يحفل كتاب الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي لأبى الفرج المعافى بن زكريا بأخبار العرب وقد جمعها وصنفها المؤرخ والأديب الذى عاش في العراق خلال القرن الرابع الهجرى ضمن كتبه التى اهتم فيها بالتراجم والتصنيف وقد كان من القضاة الفقهاء محبى الأدب.
ومن الأخبار التى ضمها الكتاب إحدى طرائف أشعب وهي أن زياد بن عبد الله الحارثي (خال أبي العباس أمير المؤمنين) كان واليًا لأبي العباس على مكة، فحضر أشعب مائدته في أناس من أهل مكة، وكانت لزياد بن عبد الله الحارثي صحفة يخص بها، فيها مضيرة من لحم جدي، فأتى بها، فأمر الغلام أن يضعها بين يدي أشعب, وهو لا يدري أنها المضيرة، فأكلها أشعب، يعني أتى على ما فيها، فاستبطأ زياد بن عبد الله المضيرة، فقال: يا غلام الصحفة التي كنت تأتيني بها، قال: قد أتيت بها – أصلحك الله - فأمرتني أن أضعها بين يدي أبي العلاء، قال: هنأ الله أبا العلاء وبارك له، فلما رفعت المائدة، قال: يا أبا العلاء – وذلك في استقبال شهر رمضان – قد حضر هذا الشهر المبارك، وقد رققت لأهل السجن لما هم فيه من الضر، ثم لانضمام الصوم عليهم، وقد رأيت أن أصيرك إليهم فتلهيهم بالنهار وتصلي بهم الليل، وكان أشعب حافظًا لكتاب الله، فقال: أو غير ذلك - أصلح الله الأمير - قال: وما هو؟ قال: أعطي الله عهدًا ألا آكل مضيرة جدي أبدًا. فخجل زياد، وتغافل عنه.
وفى قصة أخرى قال أبو العباس هاشم بن القاسم: كنت بحضرة المهتدي عشية من العشايا، فلما كادت الشمس تغرب وثبت لأنصرف، وذلك في شهر رمضان، فقال: اجلس، فجلست، ثم إن الشمس غابت، وأذن المؤذن لصلاة المغرب وأقام، فتقدم المهتدي فصلى بنا، ثم ركع وركعنا، ودعا بالطعام، فأحضر طبق خلاف، وعليه رغف من الخبز النقي، وفيه آنية في بعضها ملح، وفي بعضها خل، وفي بعضها زيت، فدعاني إلى الأكل فابتدأت آكل مقدارًا، أنه سيؤتي بطعام له نيقة، وفيه سعة، فنظر إلي وقال لي: ألم تك صائمًا؟ قلت: بلى، قال: أفلست عازمًا على صوم غدٍ، فقلت: كيف لا، وهو شهر رمضان، فقال: فكل، واستوف غذاءك، فليس هاهنا من الطعام غير ما ترى، فعجبت من قوله، ثم قلت: والله لأخاطبنه في هذا المعنى، فقلت: ولم يا أمير المؤمنين؟ وقد أوسع الله نعمته، وبسط رزقه، وكثير الخير من فضله، فقال: إن الأمر لعلى ما وصفت والحمد لله، ولكنني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز، وكان من التقلل والتقشف على ما بلغك، فغرت على بني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله، فأخذت نفسي بما رأيت.
قال القاضي: ولم تزل المنافسة في أعمال البر وأبواب الخير، في أثر المتقين وسبيل الصالحين، وقد وفق الله المهتدي رضوان الله عليه من هذا، لما يرجى له المثوبة منه والزلفى لديه، وفقنا الله وإياكم لطاعته وحسن عبادته.