ننشر مقالة نقدية للكاتب الروائى محمد على إبراهيم عن المجموعة القصصية "من أحوال المحبين" للكاتب القاص أحمد حلمى، وتأتى المقالة تحت عنوان "سيرة دفترية للحب".
إهداء كاشف لطبيعة المجموعة القصصية، لأصدقاء شكلوا ظلالًا للكتابة، فنبتت مجموعة قصصية تشكل رواية لجزء من حياة القاص، تسع وعشرون قصة بإحصاء نظرى، عمليًا فإن قصة "مفتتح" لا تنفصل عن قصص "صلصلة، الجنون، ضباب، عن المحاولة/ العودة، دفء الحزن، قراءة الطالع، قيد، ندم، مخدر، وسيجارة للرجل العجوز"، تلك القصص تشكل تجليات المريد الذى أصبح شيخًا للعاشقين، فكانت لغة القص هنا ترتقى للغة المتصوفة، لتبدو تلك القصص أو القصة المبعثرة كدروس يلقيها الشيخ على مريديه، وفى "مفتتح" يبدأ بالعنعنة تناصًا مع بنية الحديث الشريف، فلكل شيخ شطحاته التى يقبلها العارفون أو الموهومون، هذا الشيخ قرر القاص أنسنته وازاحة ثوب اللا معقول عنه قليلًا فى قصة "دفء الحزن": يستمع إلى وردة وسعاد ماسي، (ينجذب) لموسيقى القصبجى والسنباطى وبليغ، والحق أنه كان التفاتًا ذكيًا من القاص، ليصبح هذا الشيخ فى "المتناول" للقارئ، ليصاحبه ويأتلف معه.
فى "قراءة الطالع" كانت مفاجأة القاص للقارئ بأن هذا الشيخ كان مريدًا لامرأة، هى من علمته (كيف يكون الشىء ثقيلًا وفارغًا)، وهى تتحدث بلسان أعجمى، وكأنها تطور من صورة رابعة العدوية فى أذهان المريدين.
غيرَ أن القصة التى كانت جديرةً بافتتاح المجموعة هى قصة "روح مغبرة فى صندوق" عبر جملتها الافتتاحية التى تحمل كل خيوط هذا الكتاب: "لماذا فتحت الصندوق"، هنا قام القاص بفتح صندوق قلبه واستخرج بعض حكاياته مع النساء، ليرسم شكلًا لعالمه الخاص، ربما القاص يؤمن هنا بأن الكتابة وسيلة محتملة للفكاك من القيد والحزن وخسائره القديمة.
كان القاص ذكيًا عندما ترك اللغة الصوفية الشاعرية فى القصص التى لا تدخل فى دائرة المفتتح، أصبحت لغة شارع بلا تقعرات لغوية، كما أن انتقالاته بين الراوى العليم والراوى المشارك أو الأنا أو حتى المخاطب كانت انتقالات فنية وبها الكثير من المخادعة سنلتفت إليها ونحن نتحرك بين تلك القصص تباعًا، لنكتشف أن الراواى فى كل الأساليب هو ذاته، لكن قام بتحريك موقعه ليسمح بقائمة من الاحتمالات لا تتحملها تقنية الراوى العليم، لتظل أسئلة الفراق قائمة، وبالتالى يفتح الباب لعودة نسائه إن أردن هذا فقط.
هناك جملة مؤسسة للكتابة فى قصة "مفتتح" عندما يقول "دوائر زمنكم"، نحن أمام حياوات دائرية، لا نقطة للبداية ولا للنهاية، مما يمنح القاص فكرة التلاعب فى ترتيب دائريته السردية، يمكن للقارئ أن يبدأ من أى قصة وأن ينتهى عندها إن شاء أيضًا.
فى قصة "مجنون الشمس" ثمة اشكالية لغوية، أعتقد أن الصواب هنا "مجنون بالشمس"، تتكرر الإشكالية بشكل آخر فى عنوان "وجبة الجحيم" والأصوب "وجبة فى الجحيم".
نعود لمجنون الشمس لنرى انتقالًا بين الراوى العليم وهو يتحدث بضمير المتكلم والراوى الأنا، غير أن العليم ليس عليمًا بالكلية ليتماهى مع الراوى الأنا فى لعبة فنية جيدة بنائيًا، ولقد قام القاص بتكرارها فى قصص أخرى، غير أن الأكثر الفاتًا هنا الانتقال من الجملة الحالية إلى جملة فعلية لتصبح تلك النقلة هى بوابة استلام الراوى الأنا مفتاح الحكي، وبين الجملة الحالية الأولى والثانية يحدث انتقال زمنى رشيق، ليكبر العاشق الصغير فى العمر فقط بينما الحب ثابت لا يتغير، ثم يصل إلى "بوابة النهاية القديمة" وكأنه يمتثل للشيخ الذى هو فى حقيقته أناه.
وفى قصة "وجبة الجحيم" تبدو اللعبة الفنية هنا فى المفارقة بين جملتى (جلستْ أمامه) و (جلس إليها) فى لعبة ماكرة ترتبط بــ (ذكرياته وسط الحقول) و(طفولتها فى المدينة).
فى قصته "دون خط رجعة" يجرب القاص تدوين اليوميات، كل تدوينة تمثل قصة قصيرة جدًا لتُشكل تلك القصص عوالم قصة قصيرة مكتملة.
من علامات الشيوخ والمريدين الارتباك، هو حال يلازمهم، يمنحهم التشوش جزءًا مهمًا من شخصياتهم، يتجلى الارتباك فى قصة "الدرجات الخمسة أو الستة"، الارتباك والتشوش يسيطران على العنوان نفسه عبر كلمة "أو"، ثم يؤكده بجملة (لعله لسبب آخر لا أذكره الآن)، ثم (وكأنهم كائنات)، ثم (طلبت شاى بحليب أو شاى سادة)، تلك الارتباكات تؤكد حقيقة أنك أمام المريد الذى أصبح شيخًا وكتب تلك السرديات.
فى تلك القصة يتحدث عن امرأة تشبه رائحتها رائحة خليط من المانجو والتفاح، نفس الرائحة التى ستقابل القارئ فى قصة "عندما ماتت الروائح" لتكتمل الحكاية عن تلك المرأة، لكن الشيخ المراوغ باعد بين القصتين ليختبر ذاكرة القارئ، أو ربما ذاكرته المرتبكة هى التى ساهمت فى التباعد بين الحكايتين، مثلما فعل تمامًا مع محبوبته الرسامة عندما استدعاها فى قصتين متباعدتين هما "طوال الليلة الماضية" و "لوحة بيضاء ومنتظر"، فى الأولى يترك يديها الراقصتين ترسمان اللوحة حتى تترك عالمها وتقتحم عالمه الذى اختصره بحضنه، أمَّا فى الثانية فالشيخ يعانى الوحدة بعد غيابها لكنه مع ضربات المطر ينتظر حضورها المستحيل.
فى قصته "هذا الموقف" نحن أمام قصة عنوانها الحقيقى هو "رجل واحد وأغنية واحدة وامرأتان"، تلك الأغنية هى الموقف، وبخفة متكررة فى الانتقال الزمنى تتغير المرأة، فتسمح له خبراته المتراكمة فى تأويل ما حدث سابقًا، لكن تظل خيباته العاطفية متلاحقة، وكأنه قَدَرُ المريد حتى يصل إلى حال الصفا.
فى قصة "المجرم" يسيطر الراوى الأنا على كل الحكايات، يبدأ بسؤال مقلق وموفق فنيًا (هل أنا مجرم) ويطلب من القارئ أن يتفاعل بل ويجعله حكمًا وقاضيًا، ليبدأ فى سرديته بلغة اخبارية مقالية غريبة عن فضاء تلك المجموعة القصصية، بالطبع جملة "أو هكذا أنتوي" تحمل ظلالًا لجملة مركزية فى حياة حسنى مبارك، رغم عدم الحضور السياسى أو الأيديولوجى السافر فى تلك المجموعة، تلك جملة تصيبنى بالقلق فى تغير مسار السردية، ليؤكدها القاص بجملة "فانقطاع للتواصل لمدة ثمانية عشر يومًا"، نحن إذن أمام نص به مركزية ثورية، لكن بعد تلك الجملة لن ترى ثورة ولا ينايرَ ولا حتى المجلس العسكري، أجد أن حذف الجملتين فى صالح المجموعة بكاملها وليس القصة هذه فحسب، ثمة جمل (فيسبوكية) فى تلك القصة حتى تبدأ مرحلة مغايرة من السيطرة السردية الممتعة بداية من جملة (إنت حيوااان، أعلم أنك تقولها فى سرك)، كما كان الحس الفكاهى فى بعض المناطق جيدًا على المستوى البنائي.
فى قصته "السؤال"، هناك محاولة جيدة لاستخدام الراوى العليم بمنطق (تخيل أن تكون عليمًا)، أن تحاول استخدام بنورة مسحورة لترى الآخر وما يفعله، كما أنها أفعال ناتجه عن التمنى وليس عن اليقين.
فى "الأستاذة" يحضر السؤال الأنثوى من كل نسائه الذى تم الإجابة عنه خلال تلك القصص عندما سألته الحبيبة: (هو انت ينفع تكتب قصة بناء على موقف حقيقى حصلك).
فى نص "وعد واحد" نحن أمام نص شعري، تبدأ الدفقة الشعرية من خلال كلمة ثابتة هى (أراها) ثم تبدأ المجازات فى الاندفاع فى غياب حقيقى للكتابة السردية، كما لم أحب التغريب فى استخدام أشجار الأرز والجليد وكأن البلاد هنا لا توجد بها أشجار تخصها، وكأن نزار قبانى أكثر شاعرية من أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي، لم يكن هناك ما يبرر تلك الغربة، ولم يكن هناك ما يدعو لاستدعاء قصيدة فى كتاب سردي.
قصة "عناق أول"، قصة تصلح للحكى عندما يصبح الزمن يساوى صفرًا والمكان يصبح نقطة هى كل الكون، قصة مكتوبة بمزاج رائق، واستخدام الجملتين الاعتراضيتين كان احترافيًا بامتياز، أحببت فعل التحريك الذى قام به القاص لكل الأبطال، لم أحب بالطبع السطر الأخير؛ لقد انتهى العناق بمجرد بداية تلك الجملة الزائدة.
لم أحب قصة "المرأة البدينة"، قرأتها فى قصص عديدة، وشاهدتها فى أفلام أكثر.
فى "طيف هارب" قام الكاتب باستخدام الحروف المائلة ليقوم بارشادى بأنه يكتب ما حدث فى الحلم، هو افترض سذاجة القارئ، وأنا لا أحب الدليل أو المرشد عندما أقرأ.
فى قصته الأخيرة "سيجارة للرجل العجوز" يقابل الشيخ نفسه فى رحلة زمانه الدائرية ليختتم سرديته الأولى، سردية تكتب قصصًا للحب بألوان للفراق، كل تلك العلاقات النسائية لم تجعله سوى شيخ يقدم خبراته للمريدين/ العشاق الجدد، يرى من خلالهم حياواته السابقة، حتى تعود الرسامة لترسم له صورة أبدية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة