ناهد صلاح

شقة عبد الحليم

الأربعاء، 30 مارس 2022 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

هل يجب انتظار الربيع لنكتب عن عبد الحليم حافظ ؟ وهل لا بد من مناسبة لنتذكر العندليب الأسمر؟ الواقع وحضوره الطاغي في الحياة الفنية كلها تجيب بالنفى.

 يراوغني السؤال بينما كنت أَمُرُّ على حديقة الأسماك، إذ يتبعه سؤال آخر: وهل يعلم الأحبة والمغرمين من رواد هذه الحديقة، أنهم على مسافة بضعة أمتار من بيت مطربهم، جسر الرومانسية بين الماضي والحاضر في الأغنية والسينما العربية؟.. ربما تعلقت أعينهم بشرفة العندليب في الدور السابع وابتسموا, وربما لا يعرفون أنهم بجوار بيت الرجل الذي لم يبخل بسنوات عمره من أجل أن يُغني للحب وأهله, لكن المؤكد أن عمارة زهراء الجزيرة في شارع حسن صبري، تشهد أنه كان هنا نجم للجماهير ورمز لأيامنا الحلوة اسمه عبد الحليم حافظ.

 تحاوطني الأسئلة وصوت حليم الذي يفيض منذ الصباح، ويملأ الأسماع بمناسبة ذكراه الخامسة والأربعين: "يا شارع الحنين ضيعنا الهوى/ فاتتنا السنين أنا وانت سوى/ للنسمة الغريبة لأيامنا القريبة/ حننينا واشتقنا للخطوة الحبيبة"، في هذه اللحظة لم أرغب في الإنصات لأحد غيره، أو الاستماع لتحليلات المتخصصين في الموسيقى، عن الجانب الفنى في حياته، أو حتى لمن تبقى من رفاق مشواره أو لأجيال الفنانين التى جاءت بعده.. ما أبتغيه فعلًا هو الاقتراب من صورة حليم في وجدان الناس، دون أن ألتقي بأحد ودون أن أسمح بمرور الإجابات الدبلوماسية والعبارات المنمقة التي قد يقولها البعض تحت إغراء النشر الصحفى. ربما يبدو هذا غريبًا أو مستحيلًا، لكنه مع عبد الحليم وحده ممكن وممكن جدًا.

  كيف؟ إنه أمر اختبرته أكثر من مرة، حين قمت بزيارة بيته في بداية عملي بالصحافة، وأثناء حياة شقيقته "الحاجة علية" رحمها الله، يعني سنوات طويلة قبل أن تغلق الشقة على ساكنيها، ولا تفتح لزائريه في ذكرى رحيله تنفيذًا لوصيته، وذلك كإجراء احترازي بسبب كوفيد 19، حسبما تصريحات ورثته المنشورة في أكثر من موقع.

  لفتت انتباهي جملة "ملك صندوق التأمين الخاص بضباط القوات المسلحة" المكتوبة على مقدمة العمارة، إنها تعود للخمسينيات إذن، أنشأها ضباط ثورة يوليو، وسكن فيها حليم، مطرب الثورة الذي أطلت نافذته على ملتقى الأحبة في حديقة الأسماك، إنها الثنائية التي امتاز بها ورسخته صوتًا للحب وللحلم القومي والمشروعات الكبيرة في زمنه.

 أتذكر حارس العمارة حينذاك كان يقف في مدخلها، وكان يعرف زوار (حليم) منذ الوهلة الأولى، يستقبلهم بسؤال واحد: "شقة العندليب مش كدة؟" ثم يبتسم ويفتح باب المصعد، للعمارة مصعدان, كل واحد منهما كان يحمل على جدرانه عشرات العبارات والتوقيعات، كلمات صغيرة مدهشة، موجهة إلى عبد الحليم حافظ، لخصت أحلام وآمال أجيال عايشته وجاءت بعده، (عرفت  فيما بعد أن هذه العبارات تم محوها وإزالتها، حين قامت سفارة الدانمارك ومقرها في الدور التاسع تقريبًا، بتجديد المصاعد منذ سنوات).

 كذلك حمل الممر الطويل أمام باب الشقة مئات أخرى من العبارات، على حائط تاريخي مفعم بالحكايات المغمسة بالألم والفرح: "لو كنت يوم أنساك"، "اشتقت إليك فعلمني ألا أشتاق"، "موعود بالعذاب"، "سلام لروحك الطاهرة"، "التقينا واجتمعنا على حبك"، " مش ممكن تغيب عنا"... لم تدهشني العبارات المكتوبة أو الانجراف وراء العواطف الجياشة، المستلهمة من أغنياته أو التعبير عنها بأسلوب قد يراه البعض مراهقًا، لكني أدركت حضور حليم الوافر، رغم مرور السنوات الطويلة على رحيله، وهو أمر أسطوري في الحقيقة لا يتأتى كثيرين، فعبد الحليم عربيًا كما ألفيس بريسلي في أمريكا، لا يستهان بجماهيريتهما الطاغية خلال حياتهما القصيرة، حليم (48 عامًا) وألفيس (42 عامًا)، أو ديمومة حضورهما رغم الرحيل منذ زمن بعيد.

  من هذه الزاوية وجدت بيت العندليب يشبهه تمامًا، تفاصيله تشي بخصوصية لا تخفى على أحد، هي ذاتها الخصوصية التي اتسمت بها حياة حليم المشرعة على أعين الجميع.. ينقسم البيت إلى جزأين، أحدهما تسكنه أسرته، أما الجزء الآخر فهو يخصه وحده، فيه كل حاجياته التي لم يتغير ترتيبها، صالة كبيرة تفصل بين الجزأين، بها طاقمان للصالون وبعض الأثاث، كان حليم يعقد فيها بروفاته, غرفة صغيرة فيها دولاب ملابسه التي وزعتها شقيقته على الفقراء، ولم يبق غير بعض البدل التي ارتداها في حفلاته الأخيرة, في الغرفة ذاتها سرير صغير وجهاز تسجيل كان يستمع إليه في لحظات راحته القليلة جدًا.

أما غرفة نومه فكما هي لم يتغير وضعها، حتى علامة رأسه على سريره الذي شهد مرضه وأطول ساعات آلامه، كذلك لم يتغير ترتيب حمامه الخاص: ماكينة حلاقته في موضعها كما تركها قبل سفره إلى لندن, والصابونة التي استخدمها لآخر مرة وزجاجات الكولونيا والعطور.

 من البداية أخبرتكم أنني لا رغبة لي في تحليل صورة حليم الفنية، أردت فقط في لقطة من الذاكرة، أن أتلمس تفاصيله الإنسانية البسيطة، تلك التي صنعت توهجه المتفرد، هذا التوهج الذي لخصه نزار قباني في جملة حاسمة، أثناء زيارته الأولى للقاهرة، بعد سنوات القطيعة العربية التي فرضتها معاهدة كامب ديفيد، سألوه عن أول مكان ينوي زيارته، فأجاب: ضريحا النجم جمال عبدالناصر والزعيم عبدالحليم حافظ!

  نزار هنا لم يُخطئ، لكنه عبر ببساطة عن لحظة تاريخية إجتمعت فيها عبقرية عبدالناصر السياسية ورومانسية الزمن ورغبات التمرد على القديم والتحرر من الآخر الغربي المستعمر، بالإضافة إلى بزوغ نخبة إبداعية في مختلف ألوان الفن والأدب كان نزار قباني جزءًا منها، على امتداد السطر كان إحسان عبدالقدوس وكمال الطويل وصلاح جاهين ومرسي جميل عزيز ومحمد الموجي وبليغ حمدي والأبنودي ومحمد حمزة، عشرات ممن أسهموا في صناعة نجومية عبدالحليم ابن ثورة زمنهم، وممن رفعوا راية الحب والثورة وبناء مجتمع جديد بقوة وصفها هيكل في عبارته الشهيرة "ليس هناك أقوي من فكرة آن أوانها".

 

 







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة