يتعرَّض النَّاس فيما يخوضون في حياتهم من معاركَ إلى إصاباتٍ في أيديهم أو في أقدامهم، أو في غير ذلك من أجزاء الجسم، غير أنَّ أفدح إصابات الإنسان ما يكون في وعيه!
نعم، إصابة الإنسان في وعيه من أخطر الإصابات؛ فالإنسان قد يتعايش مع كثير من إصاباته الحسِّيَّة، ولكن كيف يعيش ويبدع ويفكِّر من أُصيب في وعيه وإدراكه؟!
ووا أسفاه! كم من مصابين في وعيهم وإدراكهم!
إنَّ صراع الإنسان مع نفسه، ومع شيطانه، ومع الكون من حوله صراعٌ قديمٌ تعدَّدت أسبابه، وأدواته، ونتائجه، وسيبقى الصِّراعُ ما دامت الحياة، والمتأمِّل في هذا الصِّراع القديم الحديث يجد أنَّ ميدانه «الأفكار» لا غير.
وخطورة «صراع الأفكار» أنَّ فكرةً واحدةً صحيحةً قد ترتقي بأمَّة، وأنَّ فكرةً واحدةً فاسدةً قد تضرُّ بأجيالٍ كاملةٍ، وذلك أنَّ تحضُّر أيِّ أُمَّة يبدأ بفكرةٍ إيجابيَّة متفائلةٍ تنطبع في أذهان أبنائها حتَّى تصل إلى درجة الاعتقاد الجازم المفضـي إلى الحركة الواقعيَّة الفاعلة في الحياة، وأنَّ تخلَّف أيِّ أمَّة يبدأ بفكرة سلبيَّة قاتلة تستقرُّ في نفوس النَّاس حتَّى تعزلهم عن الكون، وتمنعهم اكتشاف أسراره، وسبر أغواره.
والنَّجاة من هذا الصِّراع بل الفوز فيه لا يرتبط بالأسلحة مهما كانت فتَّاكة، وإنَّما يتوقَّف على مدى وجود الوعي ونضجه لدى المجتمع أفرادًا ومؤسَّساتٍ.
وإذا كانت أوطاننا قد خاضت معارك متنوِّعة فإنَّ أخطرها على الإطلاق هي «معركة الوعي»، خاصَّة أنَّنا نعيش مرحلةَ تزييفٍ متعمَّدٍ، تحاول أن تُخِلَّ بميزان الحلال والحرام، ومعاييرِ الصَّواب والخطأ؛ وأن تعبث بمكوِّنات هويَّتنا الَّتي تأصَّلت عبر سنين متطاولة، وكأنَّها تريد منَّا باختصار أن نُخرج ذواتِنا منَّا ونُدخل مكانها ذواتٍ أُخَر غريبةً عنَّا في العقل والإحساس والشُّعور والأحكام! فهو تزييف متعمَّدٌ يخلط كلَّ شيءٍ بكلِّ شيء، فلا يتبيَّنُ شيءٌ من شيءٍ.
وهنا يتأكَّد دورُ المصلحين من العلماء والمفكِّرين والقادة، بل يتأكَّد دورُ كلِّ عاقلٍ في تنمية الوعي الفرديِّ والجماعيِّ لإرشاد الأمَّة إلى مسارات القيادة والرِّيادة والسِّيادة.
وتبدأ مناورات معركة الوعي بأن يدرك كلُّ وطنيٍّ مخلصٍ ماذا يراد به، وماذا يراد منه.
فأمَّا ما يراد بنا فكما يظهر لكلِّ ذي عينين من جرأةٍ غير محمودةٍ لأناسٍ غير مؤهَّلين للخوضِ في مسائلَ عظيمة، فترى الطَّعن في المؤسَّسات بدعوى النَّقد، وترى الإساءة إلى الهويَّات بدعوى الحريَّة، وترى التَّحريف بدعوى الاجتهاد!
وقد أتاح الفيضُ التُّكنولوجيُّ لرويبضاتِ العصر –وما أكثرهم!- الفرصة ليخوضوا –بقصدٍ أوبغير قصدٍ- في جواهِر الأمور لزعزعة الإيمان، والتَّشكيك في الثَّوابت، وتغيير الهويَّة، والإساءة إلى المؤسَّسات!
وإنَّنا لو اتَّخذنا ديننا بقيمه، وتراثنا بأنواره، وتاريخنا بحضارته وراءنا ظهريًّا فإنَّنا سنخسر كثيرًا في ميزان الأمم والحضارات.
والحلُّ لتجنُّب هذه الخسارة أن نعرف ما يراد منَّا لنفوز في هذه المعركة عن طريق الوعي بتحقيق الإيمان، والوعي بواجبات الأزمان، والوعي بحقوق الأوطان.
وذلك أنَّ كثيرًا من النَّاس يقف بالإيمان عند حدِّ العبادة وحدَها، فيصلِّي ويصوم ويحجُّ، ولكنَّ قانون الإيمان يشمل إلى جنب العبادة الاستخلاف والعمارة؛ فإذا كنَّا نأتمرُ بقول الله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» [الذاريات: 56]؛ فإنَّنا يجب أن نأتمر كذلك بقولِه تعالى: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» [هود: 61] وقوله تعالى: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا» [الأعراف: 56]. فالإيمان الحقيقيُّ ينبني على عقيدة صحيحة محاطة بأخلاق فاضلة مشروطة بسعي طيب وإعمار نافع.
ومن فهم الإيمان حقَّ الفهم علم أنَّ لكلِّ زمانٍ عبوديَّته الخاصَّة، فلا تتعارض العبوديَّات بل تتكامل، فالمحافظة على العقول من العبث عبوديَّة، وصيانة الأهل والولد عبوديَّة، ومراقبة الله في العمل عبوديَّة، والحرص على شيوع الفرح والرِّضا في النَّاس عبوديَّة، وهكذا حتَّى تشمل العبوديَّة كلَّ زمان بحسبه.
وأمَّا الوعي بحقوق الوطن فأوَّلُه أن نردَّ على المحرِّفين كيدهم بتأكيد الانتماء إليه، وأن نستجيب للغريزة الَّتي تنادي بحبِّه مهما سعوا في إيجاد قطيعة بيننا وبينه.
ومن الوعي بحقوق الوطن أن يعمل الإنسان على استقلاله وحفظ حدوده، ورفعة شأنه، وألَّا يسمح بوجود فساد فيه في أي ناحية من نواحيه.
إنَّ معركة الوعي والإدراك ليست الأولى في تاريخ البشريَّة ولن تكون الأخيرة، ولكنَّ خطورتها هذه المرَّة أنَّنا وقودُها وحطبُها، فحريٌّ بنا أن نتثبَّت لأنفسنا، وألَّا ننجرَّ خلف كلِّ ناعقٍ! بل الواجب أن نعلم طبيعة هذه المعركة، ونتحمَّل مسؤوليتنا تجاه أوطاننا، ولا نلتفت لما يروج من الأكاذيب من جهات وجماعات وتيَّارات لا تريد بنا وبأوطاننا إلا الشَّرَّ.
وأمَّا مِصْرُ فأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهَا، وَأَهْلَهَا، وَأَنْ يُدِيمَ أَمْنَهَا وَأَمَانَهَا، وَسَلَامَهَا وَإِسْلَامَهَا.
الدكتور محمود الهوارى - مدير هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف
محمود الهوارى هيئة كبار العلماء بالأزهر، معركة الوعى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة