فجأة ومن دون مقدمات انفجر فساد النظام السياسي في لبنان ضاربا اسس المعادلة التي رسختها تسوية كانت اصلا مجرد هدنة طويلة تمهد لقيام دولة حقيقية، لكنها ضاعت في لعبة حسابات الذين اخطتفوا الطوائف كي يتسيدوا الدولة.
فجأة انهارت كل الكيانات السياسية الوارثة معادلات الحرب، وبدلا من ان يرتقي زعماء التسوية الى المستوى الذي يتطلبه حدث مأسوي من نوع انفجار مرفأ بيروت، ظهروا بصورة المغامرين الصغار المراهقين، فايقظوا احقادهم وشياطينهم كي يستغلوا دماء الناس وخراب العاصمة في تحقيق اوهام، لكنهم اصطدموا بان لا احد في هذا العالم على استعداد لمجاراتهم، بل ان العالم في مكان اخر، ابعد منهم، حتى المستفيد الاول من كل ازمة في لبنان، اعني اسرائيل، ليس في وارد ان يلعب على تلك التناقضات، لذلك سقطت الى حين فرضية استعادة 14 شباط( فبراير) 2005 بالسعي الى لجنة تحقيق دولية تولد منها محكمة تحت الفاصل السابع من ميثاق الامم المتحدة تحاكم خصمهم، بعدما فشلت المحاولات طوال عشرة اعوام من استغلالهم الحرب في سورية.
في المقابل كان الطرف الاخر يسعى الى تثبيت معادلة جديدة، وهي الامساك بالنظام السياسي، الذي يسمى في لبنان مجازا الدولة، لكنه ايضا فشل، لانه ليس بالقو التي يعتقدها لمواجهة الظرف الطارىء.
في لحظة ما ارتفعت اسهم الرهان على المنقذ الفرنسي ايمانويل ماكرون، ورسمت له صورة القديس الذي سيخلص لبنان من براثن الوحوش، ويقدم الدولة على طبق من فضة الى"الابرياء الاتقياء السياديين الانقياء" الذين اغرقوا الدولة في التبعية للخارج تحت هذا الشعار، فيما رأى الطرف الاخر فيه نافذة على فك عزلة دولية عن منظومته الحاكمة، مباشرة او مداورة، والفرصة التي تعيد تنظيم الخلاف بما يتناسب مع الحفاظ على ما يعتقده مكاسب.
ماكرون جمع اللاعبين الصغار في قصر الصنوبر، ولمن لا يعرف فان لهذا القصر رمزية اذ منه اعلن لبنان الكبير، الذي جرى تصغيره مع الايام، وهو ايضا ارض فرنسية، تكاد تصل مساحتها الى ثلاثة في المئة من مساحة بيروت الادارية، وفرنسا الصغيرة في بيروت، تمتد حدودها لتجاور كل المكونات المتخاصمة سياسيا، شرقا وشمالا وغربا وجنوبا، وخلف القصر هناك كانت نقطة التفاوض على الهدن بين المتحاربين في الحرب اللبنانية.
هذه المفارقة لها ما لها في لبنان، لذلك خرج الذين تحلقوا حول الطاولة المستديرة في القصر العتيق، يجرون اذيال خيبتهم، فالسياديون الذي يبيعون السيادة على مفترق الاستعانة بالخارج عند كل صغيرة وكبيرة، وكذلك جماعة المحور الممانع، لم يحصلوا على ما يريدون، ولم يعجبهم القول لهم ان عليكم العمل معا، لان وفقا للذهنية اللبنانية لا مأساة اكبر من التنازلات والحرتقات، ولا بد من الشطارة في استغلال حدث من نوع انفجار مرفأ بيروت في تحقيق مكاسب.
كل هؤلاء تناسوا عمدا ان الذي انفجر هو جبل اهمالهم وامعانهم في الفساد والافساد، وان ما ناموا عليه لتحقيق ربح من عمولة تصل الى ثلاثة ملايين دولار من هذه الكمية المتفجرة الى حد النووي قد تبخر، في هذا وجد الجميع انفسهم خاسرون بامتياز، لذلك لم يتبق لهم الا الدفع باتجاه الحرب الاهلية، على طريق "يا قاتل يا مقتول"، بينما المجتمع الدولي، الذي "طوشونا" به طوال 30 عاما، لا يريد ان يذهب لبنان الى الحرب الاهلية، فثمة تسويات بدأت تنضج في مكان اخر، وهي اكبر من لبنان بعشرات المرات، حتى الذين دفعوا الى كسر المعادلات المترسخة منذ اجتماع ما كان تبقى من مجلس النواب في الطائف ليسوا في وارد ذلك، لان لكل منهم حساباته، ومشكلاته الداخلية، كما ان التسويات الاخذة بالنضوج في مكان مطل على بحر العرب هدفها كسب كل طرف فيها المزيد من الاصدقاء، او الاستقرار للتفرغ لاموره، الحفاظ على وضع معين على قاعدة"لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم".
الاقليميون لن ينغسموا في حروب لبنان التي يسعى اليها مغامرون من كل الطوائف والاحزاب، الا اذا كانت هناك ضرورة لضغط من نوع اخر، عندها سيجد المتحاربون من يمولهم ببضعة مئات من الملايين، وعند تنهتي الحاجة الى ذلك تقفل صنابير الدعم، ويزيد الخراب في هذا البلد، فيما سنبقى نجد من تسكره كلمة من زعيم في هذه المنطقة او تلك.
الدوليون ايقنوا ان الحصار ضدهم، ولهم في ذلك عبرة في كولومبيا ونيكارغوا وغواتيمالا وكوبا ومعظم دول اميركا اللاتينية، وكذلك في العراق، وكما نقل عن ماكرون في حديثه مع ترامب:" ان الحصار يعزز قوة الذين تعاقبهم"، لهذا فان فك الحصار يعني اسقاط اخر الاوراق التي راهن عليها الصغار في لبنان، فماذا تبقى؟
اليوم ليس امام اللبنانين غير ان يقتنعوا ان اعادة اعمار بيروت هي في الحقيقة اعادة اعمار للدولة، التي ستحتفل بعد ايام بالذكرى المئوية الاولى لاعلانها كبيرة رغم صغر مساحتها، والا فان كل المحاولات التي تجري للدفع باتجاه استكمال عملية الهدم تعني انتحارا.
حين تتقدم السياسة على المصلحة الوطنية، ويغيب صوت الضمير الانساني، وتستعر نار الانحياز الى هذه القبيلة الطائفية او تلك، لا يكون هناك اي امل في قيام دولة حقيقية، وفي لبنان دائما ما تربط اي حادثة في الطائفة، وتتخذ بعدا مقدسا، ورمزية دينية، لذلك سرعان ما نرى هذه المرجيعة الدينية او تلك ترفع سيف الحماية لهذا الموظف الفاسد او ذاك، او تزكي زعيما، لانها في الحقيقة تنظر الى هؤلاء على انهم جنودها في معركة الهيمنة، لكنها تتناسى مثلا ان ما تحصل عليه من اموال الناس هو حقهم، فلا تساعدهم حتى في تأمين مدافن، بل غالبية اللبنانيين اصبحوا يخافون الموت كي لا يدفعوا ثمن القبر الاف الدولارات.
لذلك كل ما قدمته المرجعيات الدينية في الكارثة الاخيرة هو الصلوات، فالكلام بالنسبة لها لا ثمن له، بل هو يجلب لها المال من الفقراء، وهي ايضا التي تحمي من نهبوا 288 مليار دولار من قوت اللبنانيين، وكذلك اورثوهم 93 مليارا دينا.
انفجار مرفأ بيروت لمن يتصور انه النهاية فهو مشتبه، بل هو بداية لنوع جديد من الموت على ايدي طغمة اخطبوطية امسكت بعناق اللبنانيين ولا تزال، فيما هم ينساقون خلفهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة