"محكمة" .. قصة جديدة لـ خالد إبراهيم

الأحد، 18 ديسمبر 2022 11:15 ص
"محكمة" .. قصة جديدة لـ خالد إبراهيم خالد إبراهيم

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أين أنا
هكذا نطق عقلى.. ظلام دامس يحيط بى.. لا اسمع أى أصوات.. فقط الصمت الذى يخترق سكون الحياة.
حاولت فتح عيناى ولكن دون جدوى، هززت رأسى ولكن جسدى لا يستجيب، نمت وكأنى من أهل الكهف، كم مر من الوقت وأنا نائم؟
حاولت النهوض ففشلت، يعجز جسدى عن الحركة، وكأن عقلى يأبى أن يستجيب لأمرى بالنهوض، هل أحلم أم أن الموت داهمنى وأنا الآن فى حياتى الأخرى؟
دعك من هذه الخرافات.. تبا للأفلام والروايات والقصص التى تغرق فيها حتى أصبحت تفسر كل شيء وكأنك بطلا لرواية عتيقة.
خيوط من النور بدأت تترآى أمامى قادمة من بعيد.. لا شك أننى نمت كثيرا.. هيا انهض.. لا أقدر على الحركة .. يا إلهى ماذا حدث لى؟
 
حتى ذاكرتى لا تسعفنى.. ماذا يحدث؟ .. آخر ما أتذكره اننى كنت أحاول أكتب الفكرة التى داهمتنى مئات المرات، وكالعادة عجزت، فرميت القلم وأنا أسب نفسى وأسب الفكرة التى لا تريد أن تخرج من رأسى، ثم أطفأت أنوار الغرفة وذهبت إلى سريرى.. ثم... ثم ماذا؟
لا شك أنه حلم.. لا بل كابوس سخيف، لطالما تعرضت لعشرات الكوابيس بعد وجبة عشاء ثقيلة أو تفكير لا ينقطع.. ولكنه كابوس غريب
عادت خيوط النور تأتى من بعيد ثانيا، ولكنها هذه المرة تزداد وتقترب بشدة.
بدأت الأشياء حولى تتجلى ببطئ.. ساحة كبيرة .. وأعمدة طويلة .. وفضاء لا أول له ولا آخر.. همسات ونمنمات بدأت تداعب أذنى.. وتزداد شيئا فشيئا مع خيوط النور التى ملئت فضاء المكان
بدأ الشك يتسرب إلى نفسي.. ومشاهد يوم القيامة تلوح فى الأفق .. نعم، لا شك أننى فارقت الحياة وحانت ساعة حسابى، فإذا كان هذا ليس حلما أو كابوسا، فلابد أننى مت، وقائق قليلة تفصلنى عن الحساب.. يا إلهى.. لست مستعدا لهذه اللحظة، لطالما حسبتها بعيدة.
اختفى السكون، استحالت الهمسات إلى أصوات صاخبة، وكأننى أقف فى ميدان عام فى يوم فى وسط الأسبوع، بينما عقلى ما زال متوقفا، لا أتذكر أى شيء سوى اللحظة التى رميت بها بالقلم من على المكتب وأطفأت الأنوار لأنام.
وفجأة انكشف كل شيء.. فتحت عينى لأرى ما حولى.. مئات البشر يقفون حولى يصرخون، ولكنى لا أستطيع تفسير ما يقولون.. التفت خلفى فوجت منصة عملاقة، تتناسب مع ضخامة الأعمدة.. لم أر شيئا كهذا من قبل.. هل هذا شكل الحساب.. هل يتحدد مصيري بالجنة أو النار الآن ؟.. ومن هؤلاء الذين يصرخون فى وكأنهم ينادون بقتلى أو اعدامى ؟
نهضت من رقدتى رغما عنى.. دقات عنيفة منتظمة أرعبتنى، ومعها هدأت الأصوات تماما، فاختفت الدقات.. بقعة من الضوء وقعت على المنصة فترائى لى، شخص عملاق له أجنحة هائلة يجلس منتصف المنصة، وبجواره شخصين يماثلاه فى الضخامة، فبدو ثلاثتهم وكأنهم الملائكة التى قرأنا عنهم فى الكتب.. اغثنى يا الله.
نطق العملاق الذى يتوسط المنصة اسمى ببطئ، فسقطت القيود التى كانت تكبل يدى، فقال وصدى صوته يرج المكان:
-          انت لم تمت.. ولست في حلم ولا حتى فى كابوس.. وآخرتك لم تأت بعد.
لم تهدأ جملته من روعى، ولكنى أقسم أنها زادتنى رعبا وخوفا.. فقلت وكتلة جسدى كلها ترتعش:
-          أين أنا إذن؟
ارتفعت الأصوات من الجمع الذى يقف خلفى مرة أخرى تهاجمنى، فأسكتتها دقات القاضى الذى يتوسط المنصة، حتى هدأت تماما.
فقال بانفعال مكتوم :
-          لا تنطق إلا عندما أسمح لك
صمت لبرهة فأدخلت لسانى فى فمى المليء بالأسئلة، ولكن الأجواء العامة، ووضعى البائس وهيبته منعونى من الحديث، فاستطرد قائلا:
-          انت متهم هنا.. وكل ما عليك أن تصمت.. وحينما يأتى دورك للدفاع سأسمح لك بالكلام
أي جنون يحدث .. هل اختطفت؟.. هل هذه هلاوس؟ .. هل ...
داهمنى بصوته الجهور المرعب قائلا:
-          ولست مختطفا ولست فى هلاوس
انه يسمع عقلى.. من هذا بحق الجحيم.
-          قوانينا لا تسمح بمحاكمة أى شخص إلا فى حضور محاميه.. وبما انك لست من عالمنا.. فقد عينا لك محاميا.
كسرت أصوات خطوات حاجز الصمت الذى ساد المكان بعد جملته الأخيرة، فظهر شخص آخر يشبهم فى الهيئة والتكوين..
دنى منى حتى التصق بى.. عملاق مثلهم، بأجنحة بيضاء، ولكن الصرامة التى تعتلى وجوههم ليست على وجهه، أخذت اتفرس فى وجهه وعقلى مليء بالأسئلة، أحاول أن استنجد به، ولكنى لم أتفوه بكلمة.
قال رجل المنصة العملاق:
-          صفحتك مليئة بالتهم
صمت للحظات ثم أَضاف:
-          تهمتك الاولى اهمال الأفكار والاستهانة به وتبديد الموهبة التى حباها الله لك، وهذه عقوبتها كبيرة.
واستطرد بعد لحظات:
-          العقوبة الثانية هى سوء استغلال الأفكار التى تنتابك.. والثالثة هى إضاعة كافة الفرص التى مُنحت لك.
هززت رأسى بعنف عسى أن استيقظ من ذلك الكابوس ولكن دون جدوى، فصرخت قائلا:
-          أنا لا أفهم شيء.. لست مذنبا.. ولم أرتكب أى جريمة.. انا رجل مسالم وفى حالى.. ابتعد عن السياسة.. ولا أتحدث فى الدين.. حتى علاقاتى مع النساء عابرة ولا ترتقى إلى الجرائم.. علام أحاكم ؟
لم يعر القاضى اهتماما للأصوات المعارضة التى ارتفعت، فصاح بى:
-          لسنا فى محكمة بشرية.. انت تدعى أنك كاتب موهوب.. تكتب القصص والروايات بين الحين والآخر.. ولكنك أهملت فى أفكارك واستهنت بها وأسأت إليها، فاستحققت العقاب كى تكون عبرة للآخرين.
رتب المحامى على كتفى وأشار لى بالهدوء، فاستطرد القاضى:
-          ليتك تحدثت فى السياسة والجنس والدين.. ليتك سخّرت علاقاتك العابرة فى كتابات وأعمال أدبية.. المحكمة لا يهمها اهمالك للسياسة.. ولا يعنيها أنك جبان تسير جنب الحائط.. ولا تنظر لسلبيتك المفرطة التى تتعامل بها مع شئون حياتك.. فهذا شأن، ووجود فى ساحتنا المقدسة شأن آخر.. انت تقف هنا متهما.
صمت لحظات، مرت على وكأنها سنون طويلة واستكمل:
-          المحكمة تنتظر دفاعك
-          كيف ادافع عن نفسي وانا لا أفهم هذه الاتهامات.. أنا رجل حر.. اكتب ما ريد ولا أكتب ما أريد.. افكارى تخصنى.. وما يدور فى رأسى هو ملك لى.. لا يحق لأى شخص أن يتدخل بها.
ابتسم القاضى فى سخرية وقال مستهزءا:
-          يا لك من كاذب أحمق.. حديثك مليء بالكذب والافتراءات.. منذ متى وأنت حر.. منذ متى وما يدور فى رأسك هو ملك لك.. لماذا تضرع كل ليلة إلى الأفكار كي تأتيك لتكتب وتبدع.. وحينما تتعثر تلقى بالورقة والقلم وتسب وتلعن.. انت ضعيف لا تقوى على الافصاح بأفكارك.. ولا حتى بكتابتها فى الخفاء.. شجعاتك وهمية ورصيدك من الكتابات فضحك.
فصحت فى غيظ :
-          وما شأنك بأفكارى.. لماذا تحاسبني.. من عينك إلها تحاسب الناس على أفكارها؟
-          تأدب.. انت فى محكمة مقدسة.. تقف أمام أكبر قضاتها.. فإما أن تدافع عن نفسك.. أو تنال عقابك الذى تستحق
فقلت هازئا:
-          وما هي عقوبتى؟
فقال ببرود يُحسد عليه:
-          الاخصاء
انتابتنى قشعريرة، وارتجف جسدى، والأصوات حوالى تتعالى بالضحكات والعبارات الساخرة، ثم رددوا جميعا بصوت واحد..
-          الاخصاء.. الاخصاء .. الاخصاء.
أسكت القاضى الأصوات بدقاته المرعبة، ليعود الصمت مرة أخرى فقلت وأنا أرتجف:
-         أى اخصاء تتحدث عنه؟
فقال القاضى:
-          إذا ثبتت إدانتك فسيحكم عليك بالاخصاء.. والاخصاء فى محكمتنا تعنى أنك ستعود عالمك بلا أفكار.. سنقصيك من عالم الأفكار لتصبح انسانا عاديا، تأكل وتشرب وتمارس طقوسك الدينية وتتناسل كالحيوانات ثم تنفق فى النهاية مثل ملايين البشر الذين ينفقون كل يوم.
تحسست حنجرتى وكأننى أستنجد بالكلمات لكى تخرج، والعرق يتصبب من كل جسدى، وهممت بالكلام لكنه قاطعنى:
-          والان، وحتى لا تُضيع وقت المحكمة كما أضعت وقتك وأفسدت أفكارك وأهدرتها، سنستعرض هنا أفكارك التى تدور فى عقلك.. فإذا كنت تستحق فرصة أخرى ستمنحها لك المحكمة.
وصمت قليلا وتابع:
-          اما إذا كانت تافهه مثلك فسيصدر الحكم فى الحال.
استدعى القاضى شخصا، فجاء فى خطوات ثابتة بإيقاع منتظم، فناول القاضى بعض الأوراق، ثم استار وهو فى مكانه، وعاد من حيث أتى بنفس الخطوات، وكأنه انسان آلى، تفحص القاضى الأوراق، فارتسمت فى زواية فيهه ابتسامة بلهاء، سرعان ما تحولت إلى ضحكة ساخرة، وقال:
-          يبدو أن الاخصاء عقوبة مخففة فى مثل حالتك.. ما هذا الهراء الذى يدور فى عقلك.. من العار أن نطلق على هذا السخف اسم الأفكار.
وصمت متفحصا الورق، وقال دون أن ينظر لى:
-          المايسترو الذى يمارس الجنس مع الموسيقى.. الاخطبوط الثائر.. سيمفونية سقوط الملابس الداخلية.. تنازلات نملة حمقاء.. الرجل الذى يفقد صوته عند كل مساء.. لبؤءة على عرش الحمير.. يوميات زرافة في منزل دعارة
 
ولأول مرة يتخلى القاضى عن وقاره أثناء قراءته لأفكارى، ويدخل فى نوبة من الضحك الهيستيرية، لتننقل العدوى إلى الشخصين اللذين يجلسان بجواره، ثم إلى الجمع الغفير الذى يشاهد المحاكمة.
استمرت الضحكات والعرق مازال يتصبب من جبينى، ثم شعرت أن بنطالى قد تبلل من الرعب، انتظرت دقات القاضى المخيفة، ولكنه لم يفعل، نظرت إلى المحامى الصامت، فلم أجد سوى عبوسا وتجهما، فنظر نحوى نظرة لم تعبر عن أى شيء، ثم نظر للأرض خجلا.
 
مرت دقائق والقاعة غارقة فى الضحك من عناوين الأفكار التى كنت أهم بكتابتها فى يوم ما.. نعم، هذه أفكارى، وعناوين قصص كنت أنوى كتابتها.. صحيح أنه لا أحد يهتم بما أكتب، ولكن من داخلى أشعر أننى كاتب.. قاص.. لديه الكثير ليقوله.
 
بجانب مشاعر الخوف والرعب التى أشعر بها، انتابتنى نوبة من الحزن والخجل، فها هى أفكارى الذى ظلت حبيسة عقلى سنوات وسنوات، تتعرى وكأننى أنا من أتعرى أمام الحضور.
-          سيدى القاضى.
اخترق صوت المحامى سيل الضحكات والعبارات المستهئزة والشاتمة والشامتة، وهو يخاطب القاضى، فعاد الصمت يتصدر المشهد مرة أخرى، انتبه القاضى للمحامى، بعد أن فرغ من وصلة الضحك، وقال فى جدية حاسمة:
-          من حق المتهم فرصة أخيرة.. هذه هى القوانين كما أشرت سيادتكم فى بداية الجلسة.
فرد القاضى وأثار الضحك لم تفارق وجهه:
-          وهل تظن أن هذا لديه ما يدافع به عن نفسه.. القضية محسومة والحكم فى انتظاره.
-          المتهم لم يحصل على فرصة للدفاع عن نفسه
لم ينبس القاضى، فتابع المحامى:
-          ولكن إئذن لى بقليل من الوقت مع المتهم منفردا.
عبس القاضى، ولكنه لم يعارض، وفكر قليلا، ثم استشار من على جانبيه، وقال موجها حديثه لى:
-          وفقا لقوانينا أمامك نصف ساعة تتشاور فيها مع محاميك، وبعدها سيصدر الحكم.
وتابع:
-          الاخصاء ينتظرك.. ما لم تثبت للمحكمة  انك جدير بموهبتك.
لم يمهلنى القاضى فرصة للرد، فما أن فرغ من تحذيره حتى اختفى كل من فى القاعة، القضاة والجمع الغفير، والمستشارين، والأعمدة الطويلة وحتى الأجنحة، وبقيت مع المحامى وحدنا فى الساحة، تلفت حولى باحثا عن أى شخص، فلم أجد، فتنفست الصعداء، ثم استعدت قوتى وقولت للمحامى:
-          لا أفهم شيئا.. ماذا يحدث.. أتوسل إليك، لحظات تفصلنى عن الجنون.
-          موقفك غاية فى التعقيد.. المحكمة لا تقتنع بأفكارك، ولا بحججك الواهية التي تتذرع بها هربا من الكتابة.
ثم قال معاتبا:
-          لماذا فعلت كل ذلك بنفسك.. لماذا أهملتها .. القليل من العناية كان سيجنبك كل هذا
انتظر ردى ولكن صمتى فاجئه، فتابع:
 
-          اعرف أن هذا فوق احتمالك.. نحن هنا فى عالم الأفكار يا صديقى.. وهذه محكمة الأفكار.. وهذا القاضى المجنح هو كبيرنا.. وهؤلاء الجمع هم عشرات بل مئات الأفكار التي راودتك فى يوم ما، فاستكبرت أن تحولها لأعمال على الورق.. توسلوا إليك مرارا وتكرارا ولكن دون جدوى.. فانتظروا اليوم الذى يثأرون فيه لكرامتهم وينتقمون منك..
 
لم يجد منى سوى الدهشة والصمت، فاستطرد:
-          لعلك تسأل الان وماذا عنى.. انا أيضا فكرة.. كل من فى القاعة فكرة.. نشبه البشر ولكننا فى حقيقة الأمر أفكارا بأجنحة نطير فى فضاء العقول نبحث عن من يهتم بنا ويعتنى لأمرنا ويحولنا لأعمال عظيمة
فقولت أخيرا:
-          حتى أنت فكرة؟ .. وهل راودتنى يوما ؟
-          أنا أعرفك أكثر من أى شخص آخر.. نعم أنا فكرة.. ولكنى فكرة السماحة والطيبة، تنعتنى الأفكار بالفكرة السلبية ولكنى أجول فى العقول الغاضبة واتسلل إليها كى أمنح أصحابها القدرة على السيطرة على غضبهم، فلم يجد القاضى أنسب منى كى أدافع عنك.. ويبدو أنه قد أصاب الاختيار.. فانت قريب الشبه منى، طيب حد السذاجة.. يصفوك الناس بالشخص السلبى.. وهكذا أنا أيضا.
-          وهل يسيطر الأشرار على عالمكم؟
-          هؤلاء الأفكار ليسوا أشرارا ولكنهم أقوياء.. فى عالمنا ننقسم إلى أقوياء وضعفاء.. فحينما تُولد فكرة قوية فى عقل أحدكم تصارعكم كي تخرجوها للنور، ولابد أن تنتصر ووقتها لا يجد الشخص بدا من كتابها، أما اذا أهملها تصبح الفكرة عدوته وتنتظر اليوم الذى تثأر لكرامتها منه.
-          وماذا لو كانت الفكرة ضعيفة؟
-          تموت
واستطرد مفسرا:
-          ألم تقرأ قصة "ميلاد فكرة" لتوفيق الحكيم؟
هززت رأسي نافيا في خجل، فتابع:
-          كيف تدعى أنك مثقف وكاتب ولم تقرأ هذه القصة..  هي باختصار تحكى عن شخص داهمته فكرة فى منتصف الليل، ودار بينهما حديث، هى تريد أن تخرج للنور وهو يثرثر معها ويماطل فى الحديث ويسألها أسئلة تافهة، وحينما اقتنع أخيرا بضرورة أن يمسك بالورقة والقلم ليكتبها كان الأوان قد فات، وماتت الفكرة، فأخذ يلوم نفسه ويأنبها.
شعر المحامى بيأس من ضعف موقفى وموقفه فقال لى وكأنه يحاول انقاذ ما يمكن انقاذه:
-          عناوين الأفكار التى ذكرها القاضى ليست عناوين سيئة.. انا فكرة وأعرف ذلك جيدا.. ولكن يعيبك الاهمال فيها.. فهو يضحك من الغيظ لا سخرية منك.. هو يعرف أنك لن تكتبها.. يعرف أنك جبان وخجول ولا تقوى على المقاومة.. كل ما عليك هو أن تجد فكرة تعرضها عليه وتقنعه بها وتعده بسرعة تنفيذها وإلا ستتعرض للاخصاء وتعود عالمك شخصا آخر.. شخصا لن تحبه.
-          وماذا افعل.. عقلى مشتت ولا أجد أى افكار حاليا.. ساعدنى أرجوك.
-          للأسف .. مهمتى هى الدفاع عنك لا البحث عن أفكار.. افكارنا مجنحة وتطير فى كل مكان.. حاول أن تلتقط احداها وتجعلها تختمر فى رأسك.. فالوقت يداهمنا.
حاولت استجماع الأفكار المشتتة داخل عقلى، فوجدتنى أفكر فى أمر آخر فسألت المحامى:
-          اعرف أنه لا وقت لدينا.. ولكن اسمح لى.. اذا كان كل هؤلاء الأشخاص مجرد أفكارا.. فمن يكون هذا القاضى.. أقصد... من يكون هذه الفكرة؟
نظر لى المحامى وملامح السخرية ارتسمت على وجهه وقال:
-          أصاب حينما وصفك بالأحمق.. انه كبيرة القضاة
فلمعت عينى وقلت بحماسة:
 
-          طالما أنه كبير القضاة فهو عادل إذن
ضحك المحامى وتمتم وهو ينظر فى الأرض:
-          يا لك من غبى
ثم عاد ونظر لي محذرا:
-          لم يتبق لنا الكثير.. سيدخلون فى أى لحظة.. عليك أن تفكر
أمسكت رأسى بعصبية .. أين الأفكار التى كانت تأتيتنى صباحا ومساءا.. أين الروايات التى كنت أحضر لها.. أين الملاحظات والهوامش التى طالما كتبتها على أي ورقة، وفجأة انتابتنى فكرة جريئة، فقلت للمحامى:
-          وجدتها.. سأحكى له عن...
لم أكمل فكرتى للمحامى، فقد عاد القاضى والجمع من حيث لا أعلم، وكأن الأرض انشقت فظهروا فى نفس الهيئة التى تركونا بها، عاد الصخب من جديد.. الهتافات من خلفى تطالب بمحاكمتى، والقاضى والمستشارين المجنجين ينظرون لى بحدة وحسم، انتظر القاضى حتى هدأت ثورة الأفكار وقال:
-        وقتك انتهى.. هل لديك ما تقدمه للمحكمة؟
تقدمت بهدوء تجاه المنصة العملاقة والصمت يسود المكان والجميع يترقب ما سيحدث.
-          "محكمة الأفكار"
ارتسمت على وجه القاضى علامات الاستفهام، وصمت كى يمنحنى فرصة للاستمرار:
-          سأتحول لفكرة.. رجل يستيقظ ليجد نفسه فى محكمة الأفكار وقاضى مجنح يحاكمه بتهمة اهمال الأفكار والاستهانة بها، وحينما يجد نفسه مدانا يمنحه القاضى فرصة أخيرة ليكتبها.
فقال القاضى بغضب:
-          انت تتلاعب بالمحكمة.. هذه ليست فكرة لكنها الواقع الذى تعيشه الآن، فمن أعطاك الحق فى تحويلها فكرة.
-          هى واقع بالنسبة لعالم الأفكار الذى نتواجد فيه.. ولكنها بالنسبة للبشر ستكون فكرة جديدة.. خيالية.. ومن بنات أفكارى.
وصمت القاضى مفكرا فاستطردت بشجاعة:
-          سأجعل البطل يصحح مساره بعد أن ضل الطريق.. سأجله ينشر فكرته الجديدة والجريئة، ويعرف الناس أن الأفكار عالم يسوده الرحمة والمغفرة.. وأن سلطة القاضى العليا مهتمها العدل والارشاد ومقاومة الانحرافات وليس الظلم والقهر والاخصاء، وأن المبدع مهما أهمل فى أفكاره فحتما سيعود إليها ويخلص لها ويعتنى بها كمولوده الصغير.. سيدرك هذا الشخص بفضل حكمة القاضى العادل كم كان مخطئا فى حقه وفى حق أفكاره، ووقتها سيحترمها وسيحترم ذاته.
خيم الصمت على الأجواء، لم تعد الأصوات تتعالى ضدى، ولا الهمسات تصدر من الأفكار التى تنتظر اخصاءى، فنظرت للمحامى الذى تعلقت عينه بالقاضى ينتظر قوله الأخير.
نظر القاضى مترددا إلى المستشارين الذين ظهرت على وجهمها علامات الحيرة، وهم بالنطق ولكنه تراجع، ونظر مرة أخرى لمستشاريه، ثم نطق أخيرا دون أن يرفع عينه تجاهى:
-          حكمت المحكمة على المتهم بالإخصاء.
 
 
 
 






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة