من يرى آراء بعض الفقهاء والمشايخ الآن، خاصة من أتباع المنهج السلفى، يعتقد للوهلة الأولى أن الإسلام هو «فقه المرأة»، فدائما لابد أن يكون للمرأة نصيب من فتاوى وأحكام هؤلاء المشغولين بإصدار الفتاوى، كما أن نصيب المرأة من هذه الفتاوى هو الذم والضرب، وكأنها كائن أقل من الرجل، وليست إنسانا مثله.
المتأمل للتراث يجد كثيرا من رجال الدين يبدأون كلامهم بسماحة الإسلام وانفتاحه على قضايا المرأة، وأن الرسالة المحمدية جاءت لتعطى المرأة حقوقا لم تكن لتحصل عليها من قبل، وأن «الإسلام شرع المساواة بين الرجل والمرأة»، ولكن الخطوة التالية ليس فيها سوى إهانة المرأة، والتفكير فى كيفية السيطرة عليها ومنعها من التمتع بأقل قواعد الحياة البسيطة.
وظاهرة «ضرب الزوجة» من أسوأ المظاهر، وهى رؤية يصح وصفها بـ«المسمومة» من شأنها الحط من كرامة المرأة التى أمر الله تبارك وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بتكريمها، والإحسان إليها، والإشفاق على ضعفها، بعكس ما هو واقع من ضربها وشتمها وإهانتها وإيذائها، وكما قال صلى الله عليه وسلم «رفقا بالقوارير»، وفى حديث آخر «استوصوا بالنساء خيرا».
ولعل «ضرب الزوجات وتأديبهن» إحدى الإشكاليات الدائمة التى يخرج علينا المشايخ أصحاب الفكر الأصولى المتجمد، والذين لا يرون فى النصوص الدينية وتفسيراتها الكثيرة مما يخص هذه القضية، فأحاطوها بأفكار وشروح بعيدة عن روح النص وسماحة الدين، ولا ترقى للتعاليم التى تركها لنا النبى محمد صلى الله عليه وسلم وتتعلق بحسن معاملته لزوجاته.
والكثير ممن يروجون لرخصة ضرب الرجل لزوجته، يستدلون بقول الله تبارك وتعالى: «وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا»، «النساء: 34»، متخذين من الآية الكريمة رخصة مفتوحة لضرب الزوجة، فنسى، أو تناسى، سائر الآية، وعض على الضرب «بنواجذه»، فكانت النتيجة أن انتشر أمر ضرب وإيذاء وإهانة الزوجات فى مجتمعات المسلمين.
الداعون لـ«ضرب المرأة» لا يفقهون النصوص
البعض ممن يروجون لإباحة ضرب الرجل لزوجته، كان السبب وراء فكرتهم هو الفهم المغلوط للفظ «النشوز»، حيث فسروه على أنه لفظ لا يختص سوى بالضرب، لكن الناظر فى التفاسير الصحيحة والآراء الفقهية الممتدة بتاريخ الدعوة المحمدية، يرى إخراج المعنى عن سياقه ومن المضمون الذى يتسق مع روح النص الدينى، مستشهدين بنصوص، مثل قوله تعالى: «فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا»، «البقرة - 73» وقوله: «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ»، «الأنفال - 50».
كذلك هناك العديد من الأدلة على ذلك، فقد قال الله تبارك وتعالى: «وعاشروهن بالمعروف»، «النساء - 19»، وهو ما فسّره ابن كثير فى تفسيره بـ«أى طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله»، كما قال الله عز وجل: «ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف»، «البقرة - 228».
السنة النبوية.. هكذا عامل النبى الكريم المرأة
السنة النبوية الشريفة أيضا، كانت مليئة بالحكم النبوية فى ذلك الشأن، وتوضح كيف تعامل النبى الكريم فى مثل هذه الأمور، حيث روى الإمام البخارى عن أبى هريرة، رضى الله عنه، إنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تغضب»، كذلك فإن النص القرآنى كان صريحا حين تحدث عن الحياة الزوجية وضرورة مودة المعاشرة ما بين الزوج وزوجته، وهو ما جاء فى قول الله تعالى: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة»، «الروم - 21»، وكذلك ما ذكرته أم المؤمنين السيدة عائشة، رضى الله عنها، حيث قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادما، إلا أن يجاهد فى سبيل الله، وما نيل منه شىء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شىء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل».
النبى لم يضرب امرأة قط
وبذكر مواقف النبى محمد صلى الله عليه وسلم، فالنبى الكريم لم يثبت أنه ضرب واحدة من زوجاته أو ملك يمينه، بل كان نموذجا للرجل المسلم فى كيفية التعامل الكريم مع الزوجة والمرأة بشكل عام، وقد أخرج مسلم حديث عائشة رضى الله عنها تقول: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئَا قَطُّ بِيَدِهِ وَلا امْرَأَة وَلا خَادِمَا» وهو دليل على تعامل النبى الكريم مع زوجاته، وأنه لم يضربهن أبدا، ولم تمتد يده إلى إحداهن حتى إن أغضبنه وعصينه، وتعامل معهن بما يتماشى مع قوله صلى الله عليه وسلم، «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى»، رواة الترمذى عن عائشة رضى الله عنها وصححه الألبانى.
كما ورد فى السنن وفى كتب الصحاح، كيف منع النبى محمد، الصحابى الجليل أبا بكر الصديق من ضرب أم المؤمنين عائشة، عندما غضبت ورفعت صوتها على النبى، وهو استشهاد لخلق النبى المعصوم بأقواله وأفعال ومواقفه الكريمة، حيث ثبت فى كتب السنة النبوية عن الصحابى الجليل النعمان بن بشير رضى الله عنه، ولفظه: «اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا، وَقَالَ: أَلَا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْجِزُهُ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبا، فَقَالَ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ رَأَيْتِنِى أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّاما، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا، فَقَالَ لَهُمَا: أَدْخِلَانِى فِى سِلْمِكُمَا، كَمَا أَدْخَلْتُمَانِى فِى حَرْبِكُمَا، فَقَالَ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ فَعَلْنَا، قَدْ فَعَلْنَا». رواه أبو داود فى «السنن - 4999» من طريق حجاج بن محمد، عن يونس بن أبى إسحاق عن أبيه.
وروى الإمام مالك فى «الموطأ» أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استؤذن فى ضرب النساء، فقال فيما رواه البيهقى: «اضربوا، ولن يضربَ خياركم»، قال الحافظ أبوبكر بن العربى: «فأباحَ ونَدَبَ إلى التَّرْك، وإنَّ فى الهَجْر لَغاية الأدب»، وقالت أمُّنا عائشةُ رضى الله عنها: «ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادما»، ولهذا قال عطاء: «لا يضربها، وإن أمرها ونهاها فلم تُطِعْه، ولكنْ يَغضبُ عليها»، قال ابن العربى: «هذا من فقه عطاء، فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب ههنا أمر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى»، فالوقوف عند وسيلة الهَجْرِ، بعدم التأديب بالضرب هو الأفضل على كل حال، قال ابن العربى: «مِن النساء، بل ومِن الرجال مَن لا يُقيمه إلا الأدب، وإنَّ فى الهَجْرِ لَغَايَةَ الأَدب».
الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: لا يجوز ضرب المرأة
نبَّه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، فى «التحرير والتنوير - 5/ 44»، إلى أنَّ المصلحة قد تدعو إلى مَنْع الأزواج مِن تأديب نسائهم بالضرب، فقال: «يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب، كى لا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع».
ورد الطاهر بن عاشور، التفاسير فيما لخصه بقاعدة «تقييد النص بالعرف السائد»، فقال فى تفسيره: «فإنّ الناس متفاوتون فى ذلك، وأهل البدو منهم لا يعُدّون ضرب المرأة اعتداء، ولا تعدّه النساء أيضا اعتداء»، وهو ربط صريح ما بين ما كان سائدا عند قبائل العرب قبل الإسلام، وما بين النص القرآنى الذى نهى عن ذلك صراحة.
كما أن كثيرا من علماء الدين المعاصرين نهوا عن ضرب الزوج لزوجته، موضحين أنه يجب أن يكون بعد خطوات حثه عليها الإسلام، وفى محددات معينة، وفى أضيق الحدود، بشكل لائق لا يؤثر فى جسد الزوجة أو كرامتها، واشترط المالكية والشافعية لمشروعية ضرب الناشزة أن يعلم الزوج أو يغلب على ظنه أو يظن أن الضرب يفيد فى تأديبها وردعها عن النشوز، فإن غلب على ظنه أنه لا يفيد لم يجز له ضربها، ويحرم لأنه عقوبة مستغنى عنها.
وقد قيد «الزركشى» ضرب الزوج امرأته الناشزة بنفسه لكفها عن النشوز وتأديبها بما إذا لم يكن بينهما عداء، وإلا فيتعين الرفع إلى القاضى لتأديبها.
لكن علماء معاصرين نهوا عن ضرب الزوجة مهما كانت الأسباب، حيث أوضح الدكتور محمد الشحات، أستاذ الشريعة وعضو مجمع البحوث الإسلامية، أنه لا يجوز ضرب الزوجة مهما كان السبب، لأنه من المعروف شرعا أن العلاقة الزوجية قائمة على أساس المودة والتفاهم بين الطرفين والموعظة الحسنة، فالدين الإسلامى لم يحث الرجل على ضرب زوجته مطلقا، وكل ما يوجد حول ذلك من أحاديث هى ضعيفة وغير مؤكدة.
وأكد عضو مجمع البحوث الإسلامية، أن الزوج عليه الأساس الأكبر فى عدم الوصول إلى هذه النقطة من خلال الابتعاد عن النقاشات الحادة، وإذا بلغ الأمر إلى ضرورة العقاب، فيجب عليه أن يجد طرقا أخرى بعيدا عن الضرب، كالقطيعة لبعض الوقت، أو استخدام وسائل عقاب أخرى قد يراها الزوج وسيلة للضغط على الزوج فى عدم تكرار أخطائها.
وترى أستاذة العقيدة والفلسفة الإسلامية، والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، الدكتورة آمنة نصير، أن ضرب الأزواج لزوجاتهم من الأمور التى تم تفسيرها وفهمها بشكل خاطئ، فالإسلام لم يرخص لضرب الزوجة، بل وضع قيودا وخطوات طويلة ألزم بها الزوج قبل أن يقدم على ضرب زوجته، حيث قيد الإسلام الرجل بضرورة النصح والإرشاد أولا فى حال وقع خلاف بينه وبين زوجته، فإن لم تستجب الزوجة لذلك فعليه أن يستعين ببعض الأقارب أو الأصدقاء المعروف عنهم الحكمة فى تهدئة الأمور ونبذ الخلافات، فإن لم يفلحوا فى ذلك وأصرت الزوجة على ارتكاب الأخطاء فعلى الزوج أن يستخدم حلولا أخرى، كإظهار الغضب أو ترك الفراش، وإن أقدم الزوج على الضرب بعد كل تلك المحاولات فهناك شروط لذلك، فى أن يكون الضرب بعيدا عن الإهانة أو الاعتداء على الوجه أو أن تنتج عنه آثار على الجسد، وهذا من مودة ورحمة الإسلام الذى أوصى بحسن المعاشرة الزوجية والتسامح.
وقال الدكتور على جمعة، مفتى الديار المصرية الأسبق، عبر فتوى نشرها على موقعه الرسمى، عن التفاسير التى تتخذ من الآيات سالفة الذكر موضعا ورخصة لضرب الزوجات، بأنها جاءت تعبيرا عن ظروف وثقافات معينة، حيث إن الأمور الثلاثة التى ذكرت فى الآية الكريمة إنما ذكرت لتوافق الأزمان والأمكنة والأشخاص والأحوال، ولذلك عبر بـ«الواو»، ولم يجعلها مراحل، وإنما ربطها بما يُشبه الثقافة العامة التى تختلف باختلاف هذه الجهات.
كذلك وبحسب فتوى الدكتور على جمعة، فإن حقيقة الضرب ذكرت هنا لتوضيح بعض الثقافات، والتى ترى فيها المرأة ذلك الأمر من كمال الرجولة، وليس لغرض الإهانة أو التقليل من المرأة أو إعطاء رخصة للرجل لإظهار غضبه.
وأضاف مفتى الديار المصرية الأسبق، لقد نص الفقهاء على أن الضرب الذى يتكلمون عليه الخارج عن نطاق إظهار الغضب وإظهار المعارضة كما تقتضيه الأحوال النبوية الشريفة، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - ما أدب أحدا قط.
ودار الإفتاء المصرية أيضا فى إحدى فتاواها الرسمية، أكدت بما لا يدع مجالا للتشكيك، أن ضرب المرأة مرفوض تماما فى الإسلام، حيث قال الشيخ عويضة عثمان، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إنه لا يجوز ضرب الزوج لزوجته أو الاعتداء عليها نهائيا، ناصحا من يغضب من زوجته بأن يُعاتبها، ويرشدها إلى الأمر الصحيح، لأنه لا يجوز ضرب الزوجة.
وأضاف «عثمان»، فى إجابته عن سؤال «ما حكم الشرع فى ضرب الزوج لزوجته وسبها؟»، بأن ضرب الزوجة وإهانتها وسبها حرام، مُستشهدا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى حجة الوداع وهو يقيم الأسس الأخيرة لهذا الدين العظيم: «اسْتَوْصُوا بالنساء خيرا، فإن المرأةَ خُلقت من ضِلَع، وإن أعوجَ ما فى الضِّلَع أعلاه، فإِن ذهبتَ تُقيمُهُ كسرتَهُ، وإِن تركتَهُ لم يزلْ أعوجَ، فاستوصوا بالنساء».
العنف ضد المرأة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة