محمد حبوشه

عندما أصبحت الصحافة الورقية عبئا على الجميع

الجمعة، 30 يوليو 2021 09:06 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قرار تحويل ثلاثة صحف مسائية ورقية إلى إلكترونية  أعاد للواجهة الحديث مجددا حول مستقبل الصحافة الورقية، في ضوء التحديات التي تواجهها، بدءا من ارتفاع تكاليف الإصدار ومرورا بالمنافسة القوية مع الإصدارات الإلكترونية، وقوة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، ولعل القرار الذي أصدرته الهيئة الوطنية للصحافة بتحويل إصدارات الأهرام المسائي (الصادر عن مؤسسة الأهرام)، والأخبار المسائي (الصادر عن مؤسسة أخبار اليوم)، والمساء (الصادرة عن مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر)، إلى إصدارات إلكترونية قد جسد "المأزق الخطير" الذي تواجهه الصحافة الورقية عموما، مما كان عاملا لكشف ما تحت الرماد من عورات كثيرة ليعترف البعض بأن الصحافة الورقية في مرحلة الاحتضار، فقد كانت بالأمس رائدة تبدع وتبتكر وتنتج وتؤثر في الرأي العام المصري والعربي، واليوم صارت تصارع من أجل البقاء بسبب التطور التكنولوجي وارتفاع أسعار الورق ومواد الطباعة والأزمات الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى تراجع أرقام التوزيع بصورة غير مسبوقة، ورغم تلك الأزمات فإن إغلاق الإصدار الورقي لتلك الصحف العريقة من وجهة نظر فريق من الصحفيين أمر محزن وخسارة فادحة للصحافة المصرية والعربية.
 
ولهذا الفريق الذي يرى أنه أمر محزن وخسارة فادحة أقول: أيها الزملاء الأجلاء دعونا نصف الأشياء بمسمياتها الحقيقية ونبحث عن الأسباب الحقيقية وراء تدهور مهنة الصحافة بصفة عامة وأولها "غياب الأساتذة الكبار"، وظني أن "غياب الأساتذة في مهنتنا، لسبب أو لآخر، جعل أرباع الصحفيين يتولون مراكز قيادية، فمن الطبيعي أن يكون هذا هو المستوى المتدني في ظل منافسة إلكترونية حامية الوطيس، أضف إلى ذلك ثقافة الاستسهال والنقل، والاعتماد على مواقع التواصل وعدم المتابعة بحسب أصول المهنة.
 
ودعونا نسأل سؤلا منطقيا في مثل تلك الحالة: هل يكون قرار وقف النسخة الورقية للصحف المسائية آخر مسمار في نعش الصحافة المصرية الورقية؟
أقول: نعم فعلى الرغم من أن الصحف الورقية تمثل جزءا من التراث المصري لارتباطها بكثير من ممارسات الحياة اليومية، مثل عادة الاطلاع عليها مع تناول الإفطار، أو الاستغراق في مطالعتها أثناء استقلال الحافلات والقطارات وأثناء الجلوس على المقاهي، لكنها على حد قول الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز: أعتقد أن الصحف الورقية تمثل فترة انتهت من تاريخ الصحافة والإعلام على مستوى العالم، مؤكدا أنه "لا يمكن بناء استراتيجية محتوى إعلامي أو مؤسسة إعلامية على أساس الإصدارات الورقية فقط، بسبب التحول الكبير في طرق وآليات تلقي الجمهور للمحتوى الصحفي"، وتلك نقطة مهمة لم تنتبه إليها كثيرون من قيادات الصحف القومية.
 
كثير من الزملاء للأسف آثر البكاء على اللبن المسكوب وخلق حالة من الترجيديا في أعقاب قرار الهيئة الوطنية للصحافة وهم في الواقع غافلون عن حقائق الواقع التي تقول أن 65% من أبناء الشعب المصري تقل أعمارهم عن الثلاثين، وهذا مايشير إلى ضرورة التحول إلى الصحافة الإلكترونية حيث يتلقى هذا القطاع الكبير من الجمهور معلوماتهم وأخبارهم عبر شبكة الإنترنت من خلال المواقع الإلكترونية وحتى مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا يتطلب منا نحو الدفة إلى جهة أخرى بالتحول الرقمي حتى يمكن استقطاب شرائح كبيرة من هذا الجمهور .. هذا إذا أردنا لمهنة الصحافة بصفة عامة أن تبقى تمارس دورها في التوعية والتثقيف وإمداد الناس بحاجتهم الإخبارية في ظل منافسة أخرى من جانب الفضائيات وغيرها من وسائل تسبق الصحف الورقية في عمليات بث الأخبار أولا بأول.
 
ولا ننسى أن الصحف الورقية بصفة عامة تواجه تحديات، أبرزها مواكبة الأحداث، والتكلفة التي تنشأ عن استهلاك خامات الطباعة مثل الورق والأحبار والميكنة، إذ لا يمكن الاستمرار في إصدار صحيفة ورقية تتجاوز تكلفتها العائد منها إلى حد كبيٍر، كما أن الصحافة الآن تعمل على مدار الساعة فليست هناك جدوى من وجود صحيفة صباحية وأخرى مسائية لأن الإصدارات الإلكترونية تعمل 24 ساعة وتنشر الخبر فور ظهوره، إضافة إلى الإيقاع السريع لمواقع التواصل الاجتماعي التي أحيانا ما تبدأ في نشر الخبر وهو لا يزال في مراحل مبكرة جدا من تطوراته، علاوة على افتقار هذه المطبوعات للقدرة على التأثير الكبير في قطاعات كبيرة من المتلقين كما هو الحال في بعض الإصدارات الإلكترونية.
 
كان ينبغي أن تطور الصحف والإصدارات الورقية نفسها ومضمونها في إصداراتها المطبوعة، ولنا مثل في بعض الصحف العالمية التي طورات إصداراتها المطبوعة، لكن هذا النموذج لم يظهر في الصحف المصرية والعربية بصفة عامة، والمهم أن يؤهل الصحفيون العاملون في تلك الإصدارات الورقية للعمل في بيئة إصدار إلكتروني، وليس الوجود على المنصات الإلكترونية بنفس الفكر ونفس أسلوب العمل، لأنه في هذه الحالة لن يكون هناك أي إنجاز سوى توفير ثمن الورق والحبر، وبقراءة متأنية للمستقبل القريب فإنه سوف يكون الاعتماد الأساسي فيها على الإصدارات الرقمية، وهنا أستشهد بالكم الكبير من الدوريات الإخبارية والعلمية التي بدأت تقتصر على إصدارات إلكترونية فقط، واستغنت عن الإصدارات المطبوعة تماما.
 
ولابد أن يؤخذ في الاعتبار أن المؤسسات التي ستقوم على تشغيل تلك الإصدارات من المنطقي أن تلجأ إلى خفض تكلفة التشغيل، خاصة بالنسبة للعاملين في الطباعة والخدمات المعاونة، وأعتقد أن الجيل الأكبر سنا الذي يمارس الصحافة التقليدية دون مواكبة التقدم التكنولوجي بشكل يومي، سوف يتحول إلى ضحية لموجة التكنولوجيا التي تجتاح قطاع الصحافة، وحتى الإصدارات الصحفية لن تتمكن كلها من الاستمرار، فتشغيلها لا يزال يحتاج إلى تكلفة كبيرة، خاصة وأن المحتوى المرئي وغيره من أشكال المحتوى الرقمي والمحتوى الذي يمرر عبر تطبيقات إلكترونية أصبح الأكثر طلبا من قبل الجمهور، وهو ما يرفع تكلفة التشغيل بالنسبة للمؤسسات الصحفية.
 
تمتلك مصر ثماني مؤسسات صحفية حكومية تنشر حوالي 50 إصدارا ورقيا، أغلبها بدأ يعاني من تراجع كبير في التوزيع بسبب التحول إلى القراءة الرقمية ومتابعة الإصدارات الإلكترونية كخيار أول بالنسبة للكثيرين، خاصة فئات الشباب والأصغر سنا، ويعمل في تلك الإصدارات الورقية المسائية التي صدر قرار بوقف طباعتها الآلاف من الصحفيين والعاملين في الخدمات المعاونة للعمل الصحفي، وهو ما يلقي الضوء على ضرورة توفير آليات التدريب التحويلي لهؤلاء العاملين لتأهيلهم للعمل في مجال الصحافة الإلكترونية، ومن خلال مشاهداتي أرى أن بعض العاملين في الصحف الورقية يمارسون العمل بالفعل عبر منصات عمل صحفي أخرى مثل التلفزيون والصحافة الإلكترونية، كما أن هناك عددا كبيرا من العاملين لديهم استعداد وقابلية للتدريب ليتحولوا إلى صحفيين إلكترونيين، خاصة صغار السن.
 
لنقل جميعا حسنا فعلت الهيئة الوطنية للصحافة، بقرارها الأخير، الخاص بتعطيل الصحف المسائية، وتحويلها إلى نسخ الكترونية، تابعة للبوابات الخاصة بالمؤسسات الصادرة عنها، وهو قرار فى نظرى تأخر كثيرا، خصوصا أن كثيرا من هذه الصحف باتت تعانى منذ سنوات طويلة، عزوف القراء، وانهيار معدلات التوزيع بصورة مفزعة، وما أدى إليه هذا الانهيار من انصراف المعلنين بالتبعية، الذين يمثلون عصب صناعة الصحافة، للدرجة التى حولت كثيرا من هذه الصحف، إلى عبء ثقيل على المؤسسات الصادرة عنها، وهى التى كانت قبل الانتشار الكبير للمحطات الفضائية، والمواقع الالكترونية، ملء السمع والبصر، وزاد القارئ الباحث عن التفاصيل، فيما وراء الأخبار والحوادث.
 
والشيئ بالشيئ يذكر ففى نهاية ديسمبر عام 2016، صدرت صحيفة السفير اللبنانية في أعقاب تحولها الإلكتروني، وعلى صدر صفحتها الأولى عنوان (الوطن بلا سفير)، معلنة احتجاب طبعتها الورقية عن الصدور، بعد ما يزيد على أربعة عقود، ظلت خلالها تحتل مكانا متقدما، فى قائمة الصحف الأكثر تأثيرا فى لبنان والمنطقة العربية كلها، ليكتب رئيس تحريرها الكاتب الصحفي الكبير طلال سلمان، مرثية وداع للقارئ، مؤكدا صعوبة استمرار صحيفة فى الصدور، فى ظل مجتمع ليس بخير، واقتصاد ليس بخير، وسياسة ليست بخير، وأن ذلك كله لا يمكن إلا أن ينعكس على الصحافة وينهكها، وقد كان احتجاب السفير وقتها بمثابة صرخة احتجاج، ليس فقط على ما باتت تعانيه الصحف الورقية من أزمات تهدد وجودها فى عصر جديد، لكنها فى حقيقة الأمر، كانت صرخة فى وجه صناع الصحافة، تشير إلى ضرورة الانتباه، والتعامل مع هذا العصر الجديد بأدواته وآلياته.
 
إذن لابد لنا من البحث عن سبل مبتكرة للحل، وها آنذا أكرر الدعوة من جديد، للبحث عن مخرج لورطة الصحافة الأخيرة، ربما ننقذ من خلاله ما سوف يتبقى من تراثنا الصحفى، فعلى حد قول الدكتور سمير محمود في دراسة له بعنوان (محنة الصحافة المصرية بين التحلل الورقي والتحول الرقمي!)، هنالك دئما حلول مبتكرة، وفي هذا يقول : رغم معاناة الصحافة عالميًا، نجحت عدة صحف في دخول عصر الذكاء الاصطناعي وصحافة الربوتات مثل (الجارديان، يواس ايه توداي، النيويورك تايمز)، بينما آثرت صحف أخرى التحول إلى نسخة PDF مجمدة ومع ذلك تصف نفسها بالصحف الإلكترونية، في وقت برزت في عالمنا العربي عدة صحف رقمية ومواقع ومنصات وبوابات فائقة النجاح والتميز يتم تحديثها على مدار الساعة، ومن وجهة نظري الشخصية أرى أن (اليوم السابع) هى النموج المثالي الذي أثبت جدية تجربة الصحافة الإلكترونية في مصر.
 
ومن هنا فعلينا ألا ننصب سرادق ونبكي على أطلال ماض عريق ولا أعتبر طي صفحة (الصحف المسائية) وإهالة التراب عليها مناسبة للعويل ولا هي مدعاة للتهليل واعتبار التحول لنسخ إلكترونية هو معجزة من المعجزات الإلهية، الأمر لا يخص الصحف المسائية التي اختفت نسخها الورقية، ولا يؤرقني الشكل الذي تصدر عليه الصحف سواء ورقية أو PDF أو نسخ إلكترونية أو مواقع ومنصات يجرى تحديثها على مدار الساعة، فتلك أوعية للفكر والرسالة تتغير بتغير العصور، لكن ما يؤرقني هو الإجابة عن سؤال ظللت أردده بقوة في عدة عواصم عربية وعالمية وهو: لماذا تصدر الصحف في مصر؟ ولمن تصدر هذه الصحف؟






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة