كان الدكتور مصطفى الحفناوى فى سباق مع الزمن وهو يطالع الأرشيف السرى لقناة السويس فى مقر إدارة الشركة فى باريس، بعد أن سمح له رئيسها «شارل رو» على أساس أنه سيضع كتابا باللغة العربية عن القناة.. عثر الحفناوى على أسرار مذهلة عن الشركة والتخطيط لما ستكون عليه بعد انتهاء مدة امتيازها فى نوفمبر 1968، حسبما يكشف فى مذكراته «مصطفى الحفناوى وخلفيات تأميم القناة».. «راجع، ذات يوم، 15 و16 يوليو 2020».
يتذكر: «كنت أثناء الاطلاع فى سباق مع الزمن، أصل الليل بالنهار، فنسخت ما رأيت نسخه، وأخذت ما استطعت من الأصول، وصورت كل ما أمكن تصويره، ولم يشعر أحد من أصدقائى مستخدمى الشركة بما أقوم به، كنت قد وضعت من قبل نص رسالتى عن «مشكلات قناة السويس المعاصرة» وكان عليِ أن أجرى تعديلا فى بعض فصول الكتاب على ضوء ما تكشف لى من أوراق ومستندات استطعت أن أملأ صناديق بها، وأصل منها إلى نتائج حاسمة، وحددت موقفى من كل مشكلة تحديدا واضحا ومدعما بالأسانيد والأدلة القاطعة».
يصل «الحفناوى» إلى قمة الإثارة فى أحداث هذه القصة التى تفوح بالوطنية منه.. يقول: «دعانى شارل لارتكاب جريمة الخيانة ضد بلادى، وضد قضية قناة السويس، وذات صباح فى خريف1950، كنت جالسا بالحجرة الصغيرة التى استعملها أتصفح ملفا، فإذا برئيس الشركة «شارل رو» يدخل بغتة باشًّا ومحييًا، فأمسك بذراعى وقال: صديقى العزيز صديقى، وكرر التحية بضع مرات، وطلب منى مصاحبته إلى غرفته لنتحدث فى أمر هام، غاص العجوز الماكر الوثير فى مقعده الوثير، وأنا جالس أمام مكتبه فى مقعد آخر وثير، وخلع منظاره لتنظيفه ثم وضعه على عينيه، ونظراته قد سلطها خلسة من تحت عدسات المنظار، فأحسست أنه يمعن النظر فى قسمات وجهى، ويراقب انفعالاتى ونبضات قلبى، ثم تكلم فقال: «أقترح عليك مسألة تدافع عنها فى كتابك، ولو فعلت ستصل فى شجاعتك الأدبية حد الذروة، وستكسب احترام العالم المتمدين، سوف ينتشر كتابك ويذيع صيتك على نحو غير مسبوق، وستفتح لنفسك باب مستقبل عريض ضخم، وتصبح من كبار الرجال فى العالم».
وصل رئيس الشركة إلى هدفه قائلا للحفناوى: «المسألة التى اقترحها عليك سهلة ومبسطة، ولا تنقصك اللباقة، وحسن العرض لإبرازها فى كتابك، إنها ذات شقين، الأول، هو القاعدة العسكرية البريطانية فى منطقة قناة السويس، هذه القاعدة يجب أن تصفى وتختفى فى أقصر فترة ممكنة، فهى من رواسب سياسة استعمارية بائدة هى سياسة القرن التاسع عشر، ونحن الآن فى منتصف القرن العشرين، ونتمتع بالإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وبميثاق الأمم المتحدة، فلا يجوز لدولة أن تحتل غيرها بقوات مسلحة، وأنا أعلم أن جلاء القوات البريطانية عن هذه القاعدة هو أقصى أمانيكم، لكنكم لوحدكم لن تستطيعوا، ولن توافق أوربا الغربية على الجلاء قبل أن تطمئن إلى سد الفراغ بقوات أخرى ليس لها لون الاحتلال، فهل فكرتم فى هذا وتدبرتم؟، لاأعتقد ذلك، أدعوك لأن تكون البادئ وصاحب أول نداء يدوي، وصاحب الحل الذى يصفق له العالم ويرضاه».
طرح شارل حله قائلا: «توافقنى بطبيعة الحال على أنه يستحيل ترك القناة بغير حراسة، وقوة مزودة بأحدث الأسلحة لدفع أى عدوان عليها، وثق أن روسيا السوفيتية لن تتردد فى احتلال بلادكم، ومنطقة القناة بالذات، إذا جلت القوات البريطانية عن القناة ، والحل الأمثل هو حراسة القناة بقوات دولية تعينها الأمم المتحدة، وتتواجد فى منطقة القناة تحت راية الأمم المتحدة، هذا ينفى عنها لون الاحتلال الأجنبى الذى ترفضونه، ذلك أن القناة ممر مائى يستعمل فى خدمة التجارة الدولية، وواجب الأمم المتحدة أن تحرس هذا الشريان وتدرأ عنه أى اعتداء، هذه مهمة الجماعة الدولية، ولا ينبغى مطلقا أن تنفرد دولة بعينها بهذه المهمة».
توقف «شارل» لحظات قبل أن ينتقل إلى الشق الثانى من عرضه، ويصف الحفناوى هذه اللحظات قائلا: كانت نظرته الفاحصة لا تفارقني، كأنه يحاول أن يقرأ ما فى قلبى وعقلى، وكنت قوى الأعصاب مسيطرا على انفعالاتى تماما حتى لا يرتاب فى أمرى، لاحظت أن الكلمات كانت تنكسر بين شفتيه، كان يتلعثم مع أنه محدث بارع وأستاذ أكاديمي، ذلك لأنه كان يؤمن فى قرارة نفسه أنه غشاش ومخادع، ويدعونى للخيانة بلا تورع ولا حياء، واسترسل وأمعن حينما عرض الشق الثانى من مشروعه، فماذا قال فيه؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة