ناهد صلاح

فان ليو.. لاعب النور والظل

الأربعاء، 24 نوفمبر 2021 06:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل تعرفون فان ليو؟ 
ليس شعورًا بالـ نوستالجيا أو أي نوع من الحنين أن أطرح هذا السؤال، لكن في ذكرى مئوية ميلاده التي تمر هذا الشهر، ربما يبدو السؤال محاولة لملء مساحة التواريخ الناقصة في حياتنا، أو تجاوز فجوة الوعي التي انزلق فيها كثيرون، وربما مراوغة قد تساعد في رسم الخط الواصل بين الحاضر والماضي، وجمع شتات الصورة الواقعية، دون أوهام النظر إلى الخلف بانجذاب لضوء ساطع يخطف الأبصار ويعتم الجوهر.
 
 السؤال عن فان ليو (1921-2002) أو  ليفون ألكسندر بويادجيان، اسمه الأرميني الأصلي قبل أن يصبح فنان الفوتوغرافيا المصري الشهير، ليس استفهامًا وجوديًا أو استخبارًا غليظًا عن موضوع سحيق وغائر، إنما هو أشبه بلعبة البازل، أحجية تركيبية تتطلب تركيب عدد من القطع الصغيرة من أجل تشكيل صورة كبيرة.
 
 وبمزيد من تأمل قصة فان ليو؛ يمكن تفكيك القوالب الثابتة ومعرفتنا الراسخة عن أنفسنا، ما يمنحنا فرصة للمعرفة والتفسير والنقد، ومن هنا لا يصبح فان ليو، المولود في تركيا والهارب مع أسرته من جحيم الإبادة الجماعية والمذابح التي ارتكبها الأتراك في حق الأرمن، لا يصبح فقط هو فنان البورتريه الأشهر في مصر، لكنه المصور الذي شارك في تكوين الصورة المصرية وتعميقها، لتكون بورتريهاته في حد ذاتها منذ أربعينيات القرن الماضي، شاهدة على التحولات الجمالية التي عاشها مجتمعنا، أسلوبه جعل من الصورة الموزعة بين الأبيض والأسود حكاية، حكاية الناس بأطيافهم المختلفة، هؤلاء الذين شكلوا معًا ملامح الحياة المصرية، في صوره يطل هذا التفاعل بين الماضي والحاضر، هذا التلاقي الحميمي بين الضوء والظل، المزج بين الزمن والثقافة والتفاعل مع العالم والانفتاح عليه، فمن يكون هذا المصور لتكون قصته مهمة؟ هل يمكن اعتباره واحدًا من مفاتيح الهوية المصرية؟
 
 مؤشر البحث على الإنترنت يقود إلى محورين بارزين، أولهما: انتماءه إلى طائفة الأرمن المصريين، وفدت عائلته إلى الزقازيق في العام 1925 وعاشت هناك ثلاثة ثلاث سنوات، ومنها إلى القاهرة حيث التحق بالمدارس الأرمنية، ثم الجامعة الأمريكية سنة 1940التي غادرها دون أن يستكمل دراسته، لشغفه بالتصوير الفوتوغرافي، فكان استوديو فينوس لصاحبه الأرمني ارتنيان هو جامعته التي تعلم فيها التصوير، ليبدأ الشاب العشريني الذي أهداه والده كاميرا، مشروعه الخاص مع شقيقه أنجلو، الراقص على الجليد، الذي هاجر إلى كندا وخرج من دائرة الضوء، أو بالأحرى من دائرة الافتتان والولع بالصورة.
 
حسناً، فإن رجل قصتنا هو ابن بيت أرميني يتحدث اللغة الأرمينية، ويعرف التركية، وتحيطه اليونانية في محلات البقالة، ويتبادل الانجليزية والفرنسية والعربية مع زملاء الدراسة والجيران ثم زبائنه لاحقًا، كل هذا كان جزء من التركيبة المصرية التي انتسب إليها فان ليو ابن الأرمن، وهم خيط وثيق في النسيج المصري: حرفيون، صُناع، تجار، أطباء، فنانون، وحتى سياسيون (نوبار باشا مثالًا)، كانت مصر قِبلتهم، مثلما كان فان ليو قِبلة المصريين الراغبين في صور استثنائية ومميزة.
أما المحور الثاني لمؤشر البحث علىى الإنترنت، فيتعلق بتأسيس فان ليو لمشروعه الخاص في فن الصورة وإخلاصه للأبيض والأسود، وأخبار متناثرة عن المعرض الذي نظمته الجامعة الأمريكية في القاهرة، مؤخرًا، لعدد من الأعمال الفوتوغرافية النادرة له، مع عرض سينمائي لفيديوهات منزلية صورها هو وشقيقه أنجلو في منتصف الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي، تحت عنوان "فان ليو خارج الاستوديو"، من المعروف أنه تبرع قبل رحيله بأرشيفه كاملًا إلى الجامعة الأمريكية ( نحو 200 فيلم Negative،  و25 ألف صورة مطبوعة).
 
 أغلب المعلومات الخاصة بالمحورين، لا توحي بأي شيء يخص الحيوية والطزاجة، بل هي مكررة بطريقة الاستنساخ، ومصحوبة برومانسية مريضة تخلو من ذرة عقل وتفكير، فقط تأتي في سياق الانفعال الساذج باكتشاف الماضي الجميل، والخليط البشري الذي عاش حياة الكوزموبوليتان وأنتج وصنع فنونًا ومهارات متنوعة في مصر، دون الإحاطة بالنسق الاجتماعي والسياسي الواقعي في هذه الأزمنة، ومع ذلك فإن هذه المعلومات سواء نُشرت بوعي أو بدون، يمكن تطويرها من مجرد وسيلة لبرهان تعددية المجتمع وانفتاحه إلى إنغماس مغوِ في عالم يحتاج إلى اكتشاف حقيقي.
 
 أتخيل فان ليو الآن في المرحلة الأخيرة من عمره، يجلس خلف النافذة المطلة على شارع 26 يوليو في وسط القاهرة، نافذة الاستوديو الشهير الذي امتلكه في عمارة رقم 7، وحيدًا، شاردًا، يراقب الشارع كأنه يصغى لأغنية قديمة أو ينظر إلى بؤبؤ عين إحدى شخصيات بورتريهاته، يحدق عميقًا كما لو كان يسأل: "أكان كل هذا المشوار ضروريًا؟ هل استطعت أن أعيش الحياة كما ينبغي؟"...
 
المشهد المتخيل، لا علاقة له بالحنين أو الهوية، إنما بصورة انبثقت من الفيلم التسجيلي القصير "هي + هو فان ليو" للمخرج اللبناني أكرم زعتري، زاوية جريئة نرى من خلالها أفق أوسع من الصراع البشري على المقتنيات والألقاب، إنه وجه من أوجه التمرد على الاعتيادي فينا، فتاة مصر الجديدة تذهب إلى مصور شهير وتطلب منه يصورها عارية، المصور يوافق دون أن يسألها عن السبب، فقط يقوم بمهمته ويلتقط لها 12 صورة، وإن رجح كما قال في الفيلم أن أنها سعت إلى تصوير نفسها في سن النضارة والشباب؛ قبل أن يداهمها الزمن، ومخرج بعد سنوات كثيرة يجد الصور ونكتشف أن الفتاة هي جدته لأمه، فيحمل كاميرته ويبحث عن المصور الذي بلغ حينها عامه السابع والسبعين، ويصنع فيلمًا يحتوي حكايته من خلال فعل جريء قامت به جدته، كان فان ليو في هذه المرحلة قد قطع مشوارًا حافلًا في عالم التصوير، جرب فيه كل الشطط الفني الذي طرأ على خياله، ولم يلهث وراء التقرب من رجال السلطة والمال، ملوك أو رؤساء أو رجال أعمال، باستثناء حصوله على جائزة الأمير كلاوس الهولندية عن مجمل أعماله، قبل رحيله بعامين والتي رشحه لنيلها المخرج اللبناني أكرم زعتري، إن ليو كان فقط مأخوذًا بالتكوين الذي يجب أن تكون عليه الصورة.
 
بين الأبيض والأسود كان عالمه مشدودًا على طرفين، عرف من البداية أن الحياة بلون واحد لا تحتمل، لكنه اكتفى بالأبيض والأسود، الخيال والحقيقة، الحلو والمر، لم يرغب في ألوان أخرى، ركز على الضوء والظل، من خلالهما يخلق التباين الذي يبرز جمال الشخصية، النور يصنع الظل، والظلال تُعطى إحساسًا بالعمق والحجم، النور يظهر الإحساس بالتباين، والفنان الماهر يدرس النسب الصحيحة ويصنع جمالياته بما يتركه الضوء من أثر بالظلال، من هنا يمكن أن ترى محمد عبد الوهاب، عمر الشريف، رشدي أباظة، سامية جمال وغيرهم من النجوم أو وجوه أخرى من جماهيرهم، بزوايا مختلفة، كاشفة عن مساحات جمالية، صنعها فان ليون بإتقان المولع بعمله.
 
 الولع هو ما جعله يضبط الإضاءة وينظر إلى المرآة ويصور نفسه بحرية أكثر مما يملكه مع زبائنه، كل شيء ممكن في الانجذاب نحو الفنون، والفنون جنون، تحمل الأجساد خارج نطاق تكوينها العادي، ثمّة ما هو أعمق في الوجوه التي يتلاعب بها الضوء والظل، وجوه بلّورية تنقل ما يدور داخل جسد يموج بإ يقاع النفس والهمسات، وسط صنيع بصري لافت وآسر، وهذا الولع كذلك دفعه لأن يصور الجميع بدون انحياز سوى للبورتريه، فلم يكن مجرد صورة، بل حكاية توثيقية لصاحبها، فالتصوير كان العالم الافتراضي وضفة الأمان التي أنسته مذابح الأرمن في طفولته، والحروب العالمية التي شهدها على مدار تاريخه، التصوير هو أمانه النسبي الذي عاشه كاملًا في مصر، تقول عنه ا لدكتورة علا سيف، أمينة أرشيف الصور والسينما بالجامعة الأمريكية:" كان يعتز بشدة بمصريته".
 
هذا الاعتزاز أوسع من فكرة الهوية في حد ذاتها، إنه حالة خاصة تسمح بتوسل اللامألوف، والمغامرة، وكسر التقاليد، حالة إنسانية وفنية خالصة، تستلهم الوطن في الوجه البشري وتفاصيله بتجليات فنية عظيمة، أثبت فيها أن المصور الفوتوغرافي يمكن أن تكون لديه لغته الخاصة التي توثق هذا العالم، وأن مشواره الحافل لم يضع هباءً وأنه نعم كان ضروريًا أن يخوضه كما فعل، بدليل أنه مازال هناك من يسأل عن فان ليو وصوره.
 






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة