يونان سعد يكتب: مشهد من كتاب الموتى

الإثنين، 21 فبراير 2022 09:00 م
يونان سعد يكتب: مشهد من كتاب الموتى يونان سعد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نعرف من خبرتنا في مشاهدة الأفلام وسماع الحكايات أن القصة، أي قصة، لكي تصبح جميلة؛ فإن نهايتها ينبغي ولابد أن تنطوي على جمالٍ ما، الحكاية الحقيقية هي حياتنا، والنهاية الطبيعية لها هي الموت، لذلك لابد للموت أن يصير جميلاً ومعبراً على نحوٍ ما؛ كي تصبح الحياة جميلة وذات معنى. هذا أمر لا مفر منه.
 
حين يتحدث الإنسان عن الموت، فإن جانبأ خفياً منه يتذكر الحياة، حياته بكل ملابساتها المفرحة والمؤلمة -العظيمة والوضيعة، يكتسب الموت أهميته من كونه النهاية الطبيعية للقصة، قصصنا جميعاً.
 
بتلك الطريقة يتحول كتاب الموتى إلى كتاب عن الحياة، دليل على فلسفة الحياة كما تخيلها أسلافنا المصريون ورسموها، عن الدم والبهجة، عن المعاناة والراحة، عن الفضيلة أو ضدها، في كتابٍ واحد يُقالُ له: "كتاب الموتى" أو "الخروج للنهار" وبلغة الأجداد "بِرت إم هِرو".
 
كتاب عن الموت وكيف يتحول إلى حياة، وهكذا تبدو "برت إم هِرو" كطلسم سحري شاهد على حكاية التحول العجيبة تلك، أي حين تتحول المأساة "الموت" إلى نهايةٍ جميلة وذات معنى.
 

في الفصل السادس والعشرين من كتاب الموت يقول أوزوريس آني:

"عسى أن يكون قلبي معي في بيت القلوب. عسى أن يكون قلبي معي في بيت القلوب (1) عسى أن يكون قلبي معي ويستقر هناك(2) وإلا لن أُطعَم فطائر أوزوريس على الضفة الشرقية لبحيرة الأزهار (3) وإلا لن يكون لي زورق أهبطُ به في النيل ولا آخر أصعدُ به النهر، ولن أقدر على الإبحار معك في النيل (4) لعل فمي (يُعطى لي) حتى يمكنني الكلام، وساقاي لأسير بهما، ويداي وذراعاي لأهزم أعدائي"
 
لكي نتمكن من فهم"كتاب الموتى" ينبغي علينا أن نتصور بحر هادر وجميل، تأخذ مياه البحر الشفافة لونها الأزرق من السماء الواسعة التي تعلوها، وبالنظر إلى طبيعة هذا البحر وأبعاده، علينا أن نتخيل كيف يترتب ماؤه على مستويات وطبقات كثيرة فوق بعضها البعض من السطح وصولاً إلى القاع، بإمكاننا مبدئياً أن نقسمها إلى مستويات ثلاثة، مياه سطحية ومياه متوسطة ومياه عميقة، وهكذا كتاب الموتى، حيث يقدم النص نفسه إلينا:
 
كطقس ديني في الطبقة الأولى
وحكاية درامية في الطبقة الثانية
وفلسفة الدين المصري القديم شديدة التركيب في المياه العميقة
 
الطقس والحكاية والفلسفة، ثلاثتهم من ماءٍ واحد هو الشعر، اللغة أو بمعنى آخر الطاقة الشعرية المتفجرة التي تضمن لهذا البحر ثباته وجماله وعنفوانه. 
 
يُعرَف الفصل السادس والعشرين (السابق ذكره) من كتاب الموتى باسم غريب هو: فصل منح القلب لأوزوريس آني في العالم الآخر، وهو من ناحية نشيدٌ أو طقس يتلوه الكاهن في المعبد الجنائزي على جسد الميت، يقف الكاهن المصري القديم منتصباً على قدميه حليق الرأس يحيط جسمه بجلد نمرٍ بري، ويتلو النشيد على أمل أن يُمنَح الميت قلباً جديداً في العالم الآخر. 
 
من ناحية أخرى، تمثلُ هذه الكلمات فصلاً جديداً من حكاية أوزوريس وحياته وتحولاته في العالم الآخر، وفضلاً عن ذلك كله فإن القاريء لهذا النشيد تصيبه رغماً عنه فكرةٌ ما عن شكل الجنة (جنة الآخرة) كما تخيلها المصريون القدماء، طقس وحكاية وفلسفة دين في أربعة سطور شعرية غاية في الرقة والتأثير على العاطفة. 

الطقس:

يبدأ كتاب الموتى بالموكب الجنائزي، ثم تُتلىَ الأناشيد الجنائزية الطويلة لتمجيد رع وتمجيد أوزوريس، لكن الطقس الديني يبدأ في الحركة من الفصل الثامن عشر، يمكنُ أن نتخيل المعبد الجنائزي القديم كبهو واسع يدخل منه الموكب، صندوق به جسد الميت خلفه الكاهن والحزانى من أقارب المُتوفى وأصدقائه، ثم يتوقف الموكب في مكانٍ ما، يصبحُ صاحبنا وحيداً في صندوقه، ولا يتبقى بصحبته إلا كاهنان، واحد عن يمينه والآخر عن يساره. 

يقول الكاهن الأول:

"لقد أتيت إليكم أيها الحكام العظام الذين في السماء والذين على الأرض والذين في العالم السفلي، وأحضرت معي أوزوريس آني، إنه لم يرتكب خطيئة، لتضمنوا له أن يكون بينكم على الدوام". 
 
هكذا تبدأ الطقوس ولا تنتهي إلا مع نهاية الكتاب، أي بخروج روح الميت وجسده إلى النهار في العالم الآخر، الخروج للنهار الذي صار عنواناً بديلاً لكتاب الموتى ليس مجرد استعارة مجانية، بل تعبير حقيقي ومتدفق عن الأمل والحياة والبهجة من بعد الضعف والموت ومواجهة الأهوال في العالم السفلي. 
 
ينبغي أن تُتلىَ في تلك الأثناء كافة الأناشيد والقواعد الطقسية التي من شأنها أن تهدئ من خوف الميت.. أنت الآن في حالة ضعف ليس إلا.. عليك وأنت في هذا الجسد المُسجىَ والصامت أو تتلو معنا.. أن تصير متواضعاً وشجاعاً، حتى تتمكن في نهاية المطاف من أن تتحول لكل ما تحب، وأن تحصل على النعيم العظيم مع كل تحول يحدث لك في العالم الآخر.. وإلى الأبد..
 
وهكذا تكون فلسفة الطقس الذي يتلىَ في كل معبدٍ جنائزي في كل معبد جنائزي في كل إقليم من أقاليم مصر، ولكل متوفى فاضت روحه حديثاَ، وحتى عوام المصريين كانوا قد أصبح لهم الحق في تحنيط موتاهَم وأداء تلك الطقوس عليهم في عصر المملكة الحديثة. 

الحكاية الدرامية:

في المُقتطف السابق يقول الكاهن: "أحضرت معي أوزوريس آني، إنه لم يرتكب خطيئة"، هنا تحدث حالة غريبة يمكن أن نسميها "التوَّحُد الدرامي" حيث يجري التعامل مع الميت ومع "أوزوريس" باعتبارهما شخصاً واحداً، وهكذا تكون الحكاية الدرامية التي يحكيها كتاب الموتى هي حكاية أوزوريس وحكاية الميت في نفس الوقت، باختصار: حكاية الميت بعد موته وقيامته، والتي يمكنها أن تتحول إلى حكاية أوزوريس بعد موته وميلاده مجدداً في العالم الآخر. 
 
يعلم الجميع حكاية أوزوريس الذي قتله أخاه ست حسداً أو (انتقاماً) ووزع أشلاءه على كل أقاليم مصر، بما في ذلك وفاء زوجته العظيمة إيزيس التي جمعت أشلاءه من كل مكان، وابنه حورس الذي يظهر فجأة لينتقم لأبيه وينتصر له على أعدائه، لكن حكاية أوزوريس الواردة في كتاب الموتى لا تبدأ إلا بعد انتهاء هذه الأحداث، إنها حكايته العجيبة في العالم الآخر. 
 
الحكاية بكل تحولاتها العجيبة وطاقتها الشعرية عظيمة التأثير في النفس، تلك التي يمكن للمتوفي الخاضع للطقوس أن يحظى بمثلها، فقط لو كان صالحاً بما يكفي. 
 

فلسفة الدين

هنا يكون قاريء كتاب الموتى قد وصل إلى المياه العميقة، فلسفة الدين المصري القديم شديدة التعقيد والبساطة في نفس الوقت، كيف يمكن لروح الميت- أي ميت من عوام المصريين وخاصتهم- أن يحظى بما حظي به أوزوريس الإله (طبقاً للديانة المصرية القديمة)؟
 
هنا نكون أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن المصريين القدماء قد آمنوا بإمكانية تحول البشري إلى إلهي، أو أن أوزوريس نفسه لم يكن إلهاً بالمعنى المتداول هذه الأيام لكلمة إله، أقصد بالمعنى الذي يتبادر إلي أذهاننا حيت تُتلى على أذاننا هذه الكلمة. 
 
لقد اتفق عددٌ لا بأس به من علماء المصريات على أن المصريين القدماء قد آمنوا بأن هناك قوة إلهية واحدة خلف نظام الكون، هي العدالة، بمعنى آخر أن هناك احتمالية كبيرة لأن يكون المصريين قد عرفوا التوحيد من قبل إخناتون بكثير، لكن بفلسفة صوفية شديدة الخصوصية. 
 
ربما يحتاج هذا الأمر إلى تدليلات كثيرة من كتاب الموتى ومن سواه، الأمر الذي يستدعي ملأ صفحات عديدة، لكن قاريء كتاب الموتى سيجد نفسه مع التقدم في القراءة وقد اكتشف أن أسلافنا المصريين قد آمنوا بنوع من الصوفية الكونية التي يتجلى فيها الإله الواحد الكبير لمخلوقاته في أشكال وصور وأسماء لا نهائية، مع الاحتفاظ بوحدانيته التي لا ينازعها فيه أحد. 
 
هكذا لم يكن مؤلفو كتاب الموتى أو الكهنة القائمين على أداء الطقوس مهتمين بأن يفهم العامة تلك الفلس العميقة فهماً عقلياً دقيقاً، بقدر ما اهتموا بأن يفهموها عن طريق الشعور والحدس والحس، بالحفاظ على التأثير الشعوري لتلك الطقوس والحكايات الدرامية على نفوس الناس، بأقصى شكل ممكن من أشكال التأثير.

أبيات شعرية أم تعاويذ سحرية؟

أحد أوجه الصعوبات في قراءة كتاب الموتى أو الخروج للنهار "برت إم هرو" أن المنطق الرياضي يفشل في تفسيرها فشلاً ذريعاً، وقد واجه البشر هذا النوع من اللغة المنظومة على نحو رائع وغير القابلة للتفسير بالمعادلات الرياضية أو المنطق الصوري، واجهوها في حالات نادرة، من بينها هذا النص؛ فاعتبروها نوعاً من التعاويذ والطلاسم السحرية. 
 
على الرغم من استحالة التفسير بالأدوات المعتادة، إلا أن نوعاً واحداً من المنطق يستطيع فك شفراتها، يسميه علماء اللغة والشعراء بالمنطق الشعري، ولحسن الحظ أن هذا المنطق الشعري لا يحتاج إلى معادلات معقدة مثلما يحتاج لأن يترك الإنسان مشاعره تنساب مع الكلمات، حينذاك يستطيع أن يفهمها شعورياً قبل أن تتراءى لذهنه. 
 
وهكذا يكون الشعر هو الماء الذي يضمن لذلك البحر ثباته وجماله وعنفوانه، ذلك البحر الذي يقدم ذاته إلينا في نص رائع هو أول قصيدة طويلة وصلتنا حتى الآن، ربما يكون أول دراما مكتوبة في التاريخ، وأول فلسفة صوفية وصلتنا في كتاب، وعلى هذا النحو اعتقد المصري أن بأداء تلك الطقوس يمكنه أن يسلم نفسه للموت، وتنتهي قصته على نحوٍ جميل.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة