ناهد صلاح

في عنيكي غربة وغرابة

السبت، 06 مارس 2021 10:49 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

طفل يكتب فوق جدار شبه ساقط  بلغة لا أعرفها، سألت الشاب الذي يرتدي قميصاً مرسوماً عليه خارطة إفريقيا عما يكتبه الصغير، فأجابني وهو يشير إلى الخارطة على صدره: إنه طفل تحركت أصابعه بفعل مس من الحنين لوطن لم يعرفه، وراحا الاثنان (الطفل والشاب) يغنيان سوياً لحناً شجياً لم أفهم كلماته، لكنه يغزو القلوب؛ لوعة ما في صوتيهما أشاعت فتنة أخاذة في الجو كما لو أن جوقة ملائكية تردد نشيداً يحمل التوليف الصوتي خارج مدار الأرض.. كيف يصنع الحزن هذا الجمال؟! نعم هو الحزن سرهما ومفتاح قدرهما الشقي كمهاجريْن مشدوديْن بعذاب كامن، يحررهما منه قليلاً طقسهما الغنائي الدافيء الذي يجعل الأجساد تتلوى معه.

  كان الشارع والطرقات في مدينة الدار البيضاء يبدوان منذورين لحكاية أسطورية في هذه الأمسية الشتوية، حيث تهز الرياح الناس العابرة ثم يفيض المطر بسرعة غامرة، كما لو كان يزيل هموماً إلتصقت بالحجر والبشر، أتابع الناس يندفعون عبر الشوارع المظلمة ويتلاشون بين خليط المبان القديمة العريقة؛ تفوح منها رائحة تاريخ مندثر، وأخرى حديثة زجاجية تنعكس أثارها على الأعين الزائغة، وبينهما الترام المكيف يخترق قلب المدينة، ويمتزج صوته الهادر مع صخب المارة والعابرين، وكان صوت الطفل والشاب الإفريقيين ينغمس أكثر في الحزن.

  توجد مسافة ميتافيزيقية هائلة بين الحزن وهذا التجلي البصري في شوارع المدينة، وما يحمله من صخب وضجيج المجاميع المتحركة التي ترسم لوحة فسيفسائية لهجين مختلف من البشر: أهل المدينة، المهاجرون من الريف والبادية والمهاجرون الأفارقة، ما يضفي هشاشة على الصورة تخفف من سوداوية الحزن، كما فعل المهاجريْن (طفلاً وشابًا) بعفوية الغناء رحمة بروحيهما في هذا العالم الواسع الذي يتخذان فيه عمقاً بانورامياً. أدرك الآن نوبات الغناء التي تجتاحني كلما غادرت مصر في رحلات سفر قصيرة؛ أغلبها متعلق بالعمل، ما يعني أنها أيام قليلة وسأعود، فأنا مصابة بـ Homesickness”"، وبمجرد أن تقلع الطائرة أغمض عيني وأبدأ مراسم افتتاح وصلة من أغاني الغربة والنوستالجيا، ولابد أن أباشرها في كل مرة مع فرقة الأصدقاء التي أسسها الراحل الموسيقار عمار الشريعي في العام 1980، فأردد لحنه بهذا الرتم المتمهل والمستدعي لكل مشاعر الشجن: "واحنا فايتين على الحدود.. مستمرين فى الصعود.. إختفى النيل الجميل من تحتنا.. والمدن والريف وأول عمرنا.. وابتدى شئ ينجرح جوه الوجود.. وابتدينا أسئلة مالهاش ردود"، وقبل أن أميل على الشباك وتفر دمعة مني كما تقول الأغنية، يكون كونشرتو أغاني الغربة قد تمكن مني تماماً ويستمر معي في الأيام الأولى لرحلتي، فأستعير صوت عبده السروجي: "غريب الدار عليا جار زمانى آسى وظلمنى.. مشيت سواح مسا وصباح ادور ع اللي راح مني"، ثم يتداخل معه صوت عفاف راضي:" يا مسافر مصر أمانة خدنى وياك على بلدى.. ده سنين الغربة بحالها ما تساوي ليلة في بلدي"، وقد يشاكس عبد الحليم حافظ بـ" سواح وماشي في البلاد سواح.. والخطوة بيني وبين حبيبي براح"، لترد عليه شادية:" "خايفة لما تسافر على البلد الغريب.. تنسى أنك فايت في بلدك حبيب".

  لا تعني هذه الحالة التي لا تفارقني، مع أن رحلاتي قصيرة ولا تحتمل كل مفردات الغربة في الأغاني، أنها حالة فردية؛ لكنها تعبير عن شعور مشترك ناتج عن مناخ وثقافة يشترك فيها ملايين غيري، ينخر الحنين في قلوبهم والذكريات في عقولهم حتى وهم داخل الوطن لم يفارقونه، ليكون الاغتراب حسب تفسير كارل ماركس مثلاً بأنه "عملية اجتماعية وحالة نفسية تنتج من خلال المشاعر الكامنة للعزلة والعجز"، وهو تفسير يناقض الكلام العاطفي الذي نردده في كل المناسبات عن ارتباط المصريين حسب جذورهم الفلاحية بالأرض والطين والنيل واضطرارهم بسبب الفقر والحاجة الشديدة إلى السفر والغربة، فتتكاثر أغاني الاشتياق والأحبة الضائعين على الدروب وفي متاهات دول النفط والكفيل، وحبيبات يتوسلن البقاء وعدم الرحيل؛ كانت "شنطة سفر" أغنية أنغام الشهيرة في التسعينيات هي أيقونة شجية رافضة الغربة التي تسلبها جزء من روحها، تقول له: 100 سؤال مهزوم بيترجى الجواب.. مش بتقصد عيني يا حبيبي العتاب.. سيبك إنت من دموع العين وقولي خدت أيه في شنطة سفر أو أيه فاضل لي؟.. خدت من صبري وطريقي منتهاه.. مش معاك نبضي اللي تاه.. خدت صورتي؟ شوف كده لتكون نسيت عمري وصباه"، وقبلها كانت نادية مصطفى تغني "سلامات يا حبيبنا يا بلديات"، أو حتى عايدة الأيوبي:"على بالي ابن بلدي"، لتأت سنوات بعدها بدون  إجابة على سؤال أنغام :" لسة ناوي ع الرحيل .. تفتكر مالهوش بديل؟، مع شباب من المنيا وغيرها من قرى مصرية  مضروبة بالفقر والطائفية، فضلوا السفر جحيم الحرب في ليبيا هرباً من جحيم الفقر الأكبر في قراهم، فذبحتهم داعش والجماعات المسلحة وهم الذين عاشوا حياتهم كلها مهددين بحجر التطرف وارتدادته.

مئات من أغاني الغربة تتهافت على بالي، لا شيء أكثر وضوحاً من كلماتها وموسيقاها الحزينة، حواس السمع تقوى بها وتزيد معها الهرولة نحو بلد لحمها من لحم أولادها الذين يعيشون غربة لا نهاية لها، ولا شفاء منها! هل الأغنية أقوى من الواقع؟ هل الحنان العميق الحزن، والرقة والليونة التي تنساب بألحان تنوعت بين النهوند والصبا والحجاز، تستطيع أن تواجه الواقع؟ لا أنتظر إجابة لأن السؤال خطأ والجرح أكبر وأشمل من فكرة هذه المقاربة الجائرة، كما لو أنني أضع الأغنية في موقع "دون كيخوت" تحارب طواحين الهواء وتخوض معارك لا تُغير الواقع! لا أجد مفراً في هذه اللحظة من أغنية محمد منير: "أيه يا بلاد ياغريبة.. عدوة ولا حبيبة.. فى الليل تصحى عيونك.. ونجومك مش قريبة.. بلاد ماعرفش ناسها .. ولا عرفانى بيبانها.. وماليش شبر في أساسها .. ولا طوبة فى حيطانها.. وخطاويا غريبة.."، كتبها سيد حجاب ولحنها هاني شنودة في السبعينيات، الزمن الذي جاءت فيه الأغنية لتعبر عن تجربته القاسية في وطن راح أبناءه يفرون خارجه، ومن بقي منهم اكتوى بنيران غربة من نوع آخر، هذه الأغنية جاءت في سياق مشروع محمد منير الذي صنعه مع أبناء جنوبه وغربته في القاهرة عبد الرحيم منصور وأحمد منيب، ثلاثي انضم لهم عبد الرحمن الأبنودي حيناً في نفس المشروع المنايري (نسبة لمنير) والتنويري في عالم الكتابة والإبداع والذي ضم أخرون غيرهم كما يحيى الطاهر عبد الله وأمل دنقل، من جنوب مصر إلى عاصمتها هاجروا وعاشوا حياة قاسية، هذه القسوة حفرت مجرى لمعان متعددة للغربة في تجربتهم، ليس بوصفها تجربة فردية أو تعبير عن أحاسيس عاطفية خاصة، لكنها صبغت بالجو العام واشتبكت بالتراث والفلكلور الجنوبي الضاربة جذوره في عمق الاغتراب، كل كلمة وكل تيمة لحنية تحكي عن هذا الاغتراب وتشير إليه مباشرة، فيقول:" في عنيكي غربة وغرابة .. وانا فيكي مغرم صبابا مغرم صبابا.. اتكلمي ولا ناديني.. صمتك كلام بيدفيني" أو "قول للغريب حضنك هنا دربك قريب من دربنا.. بيتك هنا أهلك هنا حزن البشر ده حزننا.. عيون حبيبتي الطيبين بيعلموني أكون حنين"، أو "ده انا واد خيال عاشق الترحال..على قد الحال لكن ميال.. مواعيد مواعيد كله بميعاد.. فرقتنا موت ولقانا ميلاد.. قلبي يا غريب الخطوة نصيب"، أو يتوارى الاغتراب خلف كلمات تحمل على كاهلها الوجع كفعل مُعاش وكفلسفة تحتمل كل التأويلات كما في أغنية شجر الليمون: "كام عام ومواسم عدوا.. وشجر اللمون دبلان على أرضه فينك؟ .. بيني وبينك.. أيام وينقضوا.. شجر اللمون دبلان على أرضه".

  مسار الاغتراب ارتبط بالأحداث العنيفة التي مرت بها البلاد، وترك أثره الكبير بعد نكسة 1967 التي توالت بعدها أغاني الحزن والغربة والأسئلة الوجودية التي عمقت من اغتراب الذات والوطن سوياً والبحث عن المنحى الإنساني:"لا يهمني اسمك.. لا يهمني عنوانك.. لا يهمني لونك.. ولا ميلادك.. مكانك..يهمني الإنسان ولو ما لوش عنوان"، وتنوعت التجربة الثلاثية: منير، عبد الرحيم منصور، أحمد منيب بأغنيات تحمل المفاهيم الإنسانية وتجسد الموسيقى موازية للكلمة، هارموني متبادل يطلق فالس الحزن والغربة والإنسانية في عجينة واحدة، تفلت من ضوضاء السياسة وصخب الزاعقين بالنظريات في المجتمع المحيط، وفي خضم هذا الضجيج السبعيني ونسقه الاستهلاكي الذي تحول إلى فخ يطحن الجميع؛ مهاجر أو باقِ، فكان من الطبيعي أن تظهر أغنية مثل:

"أمانة يا بحــــــــر تستلم الأمانة .. أحبابنا يا بحــــــــــر فى عيونك أمانة .. أمانة يا موج بوس خشب المراكب.. أمانة يا موج طبطب على اللى راكب.. أمانة يا هوا تكتب على الشراع اللقا أكيد من بعد الوداع"، وذلك كان قبل بكثير مواسم الهجرة الحديثة وغرق العبارات المتهالكة برحلاتها الرسمية ذات الأوراق الثبوتية القانونية، أو عشرات من مراكب الموت برحلاتها غير الرسمية وضحاياها من شباب ولدوا دون أن يعرفوا للوطن معنى ولا الحياة سبيلاً، ولم يعرفوا أبداً ما غناه منير من كلمات سيد حجاب وألحان هاني شنودة: "مركب هوانا فى الهوا حلى الشراع.. رايحين سوا لبلاد ما تعرفش الخداع".









الموضوعات المتعلقة

أغورا .. السينما تصنع فلسفتها

الخميس، 04 مارس 2021 10:25 ص

سيد درويش .. خفيف الروح بيتعاجب

الإثنين، 22 فبراير 2021 10:43 ص

الجريئة

الجمعة، 12 فبراير 2021 06:00 م

مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة