لنا عبد الرحمن تكتب: فى البيت والسفر عزت القمحاوى كاتب لا يفارق أبطاله

الخميس، 23 ديسمبر 2021 07:20 م
لنا عبد الرحمن تكتب: فى البيت والسفر عزت القمحاوى كاتب لا يفارق أبطاله لنا عبد الرحمن

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ننشر مقالة الكاتبة لنا عبد الرحمن، التى شاركت بها فى الملف الاحتفائى بالكاتب الكبير عزت القمحاوى بمناسبة بلوغه الستين من عمره.
 
ينتمى عزت القمحاوى إلى نوع الكتاب الذين يعيشون فى قلب نصوصهم، بحيث يتوحد مع أبطاله وينصهر معهم، هذا يمكن اكتشافه من تفاصيل صغيرة تتسرب خلال الحوار الواقعى عن علاقته بالعالم من حوله، وارتباطه بالأشياء التى يحبها ويعتنى بها، بداية من إيمانه بفلسفة التخلي، مرورا بإصرره على اختيار حياة بعيدة كليا عن الصخب والانشغالات الخارجية التى تستنزف الوقت والجهد، حيث يرى أنه أحوج ما يكون للساعات الهاربة للبقاء مع أبطاله والانصات لهم من أجل استدعاء الكتابة. ولعل قارئ رواياته، وأعماله الابداعية الأخرى سوف يقف أمام انهماكه باحتواء جماليات يومية تكسر الحدود بين الواقعى والابداعي، بحيث تصير الحياة وحدة واحدة كما ينبغى للكاتب أن يكون "كُلٌ لا يتجزأ"، وليس ثمة انفصال بين تفاصيله اليومية ورؤيته الإبداعية للحياة، إنه كاتب ينحاز للصمت، والظلال، مقاوما صخب العالم وانهياره عبر اختيار الانسحاب إلى الداخل، والانحياز للمراقبة والكتابة.
 
ويمكن استنتاج هذا من تتبع إحدى شخصيات رواياته كما هو الحال مع سامى بطل روايته "ما رآه سامى يعقوب" الذى لا يستطيع الغافل أن يمرّ من جانبه من دون أن تستوقفه ابتسامته الواسعة، رؤية كيف ينهمك سامى فى تجهيز مائدة الطعام لحبيبته، ورعايته لكل ما تحب تحضر فى تفاصيل صغيرة تخلق عالمها الجمالى المتكامل. يمضى هذا النص بين لحظة تصوير حالة شبق لزوج من القطط وما بعدها، لكن لن تعود حياة سامى يعقوب كما كانت من قبل. منذ الصفحات الأولى فى هذه الرواية الرائقة ظاهرياً مثل بحيرة -لا يمكن التنبؤ بما تخفيه- يبدأ ترميز الكاتب بعبارات لا تنكشف دلالتها إلا بعد انتهاء النص. المقارنة بين حى جاردن سيتى وإمبابة حين يقول: "لا تغامر العصافير بالدخول إلى إمبابة بينما يمكن ملاحظة الطيور الكبيرة تنبش الفضلات على الشاطئ"، هذه المقارنة بين المنطقتين، وبين العصافير والطيور الكبيرة، وكذلكً مقارنة الفراشات بالتماسيح، يمكن اعتبارها ضمن الدلالات المهمة فى تركيب النص. اعتمدت الرواية على المشهدية، خاصة فى الجزء الذى ينتمى إلى الحاضر، يبدو الوصف دقيقاً ومكثفاً، يسترسل فى تتّبع حركة القطّين، وتحليل أفعالهما وما فيها من دلالات. ويشارك فى الحضور الفعال للمشهدية اختيار الكاتب وضع زمن صيغة المضارع باللون الأسود، لتكون مختلفة عن بقية السرد الذى يرجع فى الذاكرة إلى الماضى الأبعد، لنقرأ: "بعكس الوحوش الأقوى كالأسود والنمور، لا تصطاد القطط لمجرد أن تأكل، لكن يمكنها أن تفعل ذلك لمجرد التلذذ بذعر الفريسة".
 
الانشغال بالمكان
تبدو أيضا سمة الانشغال بفكرة "المكان"، بحضوره الواقعى والمتخيل إحدى البنى الأسلوبية الأساسية فى كتابة عزت القمحاوي، وهذا يمكن ملاحظته من تكرار كلمتين مثل "بيت" و"غرفة" فى عناوين مؤلفاته، كما فى روايتيه "بيت الديب"، و"غرفة ترى النيل"، ومجموعة "غرفة المسافرين"، وفى روايته الأحدث "غربة المنازل"، تحضر كلمة المنزل فى الجمع. وإن كان هذا يدل على شيء فإنه يكثف الدلالات لعلاقة الكاتب مع فكرة المكان المغلق وتخيلاته عنه. هذا نجده أيضاً فى روايته "البحر خلف الستائر"، فى ذاك المكان المبهم والسرمدى الذى يقيم فيه البطل.
 
مفهوم الغرفة أو المنزل وإن اختلف تناوله فى هذه الأعمال، فإنه يؤدى فى جميعها إلى قطف حميمية معينة تجلت أيضاً فى رواية "ما رآه سامى يعقوب"، ضمن عمل يدور معظمه داخل المنزل ضمن علاقة سامى وحبيبته، أو حتى فى تخيلاته للحظة اللقاء المنتظرة مع الحبيبة، وما فيها من مباهج تنتهى بلحظة خاطفة. العلاقة مع البيت فى نصوص القمحاوى تستدعى رأى غاستون باشلار فى كتابه "جماليات المكان" حين قال: "البيت هو ركننا فى العالم، كوننا الأول، كون حقيقى بكل ما للكلمة من معنى... البيت جسد وروح يحمى أحلام اليقظة والحالم، ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء".
 
فى روايته "غربة المنازل"، يستهل الكاتب السرد مع تاريخ 17 أغسطس 2020. إنها الشهور التى غرقت فيها البشرية فى حجرها الصحى المعتل، بعد انتشار وباء كورونا. هذه الدلائل الافتتاحية، فى نص غازل الماضى عبر "ألف ليلة"، والحاضر فى وضع أبطاله جميعاً فى مأزق وجودى راهن، يقلب موازين الحياة ومفاهيمها، فى عالم يتواجه فيه التحلل والتماسك، وتتلاشى ثوابت قائمة، لتنتهك وجوده أخرى تزيح أى يقين فكرى أو أخلاقى مقابل ضباب لا يمكن الإحاطة به.
مثل نحات صبور يصوغ القمحاوى نصه، بتكثيف، وعمل دقيق على اللغة والعبارات، وهى لغة فائقة العذوبة، نضرة وخالية من الترهل. اختار الكاتب صوت الراوى العليم، واستخدم تواريخ بعينها لتكون مفتاحاً للأحداث والشخصيات، فبدت الحركة السردية نشطة، تراوح فى أماكنها بين مكان ثابت (البيت)، وآخر متخيل يحكى عنه الأبطال رمزاً هو "مدينة الغبار". تتداخل العلاقات فى "غربة المنازل" عبر خيط رفيع جداً، فقد اختار الكاتب جمع أبطاله فى مكان واحد، عمارة سكنية تجمعهم وتفصلهم فى آن واحد، لا وشائج نفسية قوية بينهم، لا اتصالات هاتفية ولا زيارات، ليس بسبب الوباء ووجود مسافة اجتماعية يفرضها العزل فقط، بل لأسباب كثيرة أخرى تتضح عبر النص تتضح فى نوعية العلاقات بينهم. 
 
غرفة المسافرين
ربما يبدو للوهلة الأولى عند قراءة عنوان "غرفة المسافرين"، أن هذا النصّ كتاب يحكى عن تجربة السّفر فقط، بما فيها من ارتحال وغموض وشفافية وتحليق. بيد أن القارئ سرعان ما يكتشف أن جمالية الكتابة تكمن فى انفتاحها على أكثر من معنى وعبرة، على قدرتها السافرة لعبور جدار القلب بغرضِ التقاط زفرة السائح الأخيرة.
 
تمضى نصوص "غرفة المسافرين" الأربعون، فى أفق متحرر من اقتباس محور واحد للحديث عنه والإيغال به. فمن خلال فلسفة الرحلة وفن العمارة وسحر الروايات ونداء الأماكن تستمدّ هذه النصوص خصوصيتها عبر الانتقال الفنى السلس بين حياة وأخرى وفنّ وآخر. إنها نصوص مفتوحة على فتنة السّفر وعزلة القارئ والكاتب فى آن واحد.
 
كل هذا يتجاور مع سؤال عن رغبة الحياة المتجددة سواءً فى البقاء أو الرحيل. هذه الرغبة تتجلى فى المزاوجة بين ما يراه الراوى فى نصّ إبداعي، وما هو مرئى فى الواقع حقاً. أيضاً مع ما تستدعيه الأماكن بانفتاحها وغموضها وتجلّيها للعين الرائية. هذا ما نجده مثلاً عند الحديث عن نصّ "أن ترى"، وما فيه من تفسيرات لرواية "الموت فى فينيسيا" لتوماس مان، وكون "السفر تحديقة، نظرة إلى الجميل تكون خطرة أحيانا".
 
عشق السفر
ليس هناك تناقض بين حب الكاتب للبيت وعشقه للسفر فى آن واحد، يعتبر الكاتب أن أحد أهداف السفر هو الفرار من الموت، وأن هذا الوعى حاضر بشكل خفى ودائم منذ رحلات الهروب فى الميثولوجيا الإغريقية، مروراً برحلة جلجامش، وصولاً إلى سؤالٍ يطرحه الكاتب على لسان بطله فى رواية "يكفى أننا معاً" حول إن كان يوجد موت فى جزيرة كابرى الإيطالية التى يقصدها السيّاح للمتعة الصافية، فيأتيه الرد: "موجود لكن السّيّاح لا يتوقعونه". "السفر اكتشاف لأنفسنا أكثر مما هو اكتشاف للمكان المختلف". يأتى تأمل هذه العلاقات عبر دفقات واضحة من نصوص حية تزيح السِّتار عن مشاهد حقيقية فى الذات. يرى القمحاوى أن السعى للسّفر أحيانا يكون بغرض رأب الصدع فى علاقة تتصدع؛ فتكون الرحلة خارج المكان المألوف غرضاً لإعادة ما تباعد من الوداد. لكن السّفر قد يوغل فى الألم أكثر حين يزيد من حدة البعد، أو يؤكد على حدوث النهايات التى لا يرغب أحدٌ بالاعتراف بها.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة