شق الترام شوارع القاهرة لأول مرة يوم 12 أغسطس عام 1896، فأحدث حدا فاصلا فى تاريخ المجتمع القاهرى، بتقدير الكاتب والباحث محمد سيد كيلانى، فى كتابه «ترام القاهرة»، مضيفا: «انتقل فيه من طور البداوة والتأخر الذى يتمثل فى استخدام الحمير والخيل وسيلة للانتقال، إلى طور الحضارة والمدنية الذى يتمثل فى استخدام القوة الكهربائية».
يعدد «كيلانى» الأنماط الحضارية التى سادت قبل «الترام» ثم تغيرت تدريجيا بعده.. يتحدث مثلا عن المشقات الهائلة للناس فى الانتقال من مكان إلى آخر لاستبداد أصحاب الحمير والعربات التى تجرها وتحكمهم فى الناس، وألفاظهم السافلة، وعباراتهم النابية، كما يذكر أن معظم الشوارع كانت كما هى منذ مئات السنين، لم تمتد إليها يد الإصلاح، يسودها الظلام ليلا، ما عدا الرئيسية منها فإنها كانت تضاء بغاز الاستصباح، لذلك كان انتقال الناس عملا شاقا، وإذا حدث فإنه يتم نهارا، ولأمر مهم، فعاش سكان كل حى فى عزلة تكاد تكون تامة عن بقية الأحياء الأخرى.
كان إدخال «المجارى» إلى القاهرة أحد التغييرات الحضارية المهمة التى أحدثها «المترو»، وفى عام 1892، أى قبل أن يشق المترو شوارع القاهرة، كانت هناك أول محاولة لإدخال المجارى، لكنها فشلت، وحملت تفاصيل مثيرة جاءت فى تقرير اللجنة التى تشكلت للنظر فى المشروع، وتكونت من ثلاثة مهندسين، فرنسى، وألمانى، وإنجليزى.
يذكر «كيلانى» نقلا عن جريدة «المقطم» يوم 8 إبريل، مثل هذا اليوم، 1892، تقرير اللجنة الذى يكشف طبيعة الحياة الاجتماعية والعمرانية لمدينة القاهرة.. يذكر التقرير: «بلغ مسطح معمور المدينة 3880 فدانا، وطول شوارعها 353 كم، و340 مترا، وعدد سكانها 374 ألفا و838 نفسا، منهم 31 ألفا و650 أجنبيا، وكان قسم المدينة الأكثر سكانا يشغل 1445 نفسا للفدان الواحد، وفى أقله 298 نفسا فقط، وكان بالمدينة 55 ألفا و597 بيتا، و379 جامعا، ولم تكن شركة المياه تمد من المنازل والجوامع سوى 4 آلاف و397 بيتا، وعشرة جوامع، وبقية البيوت والمساجد تستمد مياهها من الآبار، وبعضها من صهاريج تملأ أثناء الفيضان، وبعضها من السقائين منقولة مباشرة من النيل».
وحول ضرورة إدخال المجارى، قال التقرير: «إن مياه الأقذار فى القاهرة تجتمع الآن - لعدم المصارف فيها - فى خزانات مقامة تحت المنازل، فينصرف قسم منها فى الأرض، وينزح القسم الآخر كلما اقتضت الحال ذلك، وطريقة النزح أبسط الطرق، ولما تألفت شركة نزح المواد البرازية «1887»، صارت تنزح تلك الخزانات بطلمبات بخارية، تمتص المواد البرازية منها، وتلقيها فى عربات حوضية مسدودة سدا محكما، وتنقل تلك الخزانات إلى خارج المدينة».
وأكدت اللجنة أنها عاينت «الخليج المصرى» بدقة والمنازل جميعها، من منازل الأغنياء إلى منازل الفقراء والجوامع، وقالت عن ذلك: إن المحلات الحقيرة المعروفة بالعشش هى أشد ما يمكن للذهن أن يتصوره من الأماكن المضرة بالصحة.. وأضافت: أنها شاهدت بيوتا يملكها وطنيون متوسطو الحال، يشتمل البيت الواحد منها على طابقين ومقدمة - واجهة - مزينة أحجاره بالنقوش المحفورة، وأن هذه البيوت من حيث النظافة والتدابير الصحية فى حالة يرثى لها، ويصعب أن يتصور الذهن أسوأ منها.
ذكرت اللجنة، أنها شاهدت بيوت الموسرين، فوجدت أن المرتفق «الحمام» والمطبخ متحاذيين أحدهما بإزاء الآخر، وكلاهما فى الغالب قائم فى منتصف المنزل، وقالت إنها عاينت مرتفعات جامع السيدة زينب، والجامع الأزهر خصوصا، فوجدتها محلا للانتقاد لعدم مناسبتها، ورأت أن الأربعة مرتفعات العمومية المقامة فى جنينة الأزبكية يدخلها فى اليوم الواحد تسعة آلاف نفس لقضاء حاجاتهم، وأن ما يتخلل أرض المدينة من المواد البرازية من هذه المرتفعات يبلغ مائة وواحدا وأربعين ألفا من الأمتار المكعبة فى السنة الواحدة، فتشحن الأرض قذارة، وتفسد مياه الآبار التى يستقى منها الأهالى.
أدت الحالة على هذا النحو بخلوها من التدابير الصحية إلى كثرة عدد الوفيات، وقالت اللجنة فى تقريرها إن متوسطها فى القاهرة تزيد قليلا على 46 فى الألف من السكان فى السنة، فى الوقت الذى لم تتجاوز أربعين فى المائة بمدن أوروبا وأمريكا والهند.
يذكر «كيلانى» أنه بالرغم من أن هذا التقرير أعطى صورة قبيحة عن القاهرة، فإن مجلس شورى النواب رفض الموافقة على الاعتماد الذى طلبته الحكومة فى ميزانية 1894 كدفعة أولى لتنفيذ المشروع وقدره أربعين ألف جنيه، ورأى «المجلس» استخدام هذا المبلغ فى تخفيف الضرائب عن الفلاحين، ما حرم القاهرة من المصارف الصحية مدة طويلة، حتى بدأ مشروعها عام 1909، وانتهى فى يناير 1914، وتكلف مليون جنيه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة