سعيد الشحات يكتب.. فاجأنى عمار الشريعى فى أول لقاء معه بمنزله بضبط شاشة التليفزيون.. وقطع اندهاشى ضاحكا: «طبعا بتقول فى سرك إيه اللى بيعمله الأعمى ده؟» ثم كشف أسرار تحديه حتى أصبح هذا الاستثنائى فى تاريخنا

الأحد، 17 مايو 2020 05:04 م
سعيد الشحات يكتب.. فاجأنى عمار الشريعى فى أول لقاء معه بمنزله بضبط شاشة التليفزيون.. وقطع اندهاشى ضاحكا: «طبعا بتقول فى سرك إيه اللى بيعمله الأعمى ده؟» ثم كشف أسرار تحديه حتى أصبح هذا الاستثنائى فى تاريخنا

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
اتصلت بالموسيقار عمار الشريعى أثناء مرضه الأخير للاطمئنان عليه، وبسخريته المعهودة قال لى: «قلبى زعلان شوية بس زعله تقيل المرة دى.. الأورطى بيهزر.. الشرايين بتهزر.. الدعامات بتهزر.. ومش عارف آخرة هزارهم إيه؟».
 
انعطفنا فى الكلام إلى أشياء أخرى، وكعادته سألني سؤاله المحبب الذى كان يضحكني من قلبى: «إنت بتضرب فين دلوقتى؟».. هذا السؤال الذي فاجأني به في بداية تعارفنا، ولم أفهم قصده للحظات حتى عرفت أنه يقصد: «أنت بتشتغل فين دلوقتي؟».
 
كان اتصالى الأول به فى عام 1996 أطلب منه لقاء لتسجيل شهادة معه لكتابى «أم كلثوم وحكام مصر»، ولأنه عدة مواهب مجمعة فى شخص واحد، موسيقي عبقري، ومثقف رفيع، وحكاء مدهش، كنت أريد منه تحليلا حول تطور أغنية أم كلثوم عبر الأزمنة التاريخية المتعددة التى عاشتها كوكب الشرق، وبعد مطاردات مني استمرت أسابيع وافق، وذهبت إليه في مسكنه بالمهندسين، وكان هذا اللقاء مفتتحا للقاءات أخرى واتصالات لم تنقطع، عرفته فيها استثنائيا في كل شىء، وحين تلقيت خبر وفاته يوم 7 ديسمبر 2012 أصابنى هم وغم وحزن عظيم.
 
كنا فى الساعة الثانية عشرة ظهرا تقريبا، حين هلّ بقامة ممدودة، يرتدى جلبابا بنصف كم، واستأذننى فى انتظاره قليلا ليفرغ مما يفعله.. كان مشغولا مع «فنى» لضبط التليفزيون على طبق «دش» موصول بجهاز ريسفير، كان «الفنى» يضبط الطبق، بينما هو يقلب القنوات بـ«الريموت»، وينبه الفنى أولا بأول: «معقول كده.. الصورة فى القناة دى محتاجة ظبط شوية.. ماشى.. تمام.. تمام يا هندسة»، كنت أتابعه مندهشا، ولما أنهى مهمته.. قال لى: «خلاص، نبدأ».. فنطقت بحروف بطيئة: «نبدأ منين بس.. أنا فيه حاجة شغلانى؟».
 
لم يتركنى أستكمل.. رد: «طبعا أكيد بتسأل نفسك: هو إيه اللي بيعملوا الأعمي ده، هأ، هأ، هأ»، رددت بحرج: «العفو يا أستاذ»، فرد ضاحكا: «فكها»، ضحكنا.. تأكدت من روقان مزاجه وأنه يرى كل شىء ببصيرته.. كانت شهيته مفتوحة للحكى، فقررت تغيير خطتى الصحفية، لأبدأ معه حوارا آخر، ينبش معه رحلته مع علته التي لا يعيرها اهتماما وجعلته هذا الاستثنائى، واستجاب وظل يحكى ما يقرب من ساعتين وأنا في قمة استمتاعى.
 
ولأننا لم نتطرق إلى قضيتى الأساسية في الحوار، اتفقنا على الاتصال لتحديد موعد جديد، وفي إحداها اقترح أن أذهب إليه في الاستوديو الخاص به «عمار ساوند» فى الدقى فى العاشرة مساء، لحضور تسجيل أغنية يلحنها للفنانة التونسية لطيفة، وفى حوالى الساعة الثانية صباحا بدأنا الحديث عن «أم كلثوم»، والحديث عنها كان يعنى كلاما منه عن رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وسيد درويش، ومحمد القصبجي وزكريا أحمد، وبليغ حمدى، وسيد مكاوى ومحمد الموجى وكمال الطويل.  
 
في الحديث عن تكوينه أثناء لقائى الأول به، قال: «تعرف، كنت أتمنى أكون مهندس كهرباء.. وأنا صغير كان أبويا يدخل علىّ يلاقينى ماسك الراديو الكبير وأنا عمال أفكه حتة، حتة، أول مرة سألنى: «بتعمل إيه يا عمار؟»، قلت: «بدور على شادية».. «كنت مفكر إن شادية اللى بسمعها من الراديو قاعدة فيه»، أبويا ضحك وسألنى: «لقيتها ولا لسه؟».. كنت بفك الراديو وأركبه تانى، ومن ساعتها فكرت فى الهندسة»، أصبحت أمارس هذه الهواية وأنا طفل (مواليد 1948)، القصة لم تعد بحثى عن شادية.. الحكاية عندى، إن مفيش فرق بينى وبين المفتحين، يعنى إيه واحد منهم يكون مهندس كهرباء، وأنا لأ؟.
 
يتذكر: «مرة وأنا طفل كنت على شاطئ البحر فى الإسكندرية، الأطفال بتجرى وبتلعب على الرمل وأنا قاعد وحدى، لا لعب ولا جرى.. سمعت سيدة: «يا عينى عليك، يا قلب أمك».. كلامها رن فى ودنى، زلزلنى، حرقنى، قلت لنفسى: اشمعنى أنا، هى ليه العيال دى كلها عمالة تجرى وتروح، بكيت.. خلاص هى حياتك كلها هتبقى كده، كل ما يشوفك حد هيولول زى الست دى».. يضيف: «هنا جاء دور الوالد، خدنى فى حضنه.. طبطب علىّ.. قال لى: «طيب ما تثبت للست دى، وغيرها إنك أحسن من المفتحين، كده هتخليهم يجروا وراك.. الإنسان بشخصيته وإنجازه».. تقدر تقول: «إن قصتى بدأت من هنا».
 
يواصل: «كل إخواتى ذهبوا إلى المدارس العادية، وذهبت أنا إلى مدرسة المكفوفين، كانت الوحيدة فى القطر، وتابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، وحين يأتى اسم هذه الوزارة لازم تعرف إن المدرسة على فيض الكريم، وفور أن تعلم أنها للمكفوفين تتأكد أنها ليست لأبناء الفقراء، إنما للأشد فقرًا، لأن الفقر والجهل سببان مؤكدان للعمى.. كل زملائى فى المدرسة كانوا تحت مستوى الصفر، لكن الفوارق تذوب أمام الظرف المشترك، وتواصل الحياة، فكل التجارب الإنسانية لا مفر أمامك إلا أن تعيشها مع هؤلاء باهتماماتهم، وبالتدريج تكون جزءًا منهم، وهم جزء منك.. أتكلم مثلا مع أصدقائى عن حصانى اللى أبويا أعطاه لى هدية، وأوقعنى وأنا أركبه أثناء أجازتى، ويتحدث آخر عن شقيقه الذي مرض ولم يجد أهله فلوس لعلاجه.. قصتان عن الفقر والغنى، واليسر والعسر، لكنهما عندنا كانت تعنى شيئًا واحدًا هو، أن اهتماماتنا مشتركة، لا تعطلها الفروق الاجتماعية بيننا.. كل واحد أصبح جزءًا من قصص زملائه، جزءا من عالمه، من خياله، صديقى الذى يسمعنى وأنا أحكى قصة حصانى يعيش حكاية إن عنده حصان، وحدث له نفس ما حدث معى، والذي يحكي عن محنة مرض شقيقه أعيش معه محنته، وممكن نعيط كلنا بسببها». 
 
يتذكر: «كان الراديو وسيلتنا في التثقيف، و«ساهم» البرنامج الثانى فى تكوينى.. أنا اتربيت على أصوات وبرامج حسين فوزى، بهاء طاهر، يوم الثلاثاء أسبوعيًا كنا نجلس حول الراديو للاستماع لمسرحية، ولو علقت مسرحية معانا تبقى مشكلة فى المناقشات بعد ذلك، أتذكر «مأساة جميلة» لعبدالرحمن الشرقاوى، و«ميراث الريح»، و«وفاة وكيل بائع متجول» لأرثر ميلر».
 
سألته عن تأثير الأب والأم والعائلة في تكوينه أجاب: «تقدر تقول إن أنا عشت على ركبتى المجتمع المصرى، الركبة الفقيرة، والركبة الغنية، الاثنين دلعونى، الركبة الغنية هى عائلتى، وهي عائلة في سمالوط بالمنيا، تقدر تقول عليها «إقطاعية»، لكن بالمعنى الجيد للإقطاع، مبتعلقش فلاح في عامود وتضربه بكرباج.. من العائلة دي أبويا كان قصته كبيرة، أنا شفته بيجيب أثواب القماش ويوزعها على الناس بانتظام، كان بيعمل كده من باب مسؤوليته عنهم، وليس من باب المباهاة، لم يكن يحتاج إلى فشخرة، كان تركيبته صلبة جدا أثرت فى تكوينى ونظرتى إلى الحياة، كان يحب جمال عبدالناصر جدا، هو تعلم فى جامعة السوربون بفرنسا ثلاث سنوات، واضطر إلى العودة لوفاة والده «جدى»، يمكن عشان كده اتزرع فىّ بذرة الفكر التقدمى جدا، وجزء كبير من هذا الفكر انتقل إلى شخصيتى..أما أمي فكانت تعرف ستات البلد كلهن، وتعرف أخبارهن، مش النميمة وعجن الستات، ولكن للاهتمام بأحوالهن وظروفهن الاجتماعية.
 
أعود معه إلى المدرسة فيواصل تدفقه : «لم تكن هناك خطة مؤكدة لاستكمال تعليم المكفوفين.. أكاد أقول إنه لم يبدأ التفكير الجدى فى تعليمنا إلا عندما زار مدرستنا الرئيس جمال عبدالناصر عام 1957، وكتب لنا مقدمة خاصة لكتابه «فلسفة الثورة» فى طبعة «البريل»، قال فيها: «الثورة لا تعرف معنى العجز، كل ميسر لما خلق له»، ولما رئيس الدولة بحجم وقيمة جمال عبدالناصر يزور المكفوفين فى مدرستهم، فهذا يعنى أن كل الأبواب سيتم فتحها لهم، وسنكون جزءا من هذا المجتمع الذى يعيش تحولاته الكبرى.. ولأنى كنت من الطلاب الحلوين جابونى وقتها عشان أسلم على عبدالناصر، سلمت عليه فشعرت إنى كبير وكبير قوى.. الشعور ده كان شعور كل جيل المكفوفين المتعلمين الذين يملأون أماكن كبيرة الآن، أعتقد أن كلهم مدينون لجمال عبدالناصر وثورة يوليو 1952 فى تعليمهم».
 
يضيف عمار: «لم نكن نعلم إلى أين سنذهب بعد التعليم الابتدائى؟.. كان التوقع أن يتم توزيعنا على جامعة الأزهر، أو معهد الموسيقى، أو الاتجاه المهنى لنتعلم صنعة يدوية، نعمل بعدها فى مصانع خاصة بالمكفوفين، كان «الاتجاه المهنى» هو آخر الاختيارات، لكن كل هذا كان يعبر عن اهتمام قوى من الدولة بمصيرنا، كانوا بيعملوا فرز، وأول فرز يكون لمواهب المزيكا، ويحضر مفتش من الوزارة لإجراء اختبارات على البيانو، واللى ينجح ينقلوه إلى شعبة الموسيقى، وهذه الشعبة كانت صورة مصغرة من معهد الموسيقى.. وأنا فى سنة رابعة كنت أقرأ وأكتب نوتة موسيقية، وكنت أدخل مسابقة بيانو، ولما قابلت العظيم كمال الطويل وأنا فى سنة خامسة ابتدائى قال لأبويا: «ابنك ده كأنه متخرج من معهد الموسيقى، حتى خريجى المعهد لا يقدرون على الوقوف أمامه».
 
من مرحلة إلى أخرى انتقل عمار في سرد قصته حتى أصبح هذا الذى عرفناه وأحببناه، ولما سألته: أنت امتداد لمين؟، أخذ نفسا عميقا ثم أجاب: «ستجد فوق أكتافى، السنباطى، عبدالوهاب، الطويل، الموجى، فريد الأطرش، محمود الشريف، زكريا أحمد، بليغ حمدى وغيرهم.. كل الذين أحببتهم هتلاقيهم يمتلكونى فى وقت من الأوقات، وفى وسط هؤلاء أعرف أطلع أنا، كل هؤلاء آبائى، عارف قيمتهم، عارف إن أنا أمام 50، 60، 70 سنة أو أكتر موسيقى، فيها تجديد وتحدى، فيها فهم لكل واحد منهم لمقتضيات عصره، وإزاى تكون هذه الموسيقى معبرة عن عصرها دون أن تفقد أصالة حضارتها وبيئتها، والحصيلة كانت خلطة موسيقية رائعة، أنا امتداد لكل هؤلاء، لكن عينى على أن أكون عمار الشريعى اللى الناس عرفته».






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة