محمد حبوشه

ياسر رزق.. رحيل الصحفي القابض على الجمر!

الخميس، 27 يناير 2022 04:24 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا تموت "الكلمة" عندما يرحل صاحبها، وعلى الرغم من أنه تسري البرودة في الجسد المسجى الآن، إلا أن "الكلمة" ترقد حية عفية بجانبه في فراش الموت، صحيح أنه لا صوت ولا صدى، ولكن تظل الكلمة شراعا يرفرف في سماء الله العالية، تقاوم أعتى الأمواج في نهر الحياة المتدفقة بالحيوية، خاصة إذا كانت صادقة تنطق بالوطنية والانتماء لتراب هذا الوطن، ولأن صاحبها من أولئك القابضين على جمر حروفها، فهى تظل عنوانا للحقيقة في كل زمان ومكان.
 
هكذا آمن الراحل الكبير "ياسر زرق" الذي ترك لنا غصة في القلب جراء رحيلة المفاجئ، فقد فقدنا فيه المهنية في تجلياتها المرعبة وصفاء القلب والعناد في الحق الذي خاض فيه سطورا سوف تظل راسخة في مخليتنا حتى نلحق به في دار الحق، ذلك لأن أن العمل المهني الاحترافي، هو الذي يمنح لصاحبه صفة المهنية، وهو ما كان حريصا عليه طوال رحلته.
 
قاوم الصحفي القدير "ياسر رزق" قوة الإغراء في تحول الإعلان التجاري إلى رشوة مقنعة للموالين، وأداة عقابية للمعارضين، فيصبح سوق الإعلانات جهة رسمية لإضفاء الشرعية على المؤسسات الإعلامية، عبر وضعها بين فكي كماشة الرقابة والابتزاز، وذلك ضمن أربعة مستويات وهى: أولا، الانتشار الواسع للمؤسسة الإعلامية حين تعلن الشركات لدى هذه المؤسسة، وهذا الانتشار يتطلب عدم الاحترام الدائم للضوابط المهنية والأخلاقية، ثانيا، الالتزام بعدم نشر ما يعتبر إساءة للشركات المعلنة، ثالثا، ارتباط الشركات بشبكة علاقات ومصالح مع رجال السلطة والنافذين السياسيين فيها، ورابعا، تحاشي غضب السلطة السياسية في البلاد، فغضبها يعني أن المؤسسة ستفقد الحصة الأكبر من الإعلانات التي تحصل عليها؛ لذا فإن الغلبة تكون عادة للخضوع لهذه الضغوطات، التي تنتصر على المبادئ والقيم الصحفية.
 
هذا ما تتعرض له المؤسسات الصحفية في العادة، أما الصحفيون فيتعرضون إلى الاحتواء الناعم، إذ أن صحفيي القطاع الخاص هم أكثر عرضة للإغراءات المالية من نظرائهم في المؤسسات العمومية، وكلما كان هامش الحرية للصحفي أوسع، تعرض للإغراء أكثر، فيما يتراجع الإغراء في المؤسسات التي تشهد رقابة، وهذا هو الامتحان الصعب الذي تجاوزه (ياسر رزق) في حياته المهنية ملتزما كرئيس تحرير جسور لصحيفة خاصة، وقومية في آن، ورئيس مجلس إدارة لمؤسسة قومية يحافظ على التوازن بين المهنة وجلب الموارد للمؤسسه، فلم يشغله أبدا أن ينتهك بعض الصحفيين أخلاقيات المهنة عبر التهويل أو عدم التوازن والدقة، أو تلفيق الأخبار، أو قبول الرشاوى، أو خدمة جهات بعينها، أو تغليب الأيديولوجيا على الحقائق، أو مراعاة مصالح السلطة والقوى الاقتصادية على حساب المهنة والمهنية.
 
أشهد بأن الراحل الكبير لم يأبه طوال رحلته المهنية التي امتدت لأكثر من 30 عاما، اعتلى فيها سدة المناصب القيادية في سن صغيرة نوعا ما، فقد كان دوما جسورا يعرف الحد الفاصل بين المهنية  والمغالاة في رصد الحقائق المؤلمة مهما كانت قسوتها، فقد التزم بأخلاقيات المهنة إنطلاقا من أنها تشكل أولوية في التكوين الصحفي، وكثرة ضغوطات العمل التي تتطلب سرعة الأداء على حساب الجودة، وذلك لأنه أدرك جيدا أن ذلك يؤدي إلى ارتكاب الصحفي الأخطاء المهنية والأخلاقية عن قصد وغير قصد، وتكريس سياسة الإفلات من العقاب، إذ إن أخلاقيات المهنة متروكة لضمير الصحفي وثقافة مؤسسته، وعلى المتضرر أن يلجأ إلى قضاء يتهم بعدم الاستقلالية، علاوة على ذلك فإن وجود مراكز صراع سياسية واقتصادية ضاغطة تجعل من الصحافة طرفا في الصراع.
 
عرف ياسر رزق مبكرا أن القيم المهنية وتمثلاتها في مهنة الصحافة وممارستها، وأظهر في كتاباته الرشيقة على جناح عمق الفكرة وسلامة الهدف أن هناك نزاعا في وظيفة الصحفي المجتمعية بين الحياد والانخراط، يخفي الصحفيون عادة اعتبارات غير مهنية في عملية معالجة المادة الصحفية، ويلجأ بعضهم إلى إبداء مواقفهم وآرائهم عبر أساليب ملتوية منها: اللجوء إلى محللين وخبراء يعرفون مواقفهم مسبقا، كي يقدموا الرأي الذي يرغب الصحفي في نشره، والحرص على التوازن الشكلي، من خلال وضع كل الآراء والمواقف، لكن مع اختيار ضيف قوي يتطابق مع وجهة النظر التي يرغب الصحفي في نشرها، مقابل ضيف ضعيف في التحليل أو الحجة أو الملكات اللغوية، أو نشر مواقف ونسبها إلى محللين أو مراقبين، دون ذكرهم بالاسم، أو اعتماد اللغة وسيلة للتأثير عبر التلاعب في الكلمات، أو توظيف صور منتقاة تقدم على أساس أنها رأي الشارع.
 
هناك نزوع واضح لدى غالبية الصحفيين للمشاركة والانخراط وعدم الاكتفاء بالحياد، وأن دورهم ينحصر في نقل الأخبار، فيما رأي (ياسر رزق) أن مهمة الصحفي هى الدفاع عن الطبقات الضعيفة في المجتمع، والمساهمة في الإصلاح السياسي، والدفاع عن المظلومين، وممارسة دور (المعلم للجمهور) وأعتقد أنه من الصعب المراهنة في وقتنا هذا وجود إعلام خال من الميولات والتوجهات في المجالات المختلفة من خلال كونه إعلاما مهنيا محايدا تماما يجعله خال من المبالغات والتلميع لجهة على حساب أخرى أو تسليط الضوء على آراء تعبر عن وجهة نظره هو وأيا كانت، من خلال تبني بعض الآراء والتوجهات التي قد يتبناها بعض الأشخاص من مفكرين وأدباء وسياسيين بحيث إنها تتماشى مع سياسة تلك الجهة أو المنظومة الإعلامية، وتسليط الضوء على جانب من آراء الناس المتناغمة مع سياستها، وذلك بالتأكيد غير ممنوع ولا بأس به إن كان القائل بالفعل يعبر عن وجهة نظره هو فحسب.
 
بات هذا من الأمور المألوفة في عالم الإعلام المرئي، أما بما يخص الإعلام المقروء فإن التقويل قد يكون حاضرا بشكل ملتو وغير مباشر، فإنه أحيانا وإن غابت المهنية عن الصحفي أو الصحيفة فحينها يمكن لمثل هذه الأمور أن تحصل، لأن إبداء الرأي أمام الملأ بالصوت والصورة مختلف تماما عن إبدائه بصورة تدرج تحتها كمية كلام قد يكون بالفعل قيل من قبل صاحبه أو أنه لم يقل من الأساس، هذا بالضبط ما حصل أحيانا عند بعض الصحفيين غير المهنيين من خلال استدراج أشخاص لتقويلهم كلاما لا يقصدونه من خلال تمغيطه والتلاعب به لكي يشبه المقصد الذي يريدونه هم أو لكي يشبه توجه هذه الصحيفة أو تلك، لكن (ياسر رزق) عرف جيدا أن الصحافة تكتب المسودة الأولى للتاريخ فأحكم ضميرة ومضى فارسا في مضمار الكلمة الصادقة الواعية بالدفاع عن مكتسبات الوطن.
 
أدرك (رزق) أن تأثير (الكلمة) لن يحتاج إلى جهد كبير بقدر ما يحتاج إلى صورة شخصية لشخص تجرى معه المقابلة الصحفية، ومن ثم الخوض في نقاش يتم تسجيله واستخلاص الجزء الذي يثير شهية الصحفي أو الجزء الذي يريد إيصاله إلى المتلقي فحسب، والذي يخدم الجانب الذي يراه مناسبا له وصحيفته، فيقوم بامتصاص الرحيق الذي يشكل له مادة خصبة أو مثيرة للجدل لكي ينشرها في اليوم التالي على واجهة الصحف لتنتشر بين الناس باسم شخص آخر، وهذا ليس سيناريو قد يحصل حين إجراء مقابلة صحفية، هذا تحصيل حاصل وأمر بات مألوفا في عالم الصحافة، وينبغي الانتهاء عنه والتركيز أكثر على عكس الحقيقة (حلوة كانت أم مرة)، فإنه في النهاية صحفيا أو صحيفة لا ينبغي له أن يوصل للناس ما يريده هو أن يقرأوه بقدر ما توصل لهم الحقيقة بشكلها الكامل.
 
لم يكن ياسر رزق (جملة اعتراضية) في الصحافة المصرية، بل كان جملة فعلية تلك التي التي تبدأ بفعل، والفعل إما أن يكون ماضيا أو مضارعا أو أمرا، كما يظهر جليا في كتاباته الصادقة والصادمة أحيانا، تماما كما جاء في كتابه الوحيد (أحداث سنوات الخماسين) في حديث عن الرئيس عبد الفتاح السيسي ووصفه له بأنه رجل الأقدار، الذى جاء فى التوقيت المناسب من صلب المؤسسة الأعرق فى تاريخ مصر والمنطقة بأسرها، ليحمل على عاتقه أعباء، وتضعه الأقدار فى مواقف واختبارات، مؤكدا أنه كان من الممكن أن تضيع خلالها الدولة المصرية، لكنه كان على قدر الموقف والتوقيت، وحركة التاريخ.
 
وجاء حديث الكاتب بكتابه، عن الرئيس عبد الفتاح السيسى، قائلا: (كان السيسى بحكم الاطلاع والمعايشة، يكن احتراما كبيرا لعصر محمد على الذى يعتبره بانى الدولة المصرية الحديثة، وللزعيم جمال عبد الناصر، الذى ينظر إليه كمؤسس للجمهورية الأولى، وبانى الدولة الحديثة الثانية، ويرى فيه الزعيم الذى حمل هموم الشعب بإخلاص فلم تنسه الجماهير، وللرئيس أنور السادات، الذى يعتبره اختيار القدر لاستكمال مسيرة الحرب والسلام ويرى فيه رجلاً سبق عصره، وبرغم ذلك كان السيسى يستخلص العبر والدروس من تجارب الحكم ويدرك مخاطر التمدد الزائد فوق القدرة، دون النظر لتوازنات القوى ويعرف مهالك الانزلاق إلى مكائد تحاك والانجراف إلى مصائد، توضع فى الطريق لإجهاض مسيرة الوطن).
 
ورصد (ياسر رزق) جرائم الإخوان الإرهابية، والتى تسببت فى نقمة شعبية واسعة على الجماعة التى أرادت تغيير هوية الشعب وتقويض كيان الأمة المصرية، على نحو أدى إلى تفاقم الاحتجاجات الشعبية ضد نظام مرسى على نحو غير مسبوق، لا سيما بعد أعمال البلطجة والعنف التى نفذتها الجماعة وتسببت فى إراقة دماء المصريين فى الشارع، مع الفشل المتلاحق لحكومة الإخوان فى توفير أبسط مقومات الحياة، بعدم القدرة على توفير الخبز وانقطاع مياه الشرب والكهرباء وشح الوقود، فضلا عن لفته فى كتابه الأنظار إلى خروج مصر من كبوتها السياسية بظهور شخصية الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال توليه منصب القائد العام للقوات المسلحة ووزارة الدفاع، ودورة الخالد فى سبيل نزع فتيل الأزمات وبما يجنب مصر المشاكل والتناحر.
 
وكان قد أكد مسبقا أن الرئيس السيسي لم يكن يطمح لأي شيء على الإطلاق، وفي 2013، وقال (ياسر) بشجاعة مطلقة لمرسي (مشروعكم انتهى)، مشددا أنه يختلف عن غيره، لأنه جاء بطلب وإلحاح شعبى، والشعب الذى استدعاه من القيادة العامة للقوات المسلحة، مضيفا أن اسم الرئيس السيسى، وضع فى التاريخ يوم 3 يوليو مثله مثل سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد عرابى وحقق نحاجات لم يقدر أحد تحقيقها فى الدولة، وبهذا يحتوي أرشيف ياسر رزق على العديد من الانفرادات الصحفية، التي وضعته في قائمة الموهوبين في عالم الكتابة، ومن أبرز هذه الانفرادات قيامه بإجراء أول حوار مع  الفريق أول عبد الفتاح السيسي القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع والإنتاج الحربي في مصر آنذاك وبعد (ثورة 30 يونيو) ، التي أزاحت حكم جماعة الإخوان المسلمين من حكم مصر.
 
رحم الله ياسر رزق، وبفقدانه فقدت مصر رمزا وطنيا متميزا، وواحدا من أهم الكتاب الصحافيين والذي أفنى عمره في بلاط صاحبة الجلالة، وطالما خاض منازلات صحافية من أجل خدمة الصحافة ونشر الوعي والتنوير، فقد
 كان رزق كاتبا جرئيا، يشتبك مع الواقع بصورة يومية، ويعبر عن آراء الناس بصفة دائمة، وجمع بين موهبة الكتابة والإدارة، إذ ترك بصمة خالدة في المهنة التي أحبها وأخلص لها، وترك أيضا تأثيرا رائعا في كل منصب وصل إليه، واستطاع بموهبته وتميزه أن يصبح واحدا من أهم الصحافيين بمصر والوطن العربي.
 
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة