ناهد صلاح

سر أبيه

الإثنين، 31 يناير 2022 03:28 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

سألت المخرج علي بدرخان عما إذا كان والده المخرج الكبير أحمد بدرخان (1909-1969)، هو من وراء حماسه للعمل العام والقضايا الكبرى واختياراته الأيدولوجية، أجابني دون تردد: نعم. ثم أضاف: بدا ذلك بشكل مباشر، لأن والدي كان شجاعًا ونزيهًا، لدرجة أنه لم يتوسط لدخولي معهد السينما، كان كل شيء حولي يناديني إلى العمل السينمائي، كاميرات ومعدات في البيت، والدي كان يرغب أن أكون سينمائيًا، لكنه أراد أيضًا أن أحقق ذلك بجهدي وليس باسمه. وبشكل غير مباشر يظهر تأثير والدي بما يثير خيالي أنه يراني بطريقة ما، إنها الطريقة التي أتواصل معه من خلالها، وتصنع هذا التوازن بين أمنيات والدي وأحلامي.

 لم يكن سؤالي يتلمس مشوار أحمد بدرخان كمخرج من رواد السينما الأوائل في مصر، أو يحاول أن يحقق المثل الشعبي "الولد سر أبيه"، إنما بكل بساطة نشطت ذاكرتي أثناء حديث بدرخان الابن عن العدالة الاجتماعية في أفلامه، ورجعت بي نحو ثلاث سنوات أو أكثر حين احتفلت نقابة المهن السينمائية بيوبيلها الماسي، وكتبت موضوعًا لمجلة النقابة "تلي سينما" يرصد قصة إنشاء النقابة.

  كانت محركات البحث الإلكترونية تتداول معلومة أن المخرج الكبير محمد كريم هو أول نقيب للسينمائيين المصريين، المعلومة التي أكدتها بعض مصادر الأرشيف الصحفي، واتخذها البعض كمستند أو وثيقة صحفية دون مراجعة وتدقيق، لم يكن سهلًا البحث في مدى صحتها خصوصًا في ظل العلاقة الملتبسة بين غياب المعلومة أو ندرتها والكسل في البحث عنها، وهي أزمة حقيقية يواجهها الباحثون، بموازاة أزمة أخرى وهي عدم وجود أرشيف سينمائي يمكن الرجوع إليه كمصدر حقيقي لتاريخ السينما والسينمائيين، ولولا الكتاب الثمين "مذكرات محمد كريم في تاريخ السينما المصرية" للمؤرخ السينمائي والكاتب الدؤوب، النزيه، محمود علي؛ الصادر عن سلسلة ملفات السينما التابعة لأكاديمية الفنون، ما كنت عرفت قصة المخرج محمد كريم وإنشاء نقابة السينمائيين.

  يؤكد محمد كريم في مذكراته أنه رفض بإصرار منصب نقيب السينمائيين حين حاول زملائه ترشيحه، ثم يتحدث عن البادرة الأولى لفكرة النقابة قائلًا :"في الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات كان عدد المشتغلين بالسينما قليلًا والشركات محدودة، ولكل شركة منتجها الخاص، مع جهاز فني تجمع أفراده صداقات ويعملون معًا.. كما كنت – مثلًا- أعمل مع عبد الوهاب وبدرخان يعمل مع أم كلثوم.. وهكذا. ولم تكن السينما كصناعة بغير مشاكل شأنها في ذلك شأن أي عمل، له اقتصادياته الخاصة به.. وفي جلسة هادئة دار حديث بين فريق من السينمائيين حول إنشاء ناد نجتمع فيه وتألفت لجنة باسم لجنة السينمائيين المصريين كنت من أعضائها مع عبد الوهاب وعبد الحليم محمود وجبريل نحاس وأحمد جلال. وتولى عباس كامل مهمة سكرتارية اللجنة .. ووضعنا قانونًا للنادي وأرسلنا إلى جميع المشتغلين بالسينما نسخة من هذا القانون في أبريل 1943".

  بهذا المقطع افتتح محمد كريم كلامه عن نواة إنشاء كيان ينظم صناعة السينما وأحوال السينمائيين، ساردًا أنه بناء على دعوتهم اجتمع عدد كبير من السينمائيين لتأسيس النادي وكان مقره في شارع ثروت فوق حلواني الجمال سابقًا، هذا المقر الذي عُهد إلى "كريم" نفسه  لإعداده، حتى صار ملتقى الجميع إلى أن نشبت الخلافات بينهم في أواخر الحرب العالمية الثانية، حين ظهرت مشكلة تدبير كميات كافية من الفيلم الخام في أجواء الحرب، ولما توصلوا إلى توزيعها بقاعدة من دفع أكثر مساهمة في إنشاء النادي؛ يحصل على النسبة الأكبر من الأفلام، إنقطع عدد من منشئي النادي عنه وكان من بينهم محمد كريم.

  هنا نشأت فكرة تأليف نقابة رسمية للسينمائيين وتم تكوينها في 21 نوفمبر عام 1943، حسب كتاب "وقائع السينما المصرية في مائة عام/ 1896 – 1995" للناقد علي أبو شادي الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة، الذي يذكر المصور السينمائي محمد عبد العظيم كأول نقيب للسينمائيين، بينما يقول محمد كريم في مذكراته:" تولى منصب النقيب على التوالي كل من أحمد بدرخان ومحمد عبد العظيم وفؤاد الجزايرلي وحسن حلمي".

 إذن. فالمصدران يذكران أن محمد كريم لم يكن النقيب الأول للسينمائيين، بل كان هناك الأربعة الأوائل في منصب نقيب السينمائيين: أحمد بدر خان، محمد عبد العظيم، فؤاد الجزايرلي، حسن حلمي، الذين ربط فيما بينهم رابط مثير قام بتشكيل شخصياتهم الفنية والنضالية في العمل العام، وهو أنهم جميعًا باستثناء فؤاد الجزايرلي؛ درسوا السينما خارج مصر وعملوا كذلك خارجها قبل توليهم منصب النقيب، ما كان له تأثيره الفكري والقيمي في أعمالهم وطرق تعاملهم مع المهن السينمائية.

  ضرورة التغيير والإيمان بإمكانية حدوثه، كانت من أهم سمات المخرج أحمد بدرخان، فجاهد مع رفاقه لإنشاء النقابة واستكمال تأسيسها في العام 1955، حتى صار النقيب الأول الذي واجه عواصف وانعطافات البدايات، ومن منصب النقيب، تحول أحمد بدرخان إلى رئيس إتحاد النقابات الفنية، كان لديه رؤى طموحة مسلحة بتجارب سابقة وأكيدة في العمل السينمائي، يمكن إعتبارها إمتدادًا لأحلامه في التطوير، من مخرج له أثره الواضح على خريطة السينما المصرية؛ أثر تقني وإبداعي رسمه على مدار مشوار فني حافل، مرورًا بمنصبه كنقيب للسينمائيين ومتابعًا للتحولات بكافة أشكالها في الجغرافيا السينمائية، إلى فنان يتمتع بحساسية شديدة بالفن كجزء من وجدانه يعينه على الصمود ومواصلة المسيرة بإنجازات كبيرة.

 كان أول هذه الإنجازات هو إقناع الاقتصادي الكبير طلعت حرب بإنشاء ستوديو مصر، بعد أن أمسك بأول الخيط عبر كتابات عدة إنتبه إليها طلعت حرب؛ فطلب منه أن يعد له تقريرًا عن إمكانية إنشاء ستوديو سينمائي مصري، يكون من تمويل بنك مصر في تلك المرحلة التي شهدت نهضة اقتصادية وطنية، ورسخت لمفهوم وطني جديد بالشعار الدعائي، الرنان "ابن بلدك أولى بقرشك"، ففعلها بدرخان وقدم تقريره من واقع خبرته ومعرفته بعالم الاستوديوهات، فضلًا عن استعانته بتجربة صديقه المخرج نيازي مصطفى الدارس للسينما في برلين، وعلى إثر موافقة طلعت حرب على التقرير، أرسله ضمن بعثة شركة مصر للتمثيل والسينما إلى باريس لدراسة السينما قبل افتتاح ستوديو مصر.

 وهناك إلتقى بدرخان بنجيب الريحاني خلال تصويره لفيلم "ياقوت أفندي" في العام 1934، فعمل مساعدًا لمخرج الفيلم اميل روزيه، وفي فترة دراسته أيضًا كتب سيناريو فيلم "وداد" عن قصة أحمد رامي، أول فيلم أنتجه ستوديو مصر وأول بطولة سينمائية لأم كلثوم في العام 1936، بينما كان الإخراج للألماني فريتز كرامب؛ إذ خشيت أم كلثوم أن يكون بدرخان مخرجه لصغر سنه حينذاك وهو العائد توًا من دراسته بفرنسا، لكنه في العام اللاحق أخرج لاستوديو مصر ولأم كلثوم فيلم "نشيد الأمل" (1937) وتوالت بعده أفلامه الغنائية لأم كلثوم وغيرها من المطربين، فكانت أفلامه لفريد الأطرش وأسمهان ونجاة الصغيرة ومحمد عبد المطلب وآخرون، إضافة إلى أفلامه غير الغنائية التي تميزت بالأسلوب الرومانسي كما أعماله كلها سواء لحساب ستوديو مصر أو غيرها كشركة الإنتاج التي كوّنها مع مع أمينة رزق، وعبد الحليم نصر، وحلمي رفلة، باسم شركة اتحاد الفنانين ليكون أحد رواد السينما المصرية برصيد أفلام يزيد عن الأربعين فيلمًا.

 كانت هذه الأفلام هي نتاج حلم الطفل الصغير الذي تعلق منذ نعومة أظفاره بالسينما كما عرفها جيدًا بتردده على سينما كوزمو في عماد الدين، حسبما يقول الكاتب عبد المنعم سعد في كتابه "أحمد بدرخان، أسلوبه من خلال أفلامه"، الصادر في العام 1975 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مشيرًا إلى إعجابه بشارلي شابلن، شارحًا كيف بدأت علاقته بالفن حتى إلتحق بمعهد التمثيل، لكنه لم يكمل الدراسة فيه والتحق بالجامعة الأمريكية وهناك شارك في فريق التمثيل، ثم كوّن فيما بعد فريق الطليعة  للتمثيل، كما راسل معهد السينما في باريس، ونشر دراساته معظم دراساته السينمائية في مجلة الصباح، ذلك قبل سفره وحصوله على دبلوم في فن الإخراج، ولمعان نجوميته في هذا المجال؛ مدفوعًا بحسه الوطني وطموحه في التجديد الذي أثر بدوره في مساره النقابي ورغبته في تنظيم الصناعة السينمائية.

 

 

  

 

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة