د. عباس شومان

الناس بين الإسراء والمعراج وكورونا

السبت، 13 مارس 2021 09:44 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يعيش الناس بين حدثين، أحدهما منحة لا تخلو عن محنة، والثانى محنة لا تخلو عن منح، فالإسراء والمعراج منحة هى فى وسيلتها معجزة، فتلك دابة البراق التى تسير بسرعة لم ولن تصل العقول البشرية إلى اختراع وسيلة تقترب من سرعتها، رغم صناعة النفاثات والصواريخ العابرة للقارات، هى معجزة فى كيفية تنفيذها، فالجسد البشرى بطبيعته التى خلقه الله عليها يتحمل الانتقال من مكان إلى مكان فى حدود سرعات معينة، ولا يثبت على ظهر دابة تنطلق بسرعة البرق من دون أدوات تثبيت، أو غرف حماية على ظهر الوسيلة الناقلة، والمعراج أشد إعجازا، فمسافته المقطوعة غير معلومة، حتى بعد ارتقاء البشر وسيرهم على ظهر بعض الكواكب، فالكواكب التى نعرفها، بما فيها الشمس، على ملايين الأميال التى بيننا وبينها لا تمثل شاطئ بحر بالنسبة لرحلة المعراج، ووصول رسولنا واختراقه الحواجز من دون وسائل تنفس اصطناعية، ولا واقية من الضغط الجوى، وشدة برودة طبقاته العليا، ناهيك عن أجواء لا نعرف الكثير عنها من دون تضرر لبدنه البشرية، ثم معجزة المعجزات تتمثل فى الزمن الذى تحقق فيه الإسراء والمعراج بكل ما فيهما، والذى هو أقل من ذهاب دفء فراشه، وكأنه لم يغادره، ورغم هذه اللحظات الوجيزة التى استغرقتها رحلتا الإسراء والمعراج، إلا أننا كمسلمين استفدنا منهما الكثير من العبر والعظات، وأهمها استفادة دليل يضاف إلى أدلة كثيرة تدل على عظمة الخالق وقدرته من خلال تطبيق عملى لا يمكن لذى عقل أن يطلب دليلا بعده، على تفرد الخالق، وأنه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير، وأن قدرته لا تقارن أصلا بقدرة مخلوقاته، وكفانا منحةً هديةُ الصلاة التى فرضت فيها.
 
أما كورونا، فهى محنة تعرضت لها البشرية أودت بما يصعب حصره من نفوس البشر، ولا يزال الخطر منها قائما غير منقوص، وظاهر النظر يرى المنحة فى طريق، والمحنة فى طريق يخالفها اتجاها وغاية، ولذا لا يتصور الجمع بينهما.
 
ونظرة متأنية بشكل يتجاوز الظاهر، تدرك بأن المستفاد من منحة الإسراء والمعراج يبدو مثله، وما لا يقل أهمية عنه فى محنة كورونا، فالإعجاز المتحقق فى منحتى الإسراء والمعراج غير مفقود فى محنة كورونا، فإذا كان العلم الحديث بكل ما وصل يقف عاجزا عن تفسير الكيفية التى تمت بها رحلتا الإسراء والمعراج بجزئها الأرضى والآخر العلوى، بكل ما فيهما من خروج عن مألوف العلم وقواعده، فها هو يقف عاجزا عن تفسير هذا الماكر الذى لا يُرى بالعين المجردة، فلم يجزم العلماء حتى الآن مسألة التدخل البشرى فى تخليقه من عدمه، ولم يجزموا كيفية انتقاله ولا الوقاية منه، ولم يهتدوا لعلاج ناجع له، وحتى الأمصال التى يعلن عنها غير مقطوع بنتائجها، ولا يعرف مركز بحثى ولا عالم نابغ متى ينتهى ويرحل عن دنيانا هذا الفيروس اللعين، إن كان ينوى الرحيل يوما، وكما يدرك الإنسان عجزه وضآلته أمام قدرة الله وعظمته حين يتدبر حدث الإسراء والمعراج، والتى يجد الخطباء والكتاب فيها جديدا من الدروس والعبر والعظات وترتبط بواقع الناس، وكأنها جاءت لتعالج انحرافاتهم عن جادة الصواب وتعيدهم إلى الطريق الصحيح فى عصرهم الحالى، ولم تكن مجرد رحلة ترفيهية عن الآلام النفسية التى ألمت برسولنا الأكرم بعد فقده المقربين فى وقت هو أحوج ما يكون فيه لنصرتهم والتخفيف عنه، يدرك الإنسان ضعفه، وإن كان قد مشى على ظهر بعض الكواكب ويسعى لاستيطانها، وإن كان قد حل شفرات كثيرة من شفرات جسمه البشرى، وطار مع الطيور فى السماء بطائراته، وسبح مع الحيتان فى أعماق البحار بغواصاته، وتحدث مع أقرانه وأحبته وشاهدهم وكأنه جالس بينهم، وإن كانت بينهم قارات وليست قارة فى محادثة فيديو يجريها بضغطة زر على جهازه، فها هم علماء الفيروسات والطب يقفون عاجزين عن إيقاف كورونا، بل حتى عن فهم حقيقيته، بل عجزوا عن حماية أنفسهم من هجماته، وعن التخلص منه بعد أن تسلل إلى أجسادهم فلم يتركها إلا بعد أن عبث بكثير من أجهزتها، خاصة الرئتين، أو صاحبها فى أكفانها،  وعجزت الدول الكبرى المتقدمة وعلى رأسها أمريكا، عن حماية رؤسائها بكل ما تمتلكه من إمكانات علمية وطبية وماديّة، وأعلنت الدول التى يقل أن تسمع فيها شيئا يتعلق بالخالق، أنها استنفذت جهودها الأرضية وعجزت عن التصدى للفيروس وأنه خرج عن السيطرة، وأنهم فى انتظار أمر السماء، ويدرك الجميع بأن الخالق بكلمة منه يكون هذا الفيروس وغيره من المؤذيات نسيا منسيا وكأنه لم يكن يوما بين الناس، {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}وإذا كان الجميع يعتبر الفيروس محنة وهو كذلك حقا، فهو لا يخلو عن منحة، فكما ترسخت عظمة الخالق فى نفوسنا بتدارس الإسراء، ترسخت بتدارس كورونا، فندرك كم من شرور وقانا الله إياها بما أودعه الخالق فينا من أسلحة خفية دون أن نشعر بها، ومن منح كورونا، أن الصابر عليه ينال أجر الشهيد، لقوله «صلى الله عليه وسلم»: «الطاعون شهادة لكل مسلم»، وإذا كان الفيروس قد ذكرنا بأن الحياة يمكن أن تزول فى لحظة، مع أن هذه حقيقة لم يأت بها الفيروس، بل هى متجذرة فى عقيدتنا، إلا أنه قد نشطها فى وعينا، فإن العاقل من يبادر، فيعد عدته ليوم الوقوف يبن يدى خالقه، وهذه منحة تحققت لنا من قلب محنة فتّاكة، وكما خرجت المنح من قلب محنة كورونا، فقد تنطوى المنح على محن، فالإسراء والمعراج منحة للمؤمنين الذين صدقوا رسولهم، وهو محنة على ضعاف الإيمان الذين كذبوه وارتدوا عن الإسلام، رغم برهنته على صدقه، فهم يعلمون أنه لم يزر القدس يوما، وقد وصفه لهم وكأنه جالس فيه، ولم يكن ضمن قافلتهم التى لم تصلهم بعد، حيث أخبرهم بحالها، فكان الحدث منحة ومحنة، وإذا كانت المنح تنطوى على محن، والمحن لا تخلو من منح، فيكون من الجيد ألا يستغرق الإنسان فرحا بالمنح، غافلا عن محن تجر إليها، فالمال منحة من الخالق لخلقه الذين رزقهم منه نصيبا وافرا، وهو محنة كبرى إذا اغتر به وسلك به مسلكا غير الذى حدده شرعنا، ويمكن أن يتسبب فى خروج هلاك صاحبه فى الدنيا والعياذ بالله، كما لو أنفقه فى الخمور والفجور، وسوء المصير فى الآخرة، ولنا فى «قارون» العبرة والمثل، والصحة والقوة والجاه وسلامة الحواس، منح من الخالق، ولا يخفى على عاقل أنها يمكن أن تنقلب إلى محن مهلكة، ولنا فى «فرعون» و«هامان» ومن على شاكلتهما عبرة وعظة، والمحن باتباع توجيه الشرع الحكيم تتحول إلى منح عظيمة، فالصبر على محنة موت الأحبة منحة، وأى منحة أكبر من أن يوفى أجر صبره بغير حساب؟ والصبر على المرض والفقر، ينال به العبد رضى ربه، فلنستفد من منح الإسراء وبخاصة الصلاة، ولنعتبر بمحنتها على ضعاف الإيمان فلا نقع فيما وقعوا فيه، ولنصبر على محنة كورونا ليكون لنا أجر الشهداء، وإن لم نصب بها، لقوله «صلى الله عليه وسلم»: «فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث ببلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد».









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة