صدر للدكتورة عزيزة الطائى كتاب بعنوان "السرد فى قصيدة النثر العمانى" كتاب تناولت به تاريخ قصيدة النصر في سلطنة عمان، وكتب الدكتور سمير محمود عن الكتاب قراءة بعنوان "قصيدة النثر العمانية بين الحضور السردى والشعرى".
أين تقع قصيدة النثر العمانية من مسيرة الشعر العربى وقصيدة النثر فيه؟ وهل تختلف المحاولات الشعرية الأولى فى خمسينيات القرن الماضى عما ظهر بعدها من تجارب فى السبعينيات؟ وما مدى اقتراب قصيدة النثر العمانية من بيئتها وواقعها؟ ومدى التداخل بين السردى والشعرى، وماذا فعلت الأجيال الشعرية المتعاقبة فى بنية قصيدة النثر وهل أنعكس ذلك على تطور النص الشعرى العماني؟ هذه بعض الأسئلة التى اشتغلت عليها لسنوات الكاتبة والناقدة الأديبة الروائية العمانية الدكتورة عزيزة الطائي، فى أحدث كتبها بعنوان " السرد فى قصيدة النثر العمانى أشكاله ووظائفه" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
الدكتورة عزيزة الطائى
تقول المؤلفة عن هذه التجربة: انطلاقًا من اهتمامنا بالسّرد العُماني، واشتغالنا على نماذج منهطوال سنوات مضت، تشكل تساؤل عند دراستنا للأجناس السّردية مفادها أنّ السّرد، وعلى خلاف ما راج فى الدّراسات الإنشائية المعاصرة عن طبيعة "النّثرية وافتراقها عن قوالب الشّعر" وأنّ النّثر ليس قابلًا للانصهار فى البنية الشّعرية، أو الخضوع لمقتضاياتها فحسب، بل إنّه يغدو – أى السّرد- بنية يستند عليها الشّعر لبلورة موضوع مادته عند صناعة الصّورة الشّعرية، وإنتاج الحكاية الشّعرية.
رواد قصيدة النثر
كانت قد برزت عدة أسماء فى الخمسينيات فى قصيدة النثر العربية فى الفترة من (1954- 1993) منهم جبرا إبراهيم جبرا، توفيق صايغ، أدونيس، محمد الماغوط، مظفر النواب، أنسى الحاج، شوقى أبى شقرة، سركون بولص، عزالدين المناصرة، بول شاول، سليم بركات، عباس بيضون، بسام حجار، عبدالقادر الجنابي، وديع سعادة، وقد تولّدت رغبة لدى الكاتبة فى بحث هذه القضية من رأى تحصل عليه عند متابعتها للمُنجز الشّعرى فى عُمان، ومواكبته لمنجز الشّعر العربى المعاصر بأنواعه وتطوره؛ لاسيما فى نماذجه التى أسهمت فى بناء شعرية مختلفة للّتى كرّسها الأسلاف المباشرون لتأسيس حركة قصيدة النثر منذ بداية الخمسينيات وحتى مطلع التسعينيات على يد روّادها؛ يضاف لها مؤسِّسَين عمانيَّين هما: سماء عيسى وسيف الرحبي، ويتمثل هذا الرأى الذى خرجت به الطائية فى أنّ النزوع إلى تسريد الخطاب الشّعرى الحداثى فى الممارسة الشعرية المقاربة عند نظمها أدّى إلى تجديد الأساليب الفنية، بل إنه قد أسهم بدور بارز فى ذلك، وهو ما أفرز بالتدريج شعرية مغايرة للنّماذج السّائدة فى المنجز الشّعرى لقصيدة النّثر فى عُمان.
تسريد قصيدة النّثر
تشير الكاتبة إلى إنّ توظيف الشّعر للسّرد ظاهرةٌ ليست بجديدة، وتكاد تكون ثابتة فى المدوّنة الشّعرية العربية قديمها وحديثها، كما إنّها حاضرةً أيضًا فى أشعار الأمم الأخرى. ولقد أفضى بنا التّقصّى فى تسريد قصيدة النّثر العُمانية التى تميزت منذ القدم بهذا الحضور لما هو شعرى فى تعالقه المتين مع ما هو سردي، بل هناك هيمنة واضحة للسّرد القصصى كمقصورة ابن دريد –إن صنفناه عمانيا-، كما توجد إشارات رمزية كثيرة لقصص وحكايات متكاملة، أو شذرات قصصية ضمن القصائد لشعراء عمانيين. ونبدأ مع شعراء دولة اليعاربة كنص المسحورة الذى أورده نور الدين السالمي، وفى عصر النبهانة مقصورة سليمان بن سليمان النبهاني، وشذرات قصصية عند أبى بكر أحمد بن سعيد الخروصى الستالي، وفى عصر الإمامة ودولة البوسعيد صاغ الشعراء شذرات قصصية كالتى نجدها عند أبى مسلم البهلانى الرواحي. كما أنهم أرخوا لرحلاتهم شعرًا مثل: عامر بن خميس المالكى لما حكى رحلة عيسى بن صالح الحارثي، ومحمد بن عيسى أبو الفضل حكى رحلات والده، وسعيد بن حمد الحارثى حكى رحلاته التى قام بها، وفى العصر الحديث نجد مقاطع قصصية عند عبدالله بن على الخليلي، وعبدالله محمد الطائي.
جرأة التجريب والتحديث
الاعتبارات السابقة دفعت الكاتبة إلى البحث فى غِمار بدايات تشكل قصيدة النثر العمانية، خاصة أنّ ظهورها تزامن مع ظهور ريادتها عربيًا، أى فى بداية السبعينيات على يد سماء عيسى فى ديوانه "امرأة مثل ماء الينابيع"، وتلاه سيف الرحبى فى ديوانه "نورسة الجنون". إنّ هاتين التّجربتين تفضيان إلى أنّ بناء قصيدة النّثر على السّرد، وتركيزها على الصّور والمشاهد والقصصيّة يقتضى منّا الوقوف عندها، والتّعامل معها لنتمكن من الخروج بجملة من الخصائص تعيننا على الخروج بمجموعة من الصّور التى تنسج قوالب سردية داخل الشّعر. ولاحظنا أنّ قصائد النّثر فى عُمان منذ بدايتها، وحتى الآن تشكل بحدِّ ذاتها منظومة تستحق التّتبع والدّرس، إضافة إلى ما تميز به خطابها من أنساقٍ ثقافيةٍ "يلتقى فى كثيرٍ منه مع السّياق الثّقافى الذى تشكلت فيه قصيدة النثر العربية". وقد اهتدينا إلى ضروبٍ من دواوين لشعراء تجسّم قصائدهم هذا التّفاعل بين الشّعرى والسّردى فى آن، ولاحظنا قدرة الشّاعر العُماني، وجرأته على الخوض فى غمار التّجريب والتّحديث.
تأتى مساءلة قصيدة النّثر العُمانية من منطلق رؤية التّداخل بين الشّعرى والسّردى فيها، وهو فى حقيقة الأمر مساءلة نقدية لحضور الشّعرية بوجه عام، شعرية تتماهى فيها القصيدة العُمانية مع حركية القصيدة العربية وتطورها مشحونة برؤى الحياة، وخلخلة القيم المتوارثة مع نسيج السّياق الثّقافى العربي؛ هكذا تتناسل القصيدة العُمانية، وتتجدد مع عاصفة تغير بُنى القصيدة، واختراق بنائها بشكل عام، وإعادة بناء قوامها بحلية جديدة تحكمها علاقة داخلية تمثّلت بالذّات المتشظية مع نفسها، وأخرى خارجيةً بتفاعلها مع المحيط حولها بما هو معرفى وثقافى وإنسانى ووجودي؛ وبهذا استطاعت القصيدة العُمانية على غرار القصيدة العربية تحطيم الثّوابت، وإعادة بناء خصائصها الفنية، وإنتاج ثيماتها الموضوعاتية التى تتسق مع الحياة الجديدة بما فيها من كينونةٍ شعريةٍ.
حرية النثر وصّرامة القصيدة
تحاول الكاتبة توضيح الخيوط الواصلة والفاصلة بين السرد والشعرية مؤكدة غلبة الشعرى على العموم فتقول، غدت قصيدة النّثر تتمازج فى حركية تفاعلية بين الشّعرى والسّردى بقالبٍ رصينٍ، مراهنةً على إعادة بناء روابط القصيدة بالذّات والمجتمع والتّاريخ والإنسانية جمعاء من أجل ترسيخ حضورها بفاعليةٍ جوهريةٍ تعيد لها اعتبارها باختلاف الذّوات النّاطقة، وتنوع النّصوص فى تمظهراتٍ حكائيةٍ متناسقةٍ مع أنساق العلاقات والتّناصّات والمتضادات والخطابات المتباينة فى المتن الشّعرى المبنى على النّسق السّردي، والحقيقة أنّ جمالية قصيدة النّثر لا تكمن فى شكلها، بل فى جوهرها القائم على "الصّراع بين حرية النثر والصّرامة المنظمة للقصيدة، وبين الفوضى المدمرة والفن للأشكال، وبين الرغبة فى الهروب من اللغة وضرورة استخدام اللغة"، وهى بهذا تتأسس على اتجاهات مختلفة تسعى فيها الرّوح الشاعرية إلى تحطيم الشّكل الشّعري، وصناعة الشّكل الجديد فى آن واحد؛ للوصول إلى "المجهول والمطلق" فى قصيدة النثر.
بنية بلاغية ووظيفة لغوية
دراسة الدكتورة عزيزة أثمرتْ عن نتائج ورؤى انصهار خطابين أدبيين بارزين وانتظامهما فى خطابٍ واحدٍ، لكلٍّ منهما خصائصه ومقوماته موضوعيًا وفنيًا، هما الشّعر والسّرد. ولقد نهلنا من رؤى الأبحاث الإنشائية المعاصرة التى حاولت التّمييز بينهما، ورأينا أنّ حدود الافتراق والالتقاء ماثلةٌ بينهما فى مظهرين: الأول، سمات البنية البلاغية لكلا الخطابين وانعكاسها على البنية البلاغية لكلٍّ منهما. والثاني، يتعلق فى الوظيفة اللغوية المهيمنة فى كلٍّ منهما، "فالشعر الذى ينزع إلى تكرار المتماثل يعتمد التّرابط بالمشابهة، وهو ما يجعل منه مجالًا ملائمًا للأسلوب الاستعاري، فى حين أنّ السرد الذى يعتمد على التّرابط بالمجاورة يوافقه المجاز المرسل". ولقد لاحظنا أنّ تمتّع الخطاب الشعرى بوظيفةٍ إنشائيةٍ تمنحه الرّمز والغموض، بينما الخطاب السّردى يتأسّس على الدّلالة التى تفضى إلى الإفصاح والإفهام، لذلك تسيطر الوظيفة المرجعية على لغته وأسلوبه.
سمات خاصة جدًأ
خلصت الكاتبة لعدة سمات تميز قصيدة النثر فى عُمان، لعلّ أبرزها:
- إنّ قضية تسريد القصيدة الشعرية ليس بجديدٍ على الشاعر العماني، فقد نظم أسلافه قصائد طويلةً جسّدوا فيها الحكاية بأسلوبٍ سينمائى دراميٍّ، يعتمد على تمثيل الصور، وتوظيف الرمز الحكائى فى قالبٍ إيقاعى منح القصيدة انسابية السبك الإيقاعي، والوحدة العضوية للسرد.
- إفادة الشاعر العُماني، بل تأثره بمعطيات البيئة الجغرافية المتنوعة فى عُمان، وتمثلها بشكلٍ يجعل من المكان بطلًا فى أشعاره.
- توظيف الرموز التراثية، واستثمار الوقائع التاريخية وربطها بواقع الحال، عبر مستويات اللغة الشعرية وهندسة تراكيب تكوينها فى انتظامٍ سردى يكشف الانفتاح على أنواعٍ سرديةٍ تفاوتت بين المرجعى والتخييلي.
- استثمار طاقةٍ متنوعةٍ من المخيال لإنتاج صورٍ شعريةٍ تخترق فضاء الواقع، كاشفةً عن هشاشته وقشوره مما حدا بالقصيدة الكشف عن المعقول واللّامعقول من عوالم من الحياة اليومية.
- تحويل السّرد بنسقيه (المرجعى والمتخيّل) إلى نسقٍ شعريٍّ، وإخضاعه للهيمنة الإنشائية.
- قارب الشّاعر لغة الحياة اليومية فى أدق تفاصيلها وأشيائها وحضورها ومعطياتها.
- استثمار النظام الرقمى ومساحة الدلالات، وعلامات الترقيم، والفراغات البيضاء، وأحرف الربط مما عزز التشكيل البصري، ودلالات المعاني، وإيحاءات التراكيب لإفهام المتلقى والسير معه لإيصال الفكرة المنشودة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة