أكرم القصاص - علا الشافعي

ناهد صلاح

هيروشيما حبي.. "أنتِ لم تري أي شيء.. أي شيء"

الإثنين، 14 فبراير 2022 06:48 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بما أن العالم يحتفل اليوم بعيد الحب، أو يُفترض أنه يفعل، ويتذكر القديس فالنتين شهيد الحب، فإني أغتنم الفرصة وأكتب عن واحد من الأفلام التي اخترتها في كتابي "أفلام الحب والحرب"، وهو "هيروشيما حبي" إخراج آلان رينيه عام 1959، فيلم مفعم بالحب والذكرى، حيز الذكرى هنا واسع، من "نيفير" بفرنسا حيث قُتل حبيبها الجندي الألماني، إلى "هيروشيما" المنكوبة بالحرب، حيث تعبر الفرنسية "إيل" بطلة الفيلم، كأنها فراشة تولد من ذاتها، تبحث في الشوارع عن ضوء، فتمسها نار مأساتها في حبها العابر مع الياباني "لوي"، ذلك الحب الذي نبتت على جوانبه ذكريات الأمس، مقتحمة حاضر يحاول أن يفلت إلى غد مختلف.

*****

  عندما  تحل الحروب وتطيح بكل شيء ولا تبق غير سيرة الدم، فإنه بالرغم من الدمار والجنون؛ هنالك دائمًا قصة لا تستسلم للتداعي، أبطالها يدسون أرواحهم الشاردة في خبايا الحاضر، كي لا يتتبعهم الأمس المخيف، يتحملون عبء المسافة ما بين زمنين، حتى لا يعودون إلى ماضي الرصاص والقنابل والصواعق النووية، كذا كان الحال في الفيلم الفرنسي "هيروشيما حبيبي" للمخرج آلان رينيه، يدنو على مهل من مساحة سخية بمشاعر إنسانية مرتبكة في هدنة المتعبين.

   هذه حكاية تمرست فيها الحرب كثيرًا، بكل الأشكال والألوان التي امتدت من الفاجعة والمأساة إلى حب خاطف بين رجل وامرأة، عبرا كل زوابع الحرب التي ضربت بثوابت غاصت في ركن مظلم من الذاكرة، وبمزيد من السخرية حينًا والتحدي والاحتماء بالحب في حين آخر، استطاعا مواجهة القسوة والالتفاف حول الخوف الذي يسكنهما.

 الرجل هو مهندس ياباني يعمل بالسياسة ويتحدث الفرنسية بطلاقة، والمرأة هي ممثلة فرنسية ذهبت إلى اليابان لتشارك في تصوير فيلم سينمائي. الرجل هو (لوي) يجسده الممثل والمونتير الياباني إيجي أوكادا ( 1920 – 1995)، والمرأة هي (إيل) تجسدها الفرنسية إيمانويل ريفا (24 فبراير 1927 - 27 يناير 2017)، كان اسمها قبل هذا الفيلم بوليت ريفا؛ خياطة تعشق المسرح وتتابعه بأقصى ما استطاعت، وبالدرجة التي جعلتها تحلم أن تكون واحدة من نجومه، ما حفزها لترك بلدتها الصغيرة والالتحاق بمدرسة خاصة لتعليم التمثيل في باريس، ومنها إلى المسرح حيث لفتت انتباه آلان رينيه الذي كان يعد لفيلمه الروائي الأول "هيروشيما حبيبي"، فاختارها لتكون بطلته وتقف لتقول الجملة القاطعة: "علينا أن نتعلم كيف ننظر وكيف نتذكر"، بينما تؤكد  لهذا الحبيب المباغت أنها رأت كل المأساة، إذ تبدو كأنها تراوغه أو تتحرر من ذاكرتها المأهولة بالحدث، في مشاهد صنعها رينيه لتعبر عن هذا المد والجزر بين الحبيبين وبين وطأة ما حدث.

استنادًا لرواية شهيرة بنفس الاسم كتبتها مارجريت دوراس، عن مأساة القنبلة النووية الأمريكية التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية، ومارجريت دوراس، هي ورائية فرنسية، وكاتبة سيناريو وصانعة أفلام روائية وتجريبية، من أهمها أعمالها: العاشق ١٩٨٤، هيروشيما حبيبتي ١٩٥٩، مسرحية الميدان ١٩٦٢، فيلم الأغنية الهندية ١٩٧٥ وغيرها من أعمال انتمت إلى الموجة الفرنسية الجديدة.

 مثلها مثل آلان رينيه نفسه فنان المونتاج الذي قام بإخراج أفلام وثائقية قصيرة، والمثير أن المخرج حين قرر تصوير هذا الفيلم، فقد جاء ذلك إثر فيلم وثائقي صوّره عن القنبلة الذرية، بدأ رينيه تسجيليًا بأفلام أنجزها منذ كان عمره لا يتجاوز الثلاثة عشر ‏عامًا، إلى أن صار من أبرز الأسماء التي صنعت مجد السينما الفرنسية، وهو السينمائي الأقرب إلى الأدب من بين أقرانه.

 اختياره لرواية "هيروشيما حبيبتي" التي استهوته فيها لعبة الذاكرة التي تجلب الماضي إلى الحاضر، رسخ مكانته في المشهد ‏السينمائي الفرنسي، بحوار ثري وفيه فيض كبير من التعبير الإنساني والعاطفي، مدعوم بصورة تشكيلية وموسيقى غامرة، ما جعله فيلمًا شجاعًا يفتح نافذة على سينما حديثة أو ما أطلق عليه "الموجة الفرنسية الجديدة"، كان للأدب تأثير بارز على هذه الموجة ومن هنا بدأ آلان رينيه أفلامه الروائية، صانعًا حالة سريالية مغوية.. سرد بصري يتخلله حوار شاعري مغلفًا بالفلسفة ومعبرًا عن الدمار النفسي لبطلي الفيلم.

   ممثلة فرنسية وصلت إلى هيروشيما لتصوير فيلم عن السلام، تُغرم بمهندس ياباني ثم تتطور علاقة الحب بينهما، تستدعي ذاكرتها علاقتها بحبيبها الأول الجندي الألماني في بلدتها الفرنسية "نيفير" أثناء الاحتلال النازي والحرب العالمية الثانية، يستند السياق الروائي إلى لون درامي خاص، يحتوي على عناصر من الصراع النفسي الداخلي.

 ضوء خافت يتسلل من غرفة يتعانق فيها امرأة فرنسية ورجل ياباني في بداية الثلاثينيات من عمرهما، المرأة تنظر باهتمام إلى يدها الغامضة وتتذكر نيفير، بلدتها على النهر، موت هذا الجندي الصغير الذي كان حبيبها بينما كانت هي في الثامنة عشرة من عمرها، يفتتح المشهد بهذا الوضع الحميمي الذي يبقى كوشم ناعم في مدخل الحكاية، علامة أحالت المكان وهو هيروشيما المدينة التي ابتليت بالقنبلة الذرية منذ بضعة سنوات، لايزال جرحها حيًا، إلى مدينة تتعبأ بالحب بين هذين الحبيبين، كما لو كانا يبحثان عن الحياة في نقطة منهما مجهولة وعطشى للأمان.

  بدت هيئتهما كما لو كانت جزء من لوحة تشكيلية متحركة، يبرز فيها الأبيض والأسود من خلال الإضاءة، استغل فيها تصاعد التواصل الإنساني بينهما، ليحقق الترابط بين وضعية الحب وصراعهما النفسي، فتقترب الكاميرا من الوجوه وتستوعب المكان كله بحساسية فنية مدروسة لاستخدام الأبيض والأسود، إضاءة وظلًا، ما كان من شأنه أن يثري الصورة السينمائية ببلاغة تساوي تقريبًا المضمون واللقاء الغرامي الممتلئ بالحركة والانسجام بتماثل يزيح التوتر، ويكاد يصل إلى مرحلة من التشفير الذي يحدد هذا الترابط بينهما كما لو كان يوحي بعملية تطهيرية للتخلص من وطأة حياة أنهكتهما.

 إنها علاقة مضاعفة بين الماضي البائس والحاضر الذي يشهد تحولًا ملحوظًا وشعورًا بالذنب، مدفوعًا بالرغبة في التكفير. الرجل في العلاقة يظهر ثابتًا ومتزنًا والمرأة تخطفها رغبة مهووسة وتجرفها إلى نقطة بعيدة في سيرتها تتشابه مع حاضرها وتلامسه، ربما هذه الحالة تدفعها كي تتدبر أمرها وتفلت من شقاء الأمس، وتحث الخطى نحو بقعة بيضاء خالية من الذنب، كأنها تولد من جديد؛ ولو توسعنا في دائرة التأويلات، فإنه لربما افترضنا أن هذه الحالة هي اعتذار ناعم ومرهق في نفس الوقت لما حدث في اليابان، حيث يتحرك المعنى ليكون "لوي" هو المعادل بشكل أو بأخر لبلاده التي أحرقوها في هيروشيما ونجازاكي وحولوها إلى جحيم مشتعل على الأرض، إنتهت الحرب الآن واختفى رماد قنابلها وتلاشت سحابة الفوسفوري والنووي، فهل يولد هنا طائر الفينيق ويبدأ كل شيء من جديد؟ هل النسيان يمكن توقعه؟...

 "أنتِ لم تري أي شيء في هيروشيما.. أي شيء"، يقول لها لوي، فترد عليه: أنا رأيت كل شيء! وتستطرد تحكي عما رأته في مستشفيات هيروشيما، فيردد عليها مرة أخرى: "أنتِ لم تري أي شيء في هيروشيما.. أي شيء"، لا تعبأ وتواصل الحديث عما رأته وهو لا يمل من تكرار نفس الجملة التي كانت مفتاح الولوج إلى ما حدث من كوارث في هيروشيما، تكاد أن تكون محفورة على الأجساد المشبوبة بالخوف ولا تصغى سوى لرعشة الحمى عند تذكر الجنون الذي فتك بهيروشيما وأهلها.

 عبر عنه الفيلم في لقطات فوتو مونتاج استعرضت بصياغة بارعة، مقتطفات من التراجيديا الهيروشيمية نقلتها الجرائد السينمائية والأفلام التسجيلية وبعض الأفلام الروائية اليابانية. على خلفيتها صوت "لوي" الحبيب الياباني الذي يعبر مع "إيل" هذه اللحظة الذاتية: "أنتِ لم تري أي شيء في هيروشيما..أي شيء"، قصة حب فرنسية/ يابانية تندلع على أنقاض حرب وحشية.

 لم يكن "لوي" في هيروشيما وقت إلقاء القنبلة الذرية الأمريكية عليها، وكانت "إيل" تعيش قصة أخرى في نيفير بفرنسا، تراجيديا صغيرة توازي المأساة الكبرى في هيروشيما، من الهجمة المروعة على هيروشيما، إلى العقاب الشديد الذي لحق بها لأنها أحبت الجندي الألماني الذي قتلوه بعد ذلك أمام عينيها، قاموا بحلاقة شعرها وسجنوها في قبو وكانت في طريقها إلى الجنون حين أرسلها والدها إلى باريس يوم انفجار قنبلة ذرية على هيروشيما، من الحدث العام الذي اهتز له ضمير العالم، إلى وجعها الخاص الذي اكتشفت في هذه اللحظة أنها مازالت تعاني منه، بالرغم من مرور السنوات وانشغالها بالعمل وزواجها وحتى في علاقتها مع هذا الياباني الذي يحنو عليها، مشاركًا إياها نصيبه من الوجع يسألها البطل: لماذا تريدين أن تري كل شيء في هيروشيما؟! فترد عليه: إنها تثير اهتمامي! إن هيروشيما تعني لها العودة إلى الماضي والحرب التي مستها بشكل شخصي في فرنسا، وخزنت في ذاكرتها أحداث مرعبة تتذكرها الآن في هيروشيما مع حبيب ظهر فجأة ليعري هذا الثقب، على ما يبدو أن غطائه كان هشًا.

 هنا يتماهى العام مع الخاص ليبرهن مأساوية الاثنين، هو ما عبر عنه الناقد الفرنسي أندريه بازاني (مؤسس كراسات السينما) قائلًا:" القوة البرهانية في هذا الفيلم تأتي من المسافة الشعورية التي تفصل بين كارثة تاريخية، يمكننا أن نقول عنها إنها كونية، طالما أنها أحدثت انقلابًا شاملًا في مصير الشعوب، وبين تجربة إنسانية ضيقة، تكاد تكون ريفية، لكنها – مع هذا – أساسية وفاعلة في تشكيل وجدان صاحبتها".

   هذا النفس التجريبي الذي لعبه آلان رينيه في سرد الحكاية والصورة، معبرًا عن حالة إنسانية بقدر ما انطوت على المغامرة في فضاء هش، بدت كذلك كرقصة أخيرة متوهجة، خصوصًا لما نعلم أن قصة الحب المتوهجة هذه لن تستمر سوى ساعات فقط، قبل مغادرة البطلة وعودتها إلى فرنسا، ساعات لا تتشابه الدقائق فيها وتكفي للفرح والحزن وتهدج الصوت وتخفيف الذكرى، نفس النسق تقريبًا استمده فيما بعد المخرج المصري سعيد مرزوق في فيلمه"الخوف" (1972) الذي ظهر خلاله، متأثرًا بالفرنسي آلان رينيه في تكوين كادراته ورسم إيقاعه الذي يُكمل إلتقاء الشكل والمضمون، وربما تأثر أيضًا بالفكرة التي صورت في مشهد ممتد، حبيبان شابان (لعب دوريهما نور الشريف وسعاد حسني)، صحفي يلتقي بفتاة من السويس تتجه إلى القاهرة بعد أن تفقد أسرتها في حرب 67، وتعيش مأساة الخراب والدمار وموت أمها بين يديها، أحاسيس متضاربة بداخلها لا تنس فيها ما حدث، بينما تنمو مشاعر حب بينها وبين هذا التائه المرتبك أيضَا الذي تقابله لأول مرة، إذ يبدآن في البحث عن لحظات إنسانية تهرب بهما من قهر الحرب وتوابعه، أحاديث الصحف الجوفاء، تطفل المحيطين وخفير عمارة تحت الإنشاء، يلتقيان في ظلالها يطاردهما في إلحاح وبكراهية، دفقة شعورية من الخوف؛ من المفروض أنها تعبر عن الوضع في هذه الفترة الصعبة التي أعقبت النكسة.

  عمومًا، فإن الأمر مختلف في "هيروشيما حبي"، لأن الحرب إنتهت واقعيًا، لكنها ليست بشكل كامل، والدليل هذه القلوب التي تعتصر بأهوالها، نكتشف أنه اليوم الأخير للحبيبة الفرنسية في هيروشيما، هذه المدينة التي تبحث في شوارعها عما يرمم لها الانكسار الداخلي، شعور قوي بالحاجة إلى الذاكرة كي يحميها من رعب النسيان وبالتالي من فرصة التحرر، وينفتح على أعماق الذات ومتاهاتها.

  بهاء الفيلم ورونقه في ارتكازه على الحب كمصدر يسهم في بلورة الأفق الإنساني، ومحاولاته للبحث عن الخلاص من الآلام والتمزقات، من خلال بناء مشغول بجمالية بصرية مصاحبة لإيقاع بطيء، يعكس غليان المشاعر ويسلط ضوءً على تمزّق الفرد ورغبته في نهاية ما للنفق الطويل. هناك كم هائل من الحب، وهناك أيضًا قسوة وخراب وانكسار لا ينتـهي، يمكن للمشاهد أن يراها ويغوص في تشعباتها وهو يتابع الفرنسية العاشقة تسير إلى جوار الياباني الذي يمشي على خطى الحاضر، وتحيطهما مظاهرة سلمية تُرفع فيها صور مأساوية لهيروشيما، إذ يُصرح لها بحبه بينما تلقي برأسها على كتفه في حزن شديد، متماسك هو ومهزومة هي، ولا شيء كما هو الحال في الحب يزيد من رغبتها في التحرر من ألم دفين في ظل الذاكرة، ألم تحارب بكل قوتها كي لا تنساه، فتتأمله بعمق ثم تؤسس صلة بين حب الأمس واليوم، بين نيفير وهيروشيما، في لقطات قام رينيه بتقطيعها بشاعرية تضيء سرد الحكاية وتفصل ملامحها بصور غير تقليدية عن الحب أو الحرب، تدل على تطور احترافي حدث في العمل السينمائي حينئذ، كما تبيّن التأثيرات النفسية للبطلين والتي تمتد إلى المتفرج بانسيابية، فيتواصل مع مناجاتها لحبيبها، دون أن يقطع هذا التواصل ظهور صور هيروشيما في الخلفية:" من أنت.. أنت تدمرني.. لقد قابلتك، لقد تذكرتك.. لقد انتظرتك في نفاد الصبر بلا حدود.."،  ثم ينتهي الفيلم بجملة تختصر كل ديالوج العاطفة  في الفيلم سواء على مستوى الحوار أو الصورة: 

-     أنت هيروشيما

-     أنت نيفير.

 

 

 

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة