حازم حسين

التنمية والفوضى بين حذاء الملك وإرهاب المماليك

الأربعاء، 12 يناير 2022 03:43 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يُمكنُك أن تجلدَ الصيَّادين باللوم كُلَّما رأيتَ جائعًا، لكن هل فكَّرت فى أن تُمسك سنَّارة لتُطعمَه أو تُعلِّمَه الصيد؟! أزمةُ التناول الخفيف لأمور الفقر والمعيشة والعدالة الاجتماعية أنه يختزل السياقات على وجهٍ مُخلِّ، ويغفلُ أو يتعامى عن تراتُبيَّة الوقائع وما ألقته الظروف الموروثة من اعتباراتٍ وأعباء. الدولة المصرية كانت مُتورِّطةً لعُقودٍ فى تلك الخِفَّة، ربما خلال آخر خمسين سنة أو أكثر، صحيحٌ أنها لم تبذل من الجهد حجمَ ما يتطلَّعُ إليه الناس، لكنَّها إلى ذلك لم تكن صُلبةَ العُود واضحةَ الرؤية، واهتزَّت كثيرًا أمام المُزايدات والضغوط، فلا حافظت على ما فى يدِها، ولا أنجزت ما هو أكبر!

كان الرئيسُ واضحًا فى رسائله اليوم بجلسة مُواجهة الفقر ضمن فعاليات منتدى شباب العالم. الدولة تعمل فى إطار رؤية، ربما يختلف معها فريقٌ ممَّن ينظرون للحكومة باعتبارها أبًا وراعيًا ومُؤسَّسة اجتماعية، لكن الاختلاف قد لا يُغيِّر حقيقة الصورة. الموارد محدودةٌ والمُتطلَّبات مُتنامية، وإمًّا أن تنفق كل ما لديك من أجل الإبقاء على الواقع السيِّئ كما هو، أو تعمل جاهدًا لإصلاحه مع سدِّ الثغرات وابتكار المسارات اللازمة لتجنُّب تفاقمه. أشار الرئيس إلى برنامج الإصلاح، وإلى قبول الناس ومساندتهم، وإلى فوضى 2011 وما تبعتها من مخاطر، ثم الإدارة السياسية التالية وخروج الناس عليها، لأنها لم تُحسِّن الواقع، ولم تبتكر طريقًا للمستقبل، ولم تحمل للناس من المزايا ما يُوازى الأعباء التى ألقتها على كاهلهم.

مناطُ الشرعية فى القبول. بعيدًا من التنظير والاشتباك الأيديولوجى المُوجَّه مع أىِّ ظرفٍ ومشهد، يظلّ إقرارُ المجموع العام لما تقترحه الإدارة ويحمله مسارُ العمل دليلاً على الاقتناع والرضا. لا ينفى ذلك أن ضغطًا يقع على الأفراد، لكنَّه فى حدود المقبول اتِّصالاً بحاجاتٍ مُلحَّةٍ وآمالٍ مطلوبة. تلك الزاوية تحمل فارقًا مُهمًّا بين خطابات بعض الساسة وظهيرهم الشعبىّ. يرتضى الناس ما يُمكن أن يُحسِّن واقعَهم أو يُبشِّرهم بالمُستقبل أو يثقون أنه يعمل بإخلاص من أجل ذلك، بينما يُنفق عَبَدةُ الأيديولوجيا وقتهم وطاقتهم فى قَولَبة التفاعلات الاجتماعية، وتطويع المسار لنظرية مُغلقةٍ أو انحيازات سالفة التجهيز. هكذا قد يرتدُّ شخص إلى فكرةٍ أو نظام، ويُقدِّمُ آخر حقبةً أو إدارة باعتبارها نموذجًا طوباويًّا تُشدُّ إليه الرحال. بالضبط كما يقف فريق حتى الآن فى أجواء التحرير 2011، أو فى فيرمونت وحظائر الإخوان، أو فى أيام الملكيَّة الآفلةِ مُنذ سبعة عقود.

تسعةُ ملايين عاطل، وسبعةَ عشرَ مليون أُمّىٍّ، وملايين الحُفاة العُراة فى الشوارع والأشغال. كانت الصورة قاتمةً إلى حدِّ أن يتدخَّل رأسُ الدولة شخصيًّا؛ ليشمل "الأحذية والشباشب" برعايته السامية، مُفتتِحًا الأمر بتبرُّعٍ من الخاصَّة الملكيّة، ثم مُساهماتٍ شبه إجبارية من مؤسَّسات الدولة. صورة مصر قبل نحو ثمانين عامًا لم تكن كما يُحبّ المصريون أو يرتضون. بلدٌ قليل العدد وجيِّد الموارد وقتها، لكنه لا يضطلع بالنَّزر اليسير تجاه مواطنيه، بينما تفتكُ بهم الأوبئة والأمراض. بعد أزمة الحفاء نفسها مات آلافُ المصريين بضربةٍ مُباغتة من الكوليرا.

مطلعُ الأربعينيَّات لم يكن تعداد مصر يتجاوز ثمانية عشر مليونًا. كان الأجرُ 8 قروش فى حدِّه الأقصى للعامل الحِرَفىِّ و30 قرشًا للفنّى. تفشَّى الفقر واستوطَنت الأمراض، وبات الناس عاجزين عن كل شىء، حتى انتعال الأحذية وسَتر العورات. شُكِّلت لجانٌ والتأمَ خُبراء، وأسفر الأمر عن تعاونٍ جادٍّ بين القصر وحكومة حسين سرّى باشا فى مشروع الحفاء، قاد إلى إنشاء مُؤسَّسةٍ جمعت 38 ألف جنيه تبرُّعات من أفراد، و10 آلاف من هيئات حكوميَّة. ظلَّ الأمر فى مُداولات من 1941 إلى 1950، عندما افتتح الملك فاروق "مُؤسَّسة الحفاء" بتكلفة 130 ألف جنيه، على أن يُباع إنتاجُها مدعومًا بنسبة ضئيلة، ونشرت مجلة "المُصوّر" صورةً لمُواطن ينتعل حذاءً للمرة الأولى فى حياته، ويرفع يديه داعيًا أمام قصر عابدين، كأنَّه يشكر جلالةَ الملك المُفدَّى على صنيعه الاستثنائى، وكأنّ الأحذيةَ مُنتهى الأمل وغايةُ المُراد من ربِّ العباد.

لو أنفقت مصرُ الملكيَّة كل تلك السنوات من أجل ابتكار مسارٍ عاصمٍ من الفقر، بدلاً عن الاكتفاء بإطعام حرائقه المُستعرة معوناتٍ ومساعدات وملابسَ وأحذيةً وشباشب، ربما أصبحت الصورة وقت افتتاح مُؤسَّسة الحفاء أفضل مما كانت عليه. لو استجابت قوى السياسة وقت الثورة لما تفرضه الاحتياجات العاجلة، وتعاملت بعقلانية ووعى مع تطوُّرات المشهد خارج مناخ السخونة والاحتدام، كُنَّا تجنَّبنا مزيدًا من الفوضى والخسائر. لو تخلَّى الإخوان وحلفاؤهم عن شهوة السلطة وأطماع الحكم ورغبة الوصاية على الناس ورهن الدولة وإرادتها للخارج، لم تكن مصر لتُعانى من إرهابهم بعدما لفظهم الشعب. كانت نظرة الملك قاصرةً ومُثبَّتةً على قدميه، فلم يرفع عينيه ليرى ما هو أبعد، وكان غباء المماليك "الإخوان" حاكمًا فلم يعملوا من أجل مصر ولم يستوعبوا أنهم غير قادرين على اختطاف الدولة والناس. وبينهما كانت قوى السياسة والأحزاب هشَّةً ومرهونة لرؤى فردية سائلة، أو دوائر مصالح وحسابات تخصُّ رُعاتها أكثر ممَّا تخصُّ واقع الناس وتنتمى إليه. التحرُّر من تلك الغابة مُتشابكة الأغصان كان مفتاح الوقوع على قراءة منطقيَّةٍ واعيةٍ للمشهد، وبدايةً لابتكار مسارٍ يُلائمُ الحالة المصرية، ويُحسِن الاستجابة لها والتعاطى مع احتياجاتها الراهنة والمستقبلية.

نحو 400 مليار دولار تتجاوز أحدث مستويات الناتج الإجمالى، أنفقتها الدولة على مشروعات التنمية خلال 7 سنوات، وقرابة 50 مليار دولار جرى توجيهها لأكثر من 60% من المصريين فى أكثر من 4500 قرية ضمن المُبادرة الرئاسية "حياة كريمة". مُؤشِّرات أقلّ للفقر والبطالة والعجز والتضخُّم، إصلاحات هيكليَّة للنقد والتجارة والمدفوعات، نموٌّ فى التقنية والاتصال والطاقة والخدمات، وتمدُّدٌ أفقىٌّ يزيد المعمور ويرفع معه نسب إتاحة السكن والوظائف، وفرص الاستثمار ومسارات التنمية المُستدامة. لم تعُد الدولة المصرية فى رؤيتها وآليَّات عملها تمتُّ بأيَّة صِلَةٍ لما كانت عليه فترةَ الملكية، ولا بعدها، ولا إبان نزاعات يناير 2011 وقت استباق الجميع على السلطة، ولا تحت عمائم "مماليك الإخوان". قد يسوء هذا القول فريقًا ممَّن يختصمون الدولة باختزالها فى الإدارة، أو ينحازون أيديولوجيًّا ولو أجاد خصومُهم فى تحقيق ما يُطالبون به أكثر منهم، لكنها النظرة الموضوعية التى لا مفرَّ منها. الفقر ومحدوديَّة الموارد، مقابل نُموٍّ مُطَّرد فى السكان والاحتياجات، وضغوط إقليمية وعالمية ضربت الأسواق وسلاسل الإمداد وتدفُّقات الاستثمار، لكنَّ مسارًا عاقلاً ومُتّزنًا سلكته الدولة المصرية آخر سبع سنوات، عصمها من آثار تلك التقلُّبات، وعزَّز قُدرتها على العبور الآمن بجسدها الضخم وملايين المتصلين به، بل مكَّنها من ابتكارِ وصفتها الخاصة للتنمية، وقطعِ أشواطٍ بعيدة فى إنجازها.

مسألةُ التنمية لها مستويات وأبعادٌ مُتداخِلة، ربما يُقيِّمها البعض بمدى إطعام الناس أو كسوتهم، ويرى آخرون أنها تتَّصل بحجم الرفاهية المُتاح وفئات المُستفيدين منه. الحقيقة أن أهمَّ تحدِّيات التنمية يتعلَّق بالاستدامة، وتمكين الأفراد من المسارات الضامنة لامتلاك أدوات تغيير فعليَّة، لأنفسهم والواقع. الحياة على برامج المُساندة الطارئة ليست الغاية السليمة، وكلُّ مسارٍ لا ينتهى إلى فُرصٍ حقيقية ومنافذ للترقِّى والتحسُّن ذاتيًّا لا يُمكن أن يكون خيارًا صائبًا. هذا التصوُّر لا يعنى إغفال الضغوط الاجتماعية الراهنة، ولا أهمية الدفع الاستثنائى باتجاه أول طريق التمكين. لكن يظلّ ضروريًّا العمل على خلق توازن فعَّالٍ ومحسوب بين الأمرين: أن يجد الناس يدًا مُمتدَّة باحتياجاتهم العاجلة، وألَّا يُحرَموا من فُرصة الفِطَام ومداخل الاعتماد على أنفسهم. التوازن يضمن إدارة الموارد على الوجه الأمثل، وتوظيف فوائضها فى تمكين مزيد من الفئات، وصولاً إلى استقرار المنظومة واستدامتها، والقدرة على أن تبقى وتستمر من دون حاضنةٍ استثنائيَّةٍ أو تدخُّلاتٍ إجبارية دائمة.

الشعارات سهلة، وإطعامُ الناس لغوًا وكلامًا معسولاً لا يُرهق أصحابَه ولا يتطلَّب منهم جهدًا حقيقيًّا. الصعوبة فى العمل وفق رؤية، والإنجاز فى تسلسلٍ مُخطَّطٍ ومُستدام، والاضطلاع بمهمَّة الانتقال الجاد والشامل من ضِيق التواكل وإراقة المستقبل لصالح الحاضر، إلى مُتَّسع الأفكار المُبتكَرة والحلول الجذرية والتعافى من قيود الماضى وظلاله الراهنة. مصر تبدو لأوَّلِ مرَّةٍ مُنتميةً للواقع، واقع العالم بتغيُّراته الحادة المُتسارعة وواقعها بأزماته وتحدِّياته، وترى الضوء البعيد ولديها خارطةُ الخروج من النفق. تتبقَّى إدارة مسألة النموّ السكانى؛ لتكتمل لدينا وصفةٌ جيِّدةٌ ومُتكاملة لهيكلة الواقع ووضع أُسس المُستقبل. والانطلاق بثباتٍ وسُرعة ناظرين إلى الأمام، لا إلى حذاء الملك، ولا إرهاب المماليك.









الموضوعات المتعلقة


مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة