أكرم القصاص - علا الشافعي

الدكتور إبراهيم منصور يكتب .. عربى بين أكذوبتين

الجمعة، 08 أكتوبر 2021 11:50 ص
الدكتور إبراهيم منصور يكتب .. عربى بين أكذوبتين الدكتور إبراهيم منصور

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أستاذ النقد والأدب الحديث

جامعة دمياط

كلما ارتحلت من مسكن إلى آخر لابد أن انظر في مكتبتي، فأستبعد منها بعض ما أظن أني أستغني عنه، من الكتب والمجلات، لكثرة الكتب وضيق المساحة المتاحة مهما كبرت، ولكني أحتفظ بكتب المسرح والسينما وأيضا المجلات التي خصصت أعدادا خاصة للسينما، أما مجلة العربي الكويتية فقد احتفظت منها بعدد واحد قديم هو العدد رقم ٢٥٠، هو أول عدد اشتريته من تلك المجلة العريقة التي أسسها الدكتور أحمد زكي (١٨٩٤-١٩٧٥م)

   لماذا علق بذاكرتي هذا العدد؟ إنه أمامي الآن، لم أكتب على صفحاته المائة وخمسين أية ملاحظات أو تنويهات، لكني أذكر تماما أني اشتريته من مدينة المنصورة، حين نزلت من محطة القطار متجها نحو محطة الأتوبيس لكي أكمل الطريق إلى طنطا، في سبتمبر ١٩٧٩م، كنت متخرجا في الثانوية العامة، والتحقت بجامعة طنطا، مشيت في شارع أذكر اسمه "شارع جمال الدين الأفغاني" هكذا تقول ذاكرتي، قرأت الاسم يومها بالخط النسخ وباللون الأبيض، على لوحة معدنية ذات أرضية زرقاء، علقت على أول مبنى في الشارع، كان شارعا طويلا يبدأ من الناحية الشرقية لمحطة السكة الحديد، وكان مميزا بعمارته الأوربية، ولا تمر فيه في ذلك الوقت سيارات كثيرة، بل المشاة أكثر من الراكبين، والمحلات على الجانبين تبيع كل شيء، وجدت بائع صحف بفرش محدود، على قفصين من جريد النخل، فتوقفت عنده لأمسك بمجلة ملونة أول مرة أراها، اشتريت العدد بعشرة قروش، واحتفظت به إلى اليوم.

 

   العدد ٢٥٠ من مجلة العربي، عدد شوال ١٣٩٩هجري- سبتمبر (أيلول) ١٩٧٩م، رئيس التحرير هو أحمد بهاء الدين، أما فهمي هويدي فقد كتب مقالا بعنوان "بين الدين والسياسة" سأتابع ما يكتب بعد ذلك على مدى سنوات تحت العنوان الثابت "للمناقشة" سيُكتب على الترويسة بعد ذلك أنه مدير تحرير المجلة. أما تحقيق العدد المصور فقد جاء تحت عنوان "ممر خيبر" وعلى غلاف المجلة صورة رجل طويل الوجه بلحية طويلة كثة ونظارة طبية، وعمامة بيضاء كبيرة وكتب تحتها "العربي تذهب إلى ممر خيبر، أحد الحدود الإسلامية الملتهبة" هذا هو تحقيق العدد الذي يقع في منتصف المجلة، الصفحات من ٦٨ -٩١ والعنوان في الداخل "ممر خيبر: التاريخ حيا! استطلاع بقلم فهمي هويدي، تصوير صلاح آدم.

    مصادفة غريبة أن أمُرّ في شارع جمال الدين الأفغاني، ثم أقرأ وأنا في سن الثامنة عشرة، في مجلة اشتريتها منه، عن شعب "الباتان" الذي يبلغ عدد سكانه وقتها عشرة ملايين، وهم قبائل تعيش بين أفغانستان وباكستان، و"ممر خيبر" هو المدخل الجنوبي لأفغانستان من ناحية باكستان، لقد كتب فهمي هويدي (مواليد ١٩٣٧ ويصنف كاتب سياسي إسلامي) يقول "لا أخفي أنني كنت واحدا ممن جذبهم ممر خيبر دون غيره، كانت هي الهدف الذي سعيت إليه، ومنذ هبطت بنا الطائرة في كراتشي، فتشت وسط الرطوبة الخانقة عن كتاب  تشارلز ميلر "خيبر- قصة الجبهة الشمالية للهند البريطانية"

  بمراجعة شبكة الإنترنت نعرف أن الكتاب الذي يشير إليه فهمي هويدي نشر بالإنجليزية في يناير ١٩٧٧م، عنوانه Khyber: British Indian's North West Frontier, by Charles Miller كان كتابا حديثا،  يشير الكتاب إلى جبهة وحرب، لذلك وضعت دار النشر صورة جندي بخوزة على رأسه، على غلاف الكتاب.

 

  نقرأ في المجلة " وما كدت أقرأ السطور الأولى حتى وجدت المؤلف يتحدث عن "بشاور" وكيف انطلق منها الضابط البريطاني "ألفينستون" أول إنجليزي يدخل المدينة عام ١٩٠٨- ليعبر ممر خيبر، برسالة من حكومة جلالة الملك إلى ملك الأفغان في كابل"

  إن ممر خيبر لم يكن له اسم، بل كان مجرد طريق مترب يتلوى وسط تلال هضبة سليمان، كان للمدينة اسم مسجل في المدونات الأولى لتاريخ المنطقة هو "قندهار". يا للهول دائما هناك ما يذكرنا بأفغانستان، الشارع يحمل اسم جمال الدين الأفغاني الذي كان يوزع الثورة باليمين والسعوط باليسار على قهوة "متاتيا" في شارع محمد على في قاهرة القرن التاسع عشر، وأصبح أستاذا لسعد زغلول وأحمد لطفي السيد ومحمد عبده، والحشد المروع المسمى "جمعة قندهار" التي قادها السلفيون في قاهرة القرن الواحد والعشرين، ووصفتها بعض الصحف بأنها "محاولة لأفغنة مصر"، وأعلام "القاعدة" التي ظهرت في شوارع القاهرة في صيف ٢٠١٣، ما كل هذا الذي يذكرني به العدد ٢٥٠ من مجلة العربي الكويتية؟

  في التحقيق الصحفي المصور ذكر فهمي هويدي أنه كان حريصا على مقابلة شيخ قبيلة "أفريدي" الذي هو ملك حقيقي، له سلطة وليس له تاج، وبيته في قرية "مسجد علي" رعاياه حوالي مليون شخص، ويقول عنه فهمي هويدي "إنه عمليا يكاد يكون في وضع مساوٍ لحكام بعض إمارات النفط، إذ إن رعاياه في حجم أي إمارة نفطية محترمة وموارده غير محصورة" هذا الحاكم اسمه "حاجي ملك رحمن" وقد حج بيت الله الحرام مرتين، ولقب الحاج له قدسية خاصة تقدمه على أية ألقاب دنيوية أخرى، حتى ولو كان اللقب هو الملك.

  قبيلة أفريدي المسئولة عن المرور والحماية في ممر خيبر، تتبع شعب الباتان، وهم يمتلكون الأسلحة و يتاجرون فيها، بل إنهم برعوا في صنع الأسلحة مقلدين تقليدا بارعا الأنواع كافة من بنادق ومسدسات، وزعيم القبيلة هذا هو القاضي أيضا، يطبق الشريعة الإسلامية على قدر معرفته، والقِصاص هو أكثر أحكام الشريعة نفاذا وشيوعا. ثم إن هؤلاء القوم لهم بيوت مصممة بأسوار، ولا يسمح للغريب بالتحدث إلى النساء قط، هذه تقاليد، وهي أقوى من كل نصوص الشريعة، البنت تتزوج ابن عمها، أوابن قبيلتها على أسوأ الفروض.

*****

   في نهاية المقابلة التي أجراها فهمي هويدي مع "حاجي ملك رحمن" أراد زعيم قبيلة الأفريدي أن يسأل هويدي سؤالين، فوجه حديثه إلى المرافق الذي كان يتولى الترجمة من البشتو إلى الإنجليزية، قال: اسأله "لماذا عجز العرب بكل أعدادهم ودينهم الذي يحث على الجهاد، وأموالهم وسلاحهم عن هزيمة إسرائيل واستخلاص حقهم منها؟ وأضاف متعجبا "ألا يوجد عند العرب مجاهدون؟" 

    لقد كان السؤال الساخر لملك قبيلة الأفريدي البشتوني، أحد أسباب تذكري للعدد ٢٥٠ من مجلة العربي الكويتية، ذلك أنني بعد ذلك بعام واحد، سوف أقابل في شارع عثمان محمد وعلى بعد خطوات من كلية الآداب في طنطا، بعض المجاهدين الأفغان بزيهم الذي رأيته على غلاف المجلة، ولكن العمامة لم تكن كبيرة كما في الصورة، كانوا يتجولون حول مستشفى الهلال الأحمر في طنطا، فهم من جرحى الحرب في أفغانستان، الذين كتبت عنهم مجلات الإخوان المسلمين وسمتهم "المجاهدون" بل أطلقت على فئة منهم وصف "الصحابة". كما أنني سأعرف بعد ذلك بعشرين عاما أن فلاحا غِرّا ملولا، من قريتنا اسمه محمد المتولي، قد ذهب من السعودية إلى أفغانستان، فانضم لصفوف المجاهدين هناك.

   أما السؤال الثاني الذي أراد "حاجي ملك رحمن" أن يوجهه لفهمي هويدي، فلم يكن سؤالا ساخرا، بل كان مضحكا، سأل "هل حقا ستقوم القيامة في القرن الخامس عشر الهجري، الذي يبدأ قرب نهاية هذا العام. هل عند العرب علم بهذا الأمر الذي يؤكده رجال الدين والشيوخ في مناطق الحدود" أجاب هويدي "إن ذلك علمه عند الله... ولا أحد من العرب أو العجم يستطيع أن يعلم بهذا الخبر مسبقا... فهز الرجل رأسه وسكت. ثم أضاف الرجل ملاحظة هي أنه خلال رحلة الحج، لاحظ أن أكثر العرب المسلمين يتصرفون مثل الفرنجيز، وأوضح المترجم أن الرجل يستخدم كلمة الفرنجيز لمن يقلدون الغرب شكلا ومضمونا، والكلمة مزج بين كلمتي فرنجة وإنجليز، فمن يفعل ذلك - حتى من أبناء شعب الباتان - فقد صاروا فرنجيز والعياذ بالله.

    الاستطلاع المصور الذي كتبه الأستاذ الكبير فهمي هويدي، كان أول ما قرأت له، لكنه لم  يكن الأخير، فقد دأبت على قراءة موضوعه "للمناقشة" في مجلة العربي لسنوات طويلة، ثم اعتدت أن أقرأ مقاله الأسبوعي في جريدة الأهرام، كما اقتنيت بعض كتبه، ومنها كتابه عن طالبان، وكتابه المسلمون في الصين، وكنت طوال الوقت أرى في فهمي هويدي كاتبا مجيدا، لذلك وأنا معيد في الجامعة أعلن نادي أعضاء هيئة التدريس عن محاضرة عامة وإفطار جماعي، فلم أتردد في الاشتراك في الإفطار، حين علمت أن المحاضر هو فهمي هويدي، لكني يومها تعجبت لشيء حدث، وهو أن فهمي هويدي هو الذي أمّ الحضور في صلاة العشاء التي عقدت في النادي قبل بدء المحاضرة.

 لماذا أمّ هويدي المصلين في جامعة طنطا؟ ولماذا وصف الحدود السياسية بين أفغانستان وباكستان أنها "حدود إسلامية" ؟  وهل كان ذلك مصادفة؟

*****

  لقد كان من المفارقات المؤسفة أن الرئيس أنور السادات (حكم ١٩٧٠- ١٩٨١م) الذي قاد الجيش المصري للنصر في معركة بالأسلحة الحديثة، هي حرب أكتوبر ٧٣، وصفت أحيانا بأنها أول حرب إلكترونية في التاريخ، كان السادات هو نفسه عرّاب "الصحوة الإسلامية" منذ مقابلته مع الشيخ عمر التلمساني (١٩٠٤-١٩٨٦م)  بل نافس الإخوان المسلمين فأنشأ مجلة "العروة الوثقى" وسبقهم فناصر "الجهاد الإسلامي" في أفغانستان، ظنا منه أنه يصنع بديلا للقومية العربية التي نسبت لجمال عبد الناصر، كأنها من اختراعه.   لقد حلل الدارسون مجموع ما صدر عن السادات، وأثبت التحليل ما انطوى عليه خطابه من خداع مدروس، وخاصة فيما يخص مفهوم الرئيس الأب للعائلة، والرئيس المؤمن، وغيرها من ألقاب اصطنعها لنفسه، وظل يصدقها حتى يوم الغدر به من أهل "الصحوة الإسلامية" فقتلوه.

   حينما نعود اليوم ونتأمل فيما جرى وطبخ واستوى على مهل، تحت العنوان الشهير "الصحوة الإسلامية" سنجد أن فهمي هويدي بعد عام ١٩٧٩ حاز مكانة مرموقة بين كتاب العالم العربي، سواء في جريدة الأهرام، أم في مجلة العربي، أم في صحف الخليج العربي، لكن مسألة أنه كاتب ومفكر إسلامي لم تكن واضحة في تلك السنوات البعيدة.

  وفي عام ٢٠٠٢ نُشر كتاب بعنوان "ذكريات عربي أفغاني، أبو جعفر المصري القندهاري" لمؤلفه دكتور أيمن صبري فرج،  وبعد نشر الكتاب أجرى الكاتب الصحفي سعيد الشحات حوارا مع مؤلفه نشرته جريدة العربي الأسبوعية التي كان يصدرها الحزب الناصري. وأنا مثلما احتفظت بمجلة العربي احتفظت بالجريدة، وقد دهشت اليوم إذ كنت أراجع ذلك الحوار فوجدت سعيد الشحات يسأل أيمن فرج القندهاري السؤال الذي سأله زعيم البشتون لفهمي هويدي "ألم تفكر في أن الجهاد في فلسطين أحق؟" لكن أيمن فرج عرف كيف يجيب على السؤال الذي لم يجب عنه فهمي هويدي، فقال إن الفلسطينيين أنفسهم كانوا معنا في أفغانستان وخاصة الشيخ عبد الله عزام" ومن إجابات المجاهد على أسئلة أخرى نفهم أن الجهاد هو هدف في ذاته، وأن إخراج اليهود من فلسطين ثم تسليمها لعرب شيوعيين، لا يمكن أن يكون إلا حرثا في البحر.

   أما فهمي هويدي فقد كتب مقدمة لكتاب أيمن فرج المذكور، جاء فيها "إن أخشى ما أخشاه بعد الذي جرى أن ترتفع الأصوات ذات يوم داعية إلى الجهاد، ولا تجد مجيبا، وأن تحتاج الأمة في ذلك اليوم إلى مجاهدين مستعدين للتضحية بحياتهم، فتواجه بالإعراض والخوف من مظنة الاتهام والإدانة" والسؤال: فأين هو الفرق بين نظرة أيمن فرج القندهاري  للجهاد؟ ونظرة الكاتب الكبير فهمي هويدي للجهاد؟

*****

   إن العوامل المؤثرة في نمو ظاهرة الإرهاب، عوامل كثيرة متعددة، حتى أظهرت دراسات حديثة تأثيرا لتغير المناخ وارتفاع درجة الحرارة، على نمو الظاهرة في بلدان أفريقية، ولذلك لا يمكن النظر من منظور واحد إلى هذه الظاهرة المركبة، التي خلقها مفهوم "الصحوة الإسلامية" ومفهوم "الجهاد الإسلامي" وهما أكذوبتان فادحتان، لكن تبني رؤساء دول مركزية مثل مصر لرؤية الصحوة الإسلامية ولمفهوم الجهاد الإسلامي، كان خطيئة كبرى. كما أن مشاركة مثقفين وكتاب كبار، مثل فهمي هويدي بالترويج لفكرة الجهاد الإسلامي على مدى عقود، لا يمكن أن يكون بلا وزن في الحساب النهائي لما جرى وكان.

   يقول المثل العربي "الرائد لا يكذب أهله" ونحن حين نتأمل في مواقف كل من فهمي هويدي الكاتب، وأيمن فرج الجهادي، ومحمد المتولي الفلاح – وجميعهم مصريون مسلمون- وتشارلز ميلر المؤرخ الأمريكي، نجد أن الأول كان واعيا للخدعة بل صانعا لها، والثاني والثالث كانا مغفلين مخدوعين، أما المؤرخ الأمريكي تشارلز ميلر، فقد رصد في كتابه الوضع في جبهة رأت بلده أن لها مصالح هناك فكتب كتابه منحازا لثقافته، فهو الرائد الذي لم يكذب أهله، وقد يكون الأفغان وقبائل البشتون كرهوه، كما كرهوا كل أوربي، أو أمريكي أراد أن يعتدي على ثقافتهم، وهم على حق، فقد بدا ميلر وهو يكتب مثل جندي الاستطلاع (الرائد) أما فهمي هويدي وهو يكتب "استطلاعه" المصور عام ١٩٧٩ وفيما تلاه بعد ذلك، فقد بدا مثل "من يبيع الماء في حارة السقايين" ولو لم يسأله الزعيم البشتوني أسئلته الساخرة والمضحكة، لما علق في ذاكرتي ما كان من أمر هذا العدد من مجلة العربي العريقة التي تهاوت الآن من حالق، كما تهاوت الصحوة الإسلامية معها.

  هل من درس يذكرنا به العدد ٢٥٠ من مجلة العربي الكويتية ؟ الدرس هو أن ندرك فداحة الثمن، الثمن الذي دفعناه جميعا، تحت سطوة مفهومي "الجهاد" و"الصحوة الإسلامية". هذا الجهاد وهذه الصحوة ، جعلتنا كما يقول أيضا المثل العربي القديم " مثل المُنْبتّ، لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى" لقد سددنا غاليا ثمن الغفلة من ناحية، وثمن الخداع من ناحية أخرى، وما أفدحه من ثمن!!










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة