والوقاية خير من العلاج مبدأ صحي، كما إنها مطلب ديني، ففيما أكد النبى محمد -صلى الله عليه وسلم- أن الدين دستور جامع لحياة البشرية، فإنه حث على اتباع الأسباب الاحترازية اللازمة لضمان استقرار، وسلامة، ورفاهية الجميع، بمعنى أنه حث البشرية على عدم التخلي عن الفطرة السليمة. 
وجاء فى قوله "فر من المجذوم فرارك من الأسد" مايثبت ذلك ، والجذام مرض معد فتاك، وورد عنه أيضا قوله للإعرابي الذي ترك راحلته دون أن يعقلها متذرعا بالتوكل " اعقلها وتوكل "، وبهذا حدد الإسلام آليات وقائية للتعامل مع انتشار الأوبئة والطواعين وشيوعهما بين البشر ، ومن هذه الآليات الحجر الصحي.


والحجر الصحى له أصول إسلامية حيث يندرج تحت الإجراءات الوقاية الصحية التى أوصى بها ومارسها النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المسلمين عبر التاريخ ، ليثبت أن الحضارة الإسلامية حضارة عريقة قدمت للبشرية قبل الآن أفكارا ومناهج وعلوما ومنتجات تحفظ لها الحياة ومحيطها. 
والأسباب والآليات الذى ذكرها النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تذكر الدواء لأن مرده للجهد البشري ليكون سببا في طلب الشفاء، فيما حض على الوقاية بطرق لابد منها اليوم أمام ترسانة العلوم والبحوث الحديثة، ففى خضم معاناة البشر ووقوع الآلاف ضحايا لجائحة كوفيد ١٩، وآلام المصابين به، وخوف المهددين به، جاء الحديث في واحدة من كبرى المجلات العالمية عن الهدي النبوي في العزل الصحي، والحجر الصحي، والتباعد الاجتماعي، وآداب غسل اليدين دوريا في العادات اليومية والعبادات، بل إن منظمة الصحة العالمية وعلى خلاف المعتاد توصي باستعمال عود الأراك في السواك مرتين يوميا.


حيث أعاد باحث بجامعة رايس الأمريكية أصل الحجر الصحي إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم - قبل 1400 عام ، ففى مقاله بمجلة "نيوزويك" الأمريكية، أكد كريج كونسيدين، الباحث والأستاذ بقسم علم الاجتماع بالجامعة ، والمتخصص في الشئون الإسلامية، إن أول من اقترح النظافة الجيدة والحجر الصحي خلال فترات الأوبئة كان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- مضيفا أن للنبي نصيحة جيدة لمنع تطور أوبئة وأمراض فتاكة مثل "كوفيد-19" ومكافحتها، مستشهدا بما قاله"إذا سمعتم بالوباء بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه"، فضلا عن توصيته بإبعاد المصابين بأمراض معدية عن الأصحاء ، بالامتناع عن الدخول على المصاب بها ، قائلا " لا يورد ممرض على مصح" ، وهذا من القواعد الوقائية الصحية في حالة انتشار الطواحين والأوبئة ، بمعنى أن لا يختلط سليم بمريض ولا يدخل عليه، حيث تنتقل الأوبئة بسرعة غير معترفة بأى حدود مكانية.
ووضح الكاتب فى مقاله أن "رسول الله " شجع البشر بشدة على الالتزام بممارسات النظافة الصحية التي من شأنها حمايتهم من العدوى، مست

شهدا بأقواله صلى الله عليه وسلم "النظافة من الإيمان"، "وإذا استيقظ أحدكم من نومه ، فلا يغمس يده فى الإناء حتى يغسلها ثلاثا" ، "وبركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعد" ، في إشارة إلى غسل اليدين قبل تناول الطعام وبعده.


وألقى الضوء على النصيحة التي قدمها النبي - صلى الله عليه وسلم - حال أصيب أحد بالمرض، إذ أوصى الناس بطلب الرعاية الطبية والعلاج، قائلا " يا عباد الله تداووا ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، غير داء واحد وهو الهرم " مما يعكس موازنته بين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب.


والثابت تاريخيا أن الرسول الكريم تداوى من الأمراض بما توصل إليه عصره من أدوية وأساليب علاجية، وأوصى بالتداوي بها، وبذل الأسباب للتخلص من الأمراض ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا، فالتداوي ليس مندوبا ، وإنما واجبا كما يذهب إلى ذلك بعض علماء الأحناف.


والعزل وحصار الأوبئة مطلوب من وجهة النظر الدينية، فقد نهى الإسلام أن يخرج الإنسان من بيئة موبوءة إلى بيئة سليمة، ولا يدخل في بيئة موبوءة وهو في بيئة سليمة، كما روي عن عمر بن الخطاب أنه عاد إلى المدينة راجعاً من الشام عندما بلغه أنها موبوءة بالطاعون، وعندما اعترض عليه أبوعبيدة قائلا "أتفر من قدر الله"، أجابه قائلا "أفر من قدر الله إلى قدر الله"، والأحاديث في هذه المجالات متواترة وتقر بها جميع المذاهب.


والالتزام بآداب الإسلام في الوقاية الصحية بدءا بالحجر الصحي إلى أدأب الطهارة وغسل اليدين وتحاشي الخبائث والنجاسات والمحرمات في الأطعمة والأشربة والعادات السيئة، كلها من صميم الدين وصلب التدين مظاهره، من أجل الاستقرار والسلامة وضمان الصحة للجميع.


وفى مثال لواحدة من نماذج تعامل المسلمون مع الأوبئة في تاريخهم ، جاء " طاعون عمواس" الذى وقع فى زمن الخليفة عمر بن الخطاب ( فى العام الثامن من الهجرة ) ، وكان شدته فى الشام فهلك الكثير من الخلق ، وذكر أن المسلمين فى تلك الأزمة تحركوا في إطار قول رسول الله عن الطاعون "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه"، وفي هذا الحديث النبوي إشارة واضحة إلى ما يطبق اليوم علميا وعمليا من الحجر الصحي بهدف مواجهة الأوبئة المنتشرة، فرسول الله لم يكتف بأن يأمر المسلمين بعدم القدوم إلى الأرض الموبوءة، بل أتبعها بأن أمر من كان في أرض أصابها الطاعون أن لا يخرج منها، وذلك لمنع انتشار العدوى وانتقال الوباء إلى مناطق أخرى، وبذلك فإن هذا الحديث لفتة إعجازية تضاف إلى سجل الطب النبوي.


ووجوب تجنب أماكن العدوى والالتزام بقواعد الحجر الصحي التي تحددها الحكومات والقوانين من المناشدات الحالية، واستنادا إلى الأصول الإسلامية فإن في البقاء فى مكان العدوى رخصة، والخروج منه رخصة، فمن كان في الوباء، وأصيب، فلا فائدة من خروجه، وهو بخروجه ينقل المرض إِلى الأصحاء، ومن لم يُصب فإنه يرخص له بالخروج للتداوى، على ألا يخرج الناس جميعا ، حيث يستوجب أن يبقى من يعتني بالمرضى ،كذلك أهمية الإنصياع لإرشادات وتوجيه الجهات الرسمية والهيئات الطبية لأنها الأكثر معرفة ودراية بتفاصيل المرض وآثاره.