في مشهد ينعم بالأصالة والرضا، بطلاه زوج وزوجته تحكي معالمهما شقاء السنين، يجلسان في رحاب منزلهما الذي لا يزال على حاله منذ سنين خلت بقرية القباب الصغرى التابعة لمركز دكرنس بمحافظة الدقهلية، يغزلان بيديهما أسبتة وسدد البوص، يسابقان الزمن بالكفاح والعمل دون كلل أو ملل، يتأملان بدأب دون أن تغفو أعينهما ما صنعته أيديهما الملتحفة بالشقاء من عشرات الأسبتة، هكذا اعتاد فهمي التابعي وزوجته فتحية على الكفاح والعمل في حرفة يدوية من التراث منذ أكثر من ستين عاما، بحثا عن الرزق الحلال.
هي أسرة فريدة تعود بك إلى ذكريات الماضي، وكأنها لوحة تراثية منسية تحمل تاريخ الزمن الجميل، فمنذ سنوات طوال، قررا الزوجان أن يكافحان في الحياة سويا، في مهمة صعبة وشاقة، كانت ولا تزال شاهدة على التحدى والعزيمة والإصرار من أجل لقمة العيش، وتوفير حياة كريمة لأبنائهم الخمسة، اللائي سلك كل واحد منهم طريق كفاحه الخاص بعيدا عن مهنة صناعة أسبتة البوص التي أوشكت على الاندثار بعد ظهور منتجات البلاستيك وعزوف الأجيال الجديدة عن العمل بها.
لا تفارق الابتسامة محياهما وهما يصنعان أسبتة البوص، يستأنسان بمجالسة أبنائهما وأحفادهما وهم يحلقون حولهما، يراقبونهما بشغف وهما يشذبان أعواد من البوص، لصناعة السبت وغيره من السلال، يمارسان حرفة آبائهم وأجدادهم بخفة ونشاط بعد أن عملوا فيها ببراعة واحتراف ودقة على مدار 60 عاما، والتى كانت ولا تزال حرفة يدوية أصيلة حفرت تاريخهما وحفظت مستقبلهما ومستقبل أبنائهما.
وعن احتفاظهما بحرفتهما اليدوية الأصيلة حتى وقتنا هذا، قال فهمي التابعي صاحب الـ75 عاما لـ"اليوم السابع"، إنه كافح واعتمد على نفسه منذ شبابه، حيث عمل برفقة أجداده في صناعة أسبتة البوص منذ أن كان في الـ18 من عمره، وظل يثابر ويجتهد في صناعة كافة أشكال وأحجام الأسبتة وسدد الغاب حتى تزوج وأصبحت زوجته تعينه وتسانده في الحياة والعمل بتقشير أعواد البوص من الشوائب والأشواك باستخدام الشقرق؛ مشيرا إلى أنهما نجحا سويا في أن يعلما أبناءهم ويوفران لهم حياة كريمة.
"المهنة بتموت بالبطيء".. بهذه الكلمات تابع "فهمي" حديثه، فقال إن مهنة صناعة الأسبتة وسدد الغاب تعد من الحرف اليدوية التي كانت لها قيمتها ورونقها قديما، حيث كانت الأسر تعتمد عليها في نقل وتخزين كافة احتياجاتهم، وبعد ظهور البلاستيك وانخفاض الإقبال على شرائها، وعزوف الأجيال الجديدة عن العمل بها لقلة ربحها وعائدها المادي، أصبحت المهنة تواجه خطر الاندثار، مؤكدا أن بالرغم مما تواجهه المهنة من تحديات إلا أنه متمسك بمهنته وحرفته بجانب زوجته وأقاربه الذين لا يزالون يقدرون مهنة صناعة المنتجات الخوصية.
وبينما يمسك بسلال انتهى من عملها، تابع حديثه قائلا، إن السلال والأسبتة كان لهم قيمة وأهمية كبيرة قديما، حيث كان يعتمد عليها كل منزل في التسوق لوضع كافة المشتريات من خضار وفاكهة ومستلزمات المطبخ من أرز ومعكرونة وسكر وملح وشاي وخلافه، ونقل مستلزماتهم من مكان لآخر، وحفظ الخبز بها، كما أنه السبت كان ثابت في كل بلكونة بكل منزل لتسخدمه السيدات في رفع ما يحتجن إليه من طلبات وسلع من الباعة الذين يسيرون في الشوارع، كما أنه كان رفيق كل أم تزور ابنتها العروس، مشيرا إلى أن بعد مرور الزمن وتطور الحياة لم يعد للسلال قيمة ومنفعة بالنسبة لكثيرين ممن يجدون حرجا في حملها وأصبحت في المقابل منتجات البلاستيك و"الكراتين" بديلا عن السلال بالرغم من صلابتها وقوة تحملها مقارنة بهشاشة البلاستيك.
ورصدت عدسة "اليوم السابع" ساعات طويلة من العمل الشاق يقضيها أبناء القرية في صناعة الأسبتة الخوصية يدويا بدقة وإتقان ومهارة شديدة، حريصين في الإبقاء على هذه الحرفة كونها مصدر رزقهم الوحيد الذي يوفر لأبنائهم حياة كريمة، حيث اشتهرت قرية القباب الصغرى التابعة لمدينة دكرنس بمحافظة الدقهلية على مدار سنوات طوال، باحتراف أهلها لحرفة صناعة الأسبتة الخوصية وسدد الغاب، تلك المهنة التي تعد من أعرق الصناعات اليدوية الأصيلة المعتمدة على زعف النخيل المتواجد في الطبيعة.
وبابتسامة رضا لا تفارق محياه، يجلس عزت عبد الوهاب صاحب الـ62 عاما وسط كومة من البوص والسلال، يدعو الله أن يمنحه الصحة والستر ليتمكن من مواصلة عمله يحبه ويهواه ووهب حياته له ويجد فيه أمانه وراحته، فقال لـ"اليوم السابع"، إنه عمل بمهنة صناعة الأسبتة الخوصية منذ طفولته، حيث عكف على تعلم أصول الحرفة وأسرارها من أجداده رواد الصناعة وهم يشكلون بأيديهم الخوص وسعف النخيل، صانعين تحفا فنية بالغة الدقة من الحصائر والسلل وأطباق الخوص والأقفاص، مشيرا إلى أنه نجح في احتراف المهنة وتصنيع أجود أنواع الأسبتة بأحجامها المختلفة في العقد الثاني من عمره، واستطاع أن يواصل المسيرة من بعدهم، محافظا على المهنة من خطر الاندثار بعد ظهور البلاستيك وعزوف الأجيال الجديدة عن العمل بها.
وأشار إلى أن صناعة الأسبتة الخوصية تعد من أصعب الحرف اليدوية، فتحتاج إلى مهارة ودقة وسرعة في العمل في جميع مراحل صناعتها، موضحا أن صناعة "السبت" تبدأ من شراء أعواد الغاب والتي تكون منتشرة على أطراف الأراضي الزراعية، ومن ثم تقشيرها وتنعيمها تماما حتى تصبح لامعة وشقها لعدة طبقات، ومن ثم غمرها في المياه ليوم كامل لتطريتها وإكسابها الليونة حتى تكون قابلة للتطويع والتشكيل، ومن ثم تشبيك أعواد الخوص مع بعضها البعض يدويا بشكل دائري من الأسفل للأعلى، موضحا أن رأس ماله في هذه المهنة هو شقرف يقشر به أعواد البوص وينظفها، و"فلاقة" تقسم أعواد البوص إلى عدة شرائح.
وأوضح أن صناعة أسبتة البوص، هي حرفة يجتمع فيها المهارة والفن، حيث يقومون بشراء أعواد البوص من محافظات بعينها غنية بالبوص لطبيعتها الزراعية، والتي تشتهر بنمو أعواد البوص على جوانب وحواف الترع والبحيرات والأراضي الزراعية ومنها الدقهلية والشرقية والفيوم والمنوفية، وبعدها يقومون بنسج وتضفير قاعدة السلة "البادية" من خلال تمرير أعواد البوص واحدة تلو الأخرى بشكل متقاطع لتكون هي البداية لتشكيل هيكل وجسم السلة بالشكل والحجم المطلوب، ومع استمرار نسج الأعواد بتناغم وانسجام في حركة دائرية تتشكل جوانب السلة، وبعدها يتم ثني نهايات السلة لصنع "الودن" التي يتم حمل السلة منها.
أسبتة-الخوص-حرفة-يدوية-تشتهر-بها-قرية-القباب-الصغرى-بالدقهلية
التابعي-وزوجته-60-عاما-يكافحان-في-صناعة-أسبتة-الخوص
تجميع-أعواد-البوص-لصناعة-الأسبتة
صناع-أسبتة-الخوص-في-الدقهلية
صناعة-أسبتة-الخوص-في-الدقهلية
صناعة-الأسبتة
صناعة-الأسبتة-بالدقهلية
عزت-عبدالوهاب
عزت-عبد-الوهاب-أحد-صناع-أسبتة-الخوص-في-الدقهلية
فهمي-التابعي-أقدم-صناع-أسبتة-الخوص-في-الدقهلية
قلعة-القباب-الصغرى
نسج-أعواد-البوص-لصناعة-الأسبتة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة