولى بأكمله.
منذ اليوم الأول، ويدرك الرئيس السيسى أن مصر تعيش وسط إقليم ملىء بالاضطرابات السياسية والأمنية، لذلك جعل كل همه وتركيزه على دعم الاستقرار فى دول المنطقة، وهو ما ظهر من خلال الدعم المصرى للأشقاء فى ليبيا والسودان وسوريا واليمن، عملا بقاعدة أن أبناء كل دولة هم القادرون على تحقيق مصيرهم ومستقبلهم.
ولنا أن نتخيل أن مصر التى كانت شبه محاصرة دوليا فى 2013 و2014، اليوم هى قبلة التحركات الدولية، ومقبلة على استضافة أكبر حدث دولى وهو قمة المناخ cop 27 فى نوفمبر المقبل، كما أنها بعد أشهر من تعليق عضويتها فى الاتحاد الأفريقى، تستعيد عضويتها وفاعليتها داخل الاتحاد، وتتولى رئاسته لمدة عام، بل وتمثله فى مجلس الأمن، ويكون رئيسها «السيسى» هو المتحدث باسم كل الأفارقة فى المحافل الدولية.
بسياسة الهدوء والنفس الطويل، والعمل على تغليب المصالح العليا، والتمسك بسياسة عدم التدخل فى شؤون الدول الداخلية استطاعت مصر أن تنال ثقة الجميع، فلم تدخل القاهرة فى عداء مع أحد، حتى من ناصبوا المصريين العداء، فالدولة المصرية كما قال الرئيس السيسى «تعاملت بشرف فى زمن عز فيه الشرف»، لم تعاد أحدا، ولم تسع لإلحاق الضرر بأى دولة، بل من يتابع كل التحركات المصرية طيلة السنوات الثمانى الماضية، سيجد أنها تسير على وتيرة واحدة، وهى العمل بكل جهد لإقرار الأمن والاستقرار للجميع، ووضع قضايا شعوب العالم الثالث على أولويات الأجندة الدولية، وهو ما جعل مصر دوما صاحبة المواقف البيضاء.
حتى حينما سعت مصر إلى تكوين آليات تنسيق سياسية اقتصادية إقليمية مثل الحادث حاليا فى آلية التنسيق بين مصر والأردن والعراق، وكذلك بين القاهرة وأثينا ونيقوسيا، وغيرها الكثير من آليات التنسيق، فإنها لا تعتمد سياسة العدوان على أحد، وإنما الهدف الرئيسى هو العمل على تحقيق آمال وتطلعات شعوب الدول الداخلة فى هذه الآليات، وخير شاهد على ذلك أنه منذ أن بدأت مصر هذه السياسة، ولا توجد شكوى واحدة من أى دولة فى الإقليم أو خارجه، تشكو من تضررها، بل هناك من يسعون إلى توسيع دائرة هذه الآليات، لتعميم الاستفادة، وهو ما تحقق على سبيل المثال حينما أصبح الحوار المصرى اليونانى القبرصى، بداية لرسم خريطة علاقات اقتصادية جديدة فى منطقة شرق المتوسط، والذى نتج عنه الاتفاق على منتدى غاز شرق المتوسط، الذى أصبح قوة فاعلة فى الاقتصاد الإقليمى، وهو الهدف الذى تسعى له القاهرة دوما فى كل تحركاتها.
ولعلنا نشير هنا إلى أنه فى كل مناسبة دولية، لا يذكر اسم مصر، إلا ويكون مقرونا بإعجاب المتحدثين بتجربتها الداخلية، وهنا يكمن أهم سبب فى سرعة الانتشار المصرى سواء فى محيطها الإقليمى، أو فى المجتمع الدولى، فالسياسة الخارجية هى مرآة للوضع الداخلى، وبتحقيق الاستقرار والأمن فى الداخل، والتنمية التى تمتد فى كل ربوع الجمهورية، أمكن للرئيس السيسى، أن يكون نموذجا فى القيادة الحكيمة، التى سارت فى اتجاهين متوازيين، إصلاحات وتطوير وتنمية فى الداخل، وتنويع وانفتاح على الجميع فى الخارج، وخلال السنوات القليلة الماضية استطاعت الدولة المصرية أن تحقق المعادلة المعادلة الصعبة، بأن تكون فاعلا رئيسيا وقويا فى القرار الدولى، وفى نفس الوقت توفر كل احتياجات المواطنين فى الداخل.
فى المجمل نجحت مصر خلال ثمانى سنوات من العمل الشاق والعزيمة الصادقة أن تتبوأ دورها الإقليمى التقليدى، الذى يسعى إليها بقدر ما فرض عليها وأخلصت فيه بلا تزيد، وتمكنت باقتدار، من خلال وضوح رؤية القيادة السياسية وثقتها فى قدرات شعبها، أن تنتقل من مرحلة استعادة التوازن إلى استعادة التأثير، وأن تكون طرفا مؤثرا فى محيطها الإقليمي، تضع خطوطها الحمراء التى تنسج بها قوة ردع تحفظ توازن المنطقة، وتحول دون انجرافها إلى هوة الفوضى، وفق محددات رئيسية وضعها الرئيس السيسى تقوم على الندية والاحترام المتبادل والشراكة والقرار الوطنى المستقل، محددات رسمها الرئيس السيسى فى خطاب التنصيب فى يونيو 2014، أكد خلالها أن مصر بما لديها من مقومات يجب أن تكون منفتحة فى علاقاتها الدولية، وأن سياسة مصر الخارجية ستتحدد طبقا لمدى استعداد الأصدقاء للتعاون وتحقيق مصالح الشعب المصرى، وأنها ستعتمد الندية والالتزام والاحترام المتبادل وعدم التدخل فى الشؤون الداخلية مبادئ أساسية لسياساتها الخارجية فى المرحلة المقبلة، وذلك انطلاقا من مبادئ السياسة الخارجية المصرية، القائمة على دعم السلام والاستقرار فى المحيط الإقليمى والدولى، ودعم مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول، والتمسك بمبادئ القانون الدولى، واحترام العهود والمواثيق، ودعم دور المنظمات الدولية وتعزيز التضامن بين الدول، وكذلك الاهتمام بالبعد الاقتصادى للعلاقات الدولية، وعدم التدخل فى الشؤون الداخلية للغير.
وعلى مدى السنوات الثمانى جنت مصر بقيادة الرئيس السيسى ثمار سياستها الخارجية الجديدة من خلال العمل والتحرك الدبلوماسى بشقيه الثنائى والمتعدد الأطراف بل وامتد كذلك إلى الدبلوماسية الاقتصادية والتنموية والبيئية بخلاف دبلوماسية المناخ الذى بات مصطلحا جديدا فرضته التغيرات المناخية التى باتت تهدد الكوكب.. سياسة خارجية حكيمة ورؤية ثاقبة للقيادة السياسية فى التحرك الخارجى شرقا وغربا، شمالا وجنوبا تؤكد من خلاله مصر وهى على أعتاب الجمهورية الجديدة أنها كانت ولا تزال صانعة الاستقرار فى محيطها الإقليمى، بل وفى العالم بأسره عبر سياسة متوازنة تدعو وتسعى لإخماد بؤر التوتر ونزع فتيل الأزمات وترسيخ ركائز السلام والتنمية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة