ناهد صلاح

الشر شرق وغرب داخل في حوشنا

الأربعاء، 19 أغسطس 2020 07:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ذات مرة تخابثت على الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، فقلت له: المبدع لا يبدع أعمالاً عظيمة على الدوام، إنه يجرب أحياناً، يشطح أحياناً، يخضع لقوانين السوق أحياناً، يقوم ببعض التدريبات العلنية أحياناً، فليست كل أعمال دافنشي في مستوى "الموناليزا"، وليست كل أعمال نجيب محفوظ في مستوى "الثلاثية"، وأيضاً ليست كل أعمال أسامة أنور عكاشة في مستوى "ليالي الحلمية مثلاً"..، استمع لي بإصغاء لافت؛ ثم رد مبتسماً كأنه ينفض هماً قديماً عنه: لم أعتبر أبداً "ليالي الحلمية" هي الأفضل، حكمي عليها يختلف، وإن كان حكم الناس، بما أنهم الموجه إليهم العمل، هو الأصدق ولابد أن أحترمه، إنما أنا كاتب لي موقف من كتاباتي، فأعتز بأشياء معينة أشعر أنها تقترب من المفهوم الذي أكتب من أجله للتليفزيون وهو خلق نص يرقى إلى مستوى الأدب، قد تكون أجزاء "ليالي الحلمية" بكل ماحققته من نجاح أشهر عمل لي، لكن هناك أعمالاً أخرى أراها أهم من الناحية الفنية، سواء على مستوى النص والكتابة، منها: "وقال البحر، عصفور النار، الراية البيضاء، زيزينيا، حتى الشهد والدموع".

 لا أعرف لماذا تستدعي ذاكرتي الآن هذه القصة بالذات، هل يمكن أن يكون ذلك تحايلاً للنظر إلى الوراء، كسفر عابر بين مرحلتين؟ أم اصطياداً للحظة طمأنينة قبل عناء المعرفة بأنه عما قليل سيكون لنا حاضر آخر، وحضور أسامة أنور عكاشة تحديداً في بالي، ليس حلاً متلهفاً لهموم وجودية، بقدر ما هو دلالة ناصعة على افتقاده في زمننا الحالي، كاتب انتقل من زمن نحو آخر، ثم ذهب حراً إلى أبعد من صراع في عقولنا ورؤسنا؛ بين الدراما المستهلكة أو السطحية التي ترميها الشاشات والمنصات، إنه افتقاد دائم لصاحب "الحلمية" الذي اقتفى فيها التاريخ المصري من قبل ثورة يوليو 1952، مروراً بكل التحولات اللاحقة؛ مصرياً وعربياً، وصولاً إلى غزو العراق للكويت كجرح غائر في قلب العروبة المعاصرة، ترى لو كان أسامة لازال على قيد حياتنا المبتلية، وعاش معنا تقلباتها المرعبة، هل كان سيمشي على مهل إلى آخر الحدث، أم يمشي مذعناً ويتحدث عن عطش الحنين لأزمنة مضت، أم يوقد النار في كل الحكايات ثم يرحل؟!

  لا  أمتلك إجابة عليمة؛ لكني أعرفه كاتباً كان يطمح لما هو أكبر، كـ"دراماتورجي"؛ صانع للحدث ومتتبع للتاريخ في خطه الإنساني على نحو مذهل لكتابة تمنح شعوراً مدهشاً بالسكينة، على الرغم من أنها مفتوحة على الألم والأسئلة المتأرجحة للأبد، كسؤال الهوية؛ وهو من الأسئلة المكلومة في زمن الطوفان الذي نعيشه مستسلمين لكل التداعيات، حتى أنه لو خطر ببالك مجرد التفكير في طرحه، تبدو كما لو أنك فتحت مطواة قرن الغزال في وجه من أمامك؛ ستجد عاصفة من الهيستيريا الجماعية تتهمك بأنك ضد حاجة الإنسان إلى توسيع جسور اتصاله مع العالم، فلا تملك سوى السكوت أو التساؤل: هل هؤلاء متحولون أم أنك في عداد اليائسين، المكبلين بأحلام الماضي الجامحة.

 "الشر شرق وغرب داخل في حوشنا، حوشوا.. لا ريح شاردة تقشقش عشوشنا"، ليس أدل من هذه الكلمات على أحوالنا وتغيرات تمر بنا دون أن ننتبه ولا ندري بها حتى تتشتت التفاصيل، ولا يبق سوى صوت في الصدى : "وندور، نلف ما بين حقيقة وظنون"، كلمات سيد حجاب التي لحنها عمار الشريعي وغناها حسن فؤاد في مقدمة مسلسل "أرابيسك" (1994) إخراج جمال عبد الحميد، إنها مدخل التأمل في الحالة التي راعها عكاشة لملأ الفراغ التاريخي والجغرافي، محاولة لوضع المكان الصحيح في الزمن الصحيح، من خلال شخصية حسن النعماني صاحب ورشة الأرابيسك، ابن البلد، الشهم، الذي يذهب إلى أقصى الالتباس في سؤال الهوية: هل يمنح الفيلا التي يتولى تجديدها، الطابع العربي، الإسلامي، القبطي، الفرعوني؟ إنها اللمحة المراوغة لبلد مفتوح على كل ذلك، فأي طابع يستجيب لها؟ الكل يستجيب ويدور في مراياها؛ إنها النتيجة التي يمنحها المسلسل وهو متعب من البحث وراء نقطة بديهية صنعت الروح المصرية.

 إنها نفس النقطة التي تبدأ بها أحداث مسلسل "زيزينيا" بجزأيه (2997 – 2000) إخراج جمال عبد الحميد، في ظاهرها تحكي عن الاسكندرية الجامعة للأجانب إيطاليين ويونانيين وغيرهم بجوار أهل البلد من المصريين في الأربعينيات، نموذجه في هذا الجمع هو بشر عامر عبد الظاهر المصري من أم إيطالية، موزعاً بين جذوره المصرية ومحاولة والدته وخاله اجتذابه إلى قسمه الإيطالي، وفي باطنها يتغلغل سؤال الهوية المصرية، سعى عكاشة إلى إجابة لأسئلته التي طرحها في نهاية مسلسل "أرابيسك"، أسئلة الهوية وتأصيل الذات والبحث عن الشخصية المصرية ومكوناتها، ربما كان المسلسلان المذكوران الأكثر وضوحاً وارتباطاً بفكرة الهوية؛ لكن عكاشة مهموماً بها بتنويعات مختلفة في مجمل أعماله، مثلاُ "أبواب المدينة" (1981) ﺇﺧﺮاﺝ فخر الدين صلاح، أو "بوابة المتولي" (1994) إخراج فؤاد عبد الجليل، "أهالينا" (1997) إخراج إسماعيل عبد الحافظ، "أبو العلا البشري" بجزأيه إخراج محمد فاضل، "المصراوية" بجزأيه إخراج اسماعيل عبد الحافظ، حتى في أفلامه السينمائية القليلة ومنها "كتيبة الإعدام" (1989) إخراج عاطف الطيب.

  أسئلته المخضبة بوجع الهوية خرجت من الدراما إلى كتاباته الصحفية وأثارت الجدل، حتى أن البعض اعتبرها انقلاباً على تاريخه، وتوجهه العروبي، نسجوا الاتهامات القاسية خيطاً فخيطاً، دون أن يجسوا نبض الخسارة التي مر بها أسامة أنور عكاشة، الغاضب، فهو العروبي المنكسر في أحلامه، أسامة ابن الستينيات وأحلامها النهضوية تجربته كانت دليله على حاجته وحاجتنا على استرداد الدور العربي، وما نمر به من أحداث عجيبة الآن دليل على البؤس و"خيبة الأمل راكبة جمل"، لكن كما قال شاعرنا الكبير سيد حجاب في ليالي الحلمية: "أقسى همومنا تفجر السخرية".

 










مشاركة

التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

السعيد

أنت رائعة... سيدتي!

أنت رائعة... سيدتي! ليس لدي المزيد!

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة