عرض الدكتور محمد شحاتة، رواية ستائر شفافة للكتابة صباح عبد النبى، فأكد أن الكاتبة مميزة تكتب المشاعر، ثم تبنى الأحداث والدراما فى ثنايا تلك المشاعر والأحاسيس، حتى تتكامل بالحوارات والأماكن، فتخرج الرواية فى حالة برزخية بين الواقع الحالم والخيال المحلق فى مرارات الألم وحرارة الأمل.
وتعد رواية ستائر شفافة نموذجا لهذه المعادلة الفريدة والشائقة، فالكاتبة فى البداية لا تفصح لك عن كل أسرارها، وتكشف عن مكنونها، أو أنها تصرح لك بمقصودها المباشر، لكنها تتبع الفن القصصى فى الأدب باقتدار فائق، ولغة رصينة جميلة عربية فصيحة سهلة، فهى فصيحة فى السرد، وتضفرها بالعامية الراقية فى الحوارات بين الأشخاص، وهى عامية مصرية تتداخل فيها كثير من ألفاظ العامية النوبية والسودانية.
والكاتبة يهمها الحدث المؤدى إلى الفكرة وهى القضية الثقافية والحضارية، لطرحها على المتلقى طرحا فنيا فريدا ومتميزا.
ومن خلال الحدث الذى هو البطل الحقيقى الأول فى الرواية تضع أطر وركائز الرواية، فتتعرض للمكان وتهتم به كثيرا، فهى متيمة بفكرة عبقرية المكان، وبخاصة أن مكان الرواية غاية فى التميز، فالمكان مصر والسودان، هما القطران القطر، والبلدان البلد، والشهدان الشهد، هما النيل والتاريخ والشعب الطيب الصانع للحضارات.
الكاتبة أرادت أن تجعل من المتلقى مشاركا لها ومعها فى زمان الحدث، فهو يذكر من خلالها زمن المجد والأحاسيس الوطنية والعروبة والقومية والبساطة والجمال، ولا تجعله تاريخا، حين يتداخل معه الواقع المؤلم واستدرار مشاعر الغربة والاغتراب.
لا ريب أن الكاتبة أجادت بحرفية وشاعرية فى استغلال تقنيان الزمن فى القص الروائي، كل هذا فى سياق فنى أدبى رمزى جمالى يعتمد على الحكى الدرامي، فى تراجيدية تارة وقليل الكوميديا والفانتازيا.
حتى تطرح قضيتها، ورسالتها، التى توجزها فى خلود طاهرة تلك الجميلة الموفورة صحة وخصوبة، والمفعومة بالانطلاق والحرية، وهى مصر، وموت عابدة، وهى رمز الذل والقهر والظلم، وإعلاء قيم العلم والعمل الجاد والإخلاص والحب والعواطب النبيلة، فى سياق فكرة التآخى والتكامل بين شهدى أو قطرى وادى النيل، مصر والسودان.
والرواية تمثل المجتمع عامة، وتمثل كياناته التفصيلية، فهى الجامعة والمدرسة، والوطن والقومية، فالمكان متنوع حسب الأحداث فهو: مصر، السودان، النوبة، المدرسة، الخارج، الحفل، بيت الشيخ شاكر، السفارة، الجامعة، القاهرة، أمريكا. وذلك بأبعادها الاجتماعية والثرثرات المتمازجة والمتداخلة، باسقاطات على أحوال الأمة العربية، إسقاط على الوطن وأحواله، وعلى الأخوة المفترضة بين وادى النيل شماله وجنوبه، ما يجمعهما وما تمر به من محن وإشكاليات.
وتمثل فيه شهدان (شهد مصر وشهد السودان) العروبة الواعدة، وهى الطبيبة الواعية المثقفة السودانية التى تعلمت فى مصر، ولها أعمالها فى مصر والسودان أيضا، ولعل من أجمل ما تجده من حوار عن التماسك المكانى بين العرب وبالأخص السودان ومصر.
وتثبت لنا الكاتبة مرة أخرى عبقرية اللفظ، فهى اختارت "لطاهرة" أن تكون بكماء، وليست خرساء، والبكماء، من البكم: وهو الأخرس خلقة مع بله وجهل أو السكوت عمدا مع الجهل والحرج، أو أن يكون الأبكم صاحب حال علوية، لا يحب التكلم مع قدرته عليه، أو أنه لا يتكلم إن كثر الظلم، ويقولون أن الأبكم هو من أهل الله، أو "فيه شيء لله يتكلم أحيانا ولا يتكلم أحيانا ويكون هذا وذاك بحكمة من الله"، ولعل هذه المرموزة تكاد تكون مصر فى أجمل تصوير درامى لها.
وشخصية الراوى هنا ليست تقليدية، وليست واحدة فهو يظهر بصورة تناسب سياق الحوار والأحداث، فتارة يكون الحكيم، أو المصورة، أو الواصف، أو هو الراوى العليم أو الجنير.
فيعمل على تصاعد الحدث، أو إيضاح الصورة وتمكين الحركة فى الحدث، أو تصيير السياق الوصفى الخبير لاستخلاص الفائدة والحكمة، ولكن فى أسلوب جمالى فني.
وتتوالى أحداث الرواية الدرامية والشائقة، من خلال تتويج تكاملى ممتزج بين شهدان وطهر وهما ممثلان مصر والسودان، وهما الخصوبة والمستقبل الواعى حامل العلم والعمل الجاد والأحلام الرومانسية والجمال، وتؤكد على براءة طاهرة ونقائها وتبرز شرفها.
ثم تختم مشاهد الرواية بمشهد الموت، وهى ختام أو نهاية، ولكنها تضعه فى سياق مستقبل، فهو البداية، فتقول: "اغفر لأمتك عابدة" وعابدة هى طاهرة السابقة المقهورة والمزيفة، الحقيقة المقلوبة.
وموت عابدة وهى تلك المستسلمة المغلوبة والمنتهكة لكل حقوقها ولإنسانيتها، هو فى حقيقته إعلان بانتهاء الظلم والاستعباد، وهو تأكيد حياة طاهرة تلك النقية الخصبة المنطلقة الواعد بكل حياه لمستقبل مشرق زاه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة