إنقاذ لبنان من عمائم "الضاحية" السوداء.. لماذا طالبت الأمم المتحدة الآن بنزع سلاح حزب الله وإنهاء حضوره فى سوريا؟.. قصة تغوّل ميليشيات "نصر الله" على الدولة خلال 35 سنة.. ومخاطر المغامرة وإعادة إنتاج لعبة 2006

الخميس، 14 مايو 2020 01:32 م
إنقاذ لبنان من عمائم "الضاحية" السوداء.. لماذا طالبت الأمم المتحدة الآن بنزع سلاح حزب الله وإنهاء حضوره فى سوريا؟.. قصة تغوّل ميليشيات "نصر الله" على الدولة خلال 35 سنة.. ومخاطر المغامرة وإعادة إنتاج لعبة 2006 حسن نصر الله وحزب الله
حازم حسين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
- تظاهرات أكتوبر 2019 تنهى أسطورة الدعم الشعبى لـ"نصر الله".. ومحنة الدولة مقابل ثروات الحزب تفضح التبعية وانتهاك السيادة والتربح من أزمات لبنان
 

- 14 عاما من النزيف يترجمها الحزب لأسلحة ونفوذ ومليارات الدولارات.. ومساندته للميليشيات والكتائب المسلحة تُشعل الأوضاع فى سوريا والعراق واليمن

 
- عناصر حسن نصر الله تعتدى على متظاهرى ساحة رياض الصلح.. وأمين عام "حزب الله" يُهدد اللبنانيين بالفوضى وإغراق الدولة
 

- سر تحالف حزب الله وحركة أمل والتيار الوطنى الحر.. وأسباب استغلال إيران لـ"نصر الله" فى فتح ثغرات إقليمية وتصدير صراعها مع واشنطن وأوروبا للمنطقة العربية

 
ما تزال وضعية حزب الله فى المشهد اللبنانى أمرا مثيرا للتساؤلات. إذ بات الحزب المعترف بتبعيته لإيران رقما حاكما لمعادلة بيروت السياسية، ومتسلطا على مؤسسات الحكم وأجهزة الدولة، فضلا عن اختراقه دوائر الأمن القومى، وامتلاكه قدرات عسكرية واقتصادية تتجاوز الدولة الوطنية، ولا تبدو مُنصاعة لأية أُطر مؤسَّسية أو مرجعيات وطنية واضحة. وباختصار، فقد تسبب الحزب فى أذى ومصاعب ضاغطة للدولة، بقدر أكبر من كل ما يدّعى تحقيقه لصالحها!
 
باتت تلك الصورة تؤرّق اللبنانيين بشكل دائم. وكانت واحدة من أسباب التظاهرات الحاشدة خلال أكتوبر الماضى، وامتدادها النسبى إلى الآن، فضلا عن آثار تمدّد الحزب إقليميا؛ ليلعب دورا مساندا لاستراتيجيات طهران والحرس الثورى، سواء بالوجود المباشر فى سوريا، أو دعم ميليشيات الحشد وبعض الكتائب الشيعية المسلحة بالعراق، أو التحول إلى معبر دائم للأسلحة واللوجستيات للحوثيين باليمن، فضلا عن المساندة الفنية وقدرات التدريب والتأهيل داخل معسكراته فى بيروت، أو من خلال خبراء تابعين له على الأراضى اليمنية. وربما من تلك المساحة الواضحة من الإزعاج الإقليمى، وتهديد مكونات المشهد بشكل يُزيد فرص التصعيد العسكرى وتهديد الركائز الاقتصادية للمنطقة والعالم، عاد المجتمع الدولى للحديث عن ميليشيات حزب الله وتجاوزها للدولة اللبنانية مُجدّدًا.
 
أحدث تلك المواقف حملت توقيع السكرتير العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، الذى دعا إلى نزع سلاح الحزب وتجريده من قدراته العسكرية التى باتت محفزا للتوتر. وطالب الحكومة والقوات المسلحة باتخاذ موقف واضح تجاه انفلاته ومخاطر تدخله فى سوريا. وخلال جلسة نقاش مغلقة بمجلس الأمن الدولى، قال إن على المؤسسات اللبنانية اتخاذ ما يلزم من تدابير لمواجهة عمليات بناء قدرات عسكرية خارج ولاية الدولة، وتحجيم أنشطة حزب الله، ومنعه هو وحلفائه امتلاك مزيد من الأسلحة. متابعا: "استمرار مشاركة الحزب فى الصراع السورى تنطوى على خطر تشابك لبنان مع الصراعات الإقليمية، وتقويض استقرارها والمنطقة".
 

دعوة أمميّة لنزع السلاح

بحسب تقرير "جوتيريش" عن نشاط لبنان بين 15 أكتوبر و7 أبريل الماضيين، وفى ضوء مناقشة قرار نزع سلاح الميليشيات الصادر عن مجلس الأمن 2004 برقم 1559، قال إن "زيادة حزب الله لترسانة أسلحته تُشكّل تحدّيًا خطيرا لسيادة الدولة وقدرتها على ممارسة السلطة الكاملة فوق أراضيها، كما أن اعترافه المتجدد بامتلاك ترسانة من الصواريخ بات مصدرا كبيرا للقلق". ثمّ انتقل إلى تجاوز الحزب والجيش الإسرائيلى، مؤكدا أن "استمرار الانتهاكات القائمة برا وجوا، ينطوى على مخاطر التصعيد، وقد يهدد استقرار البلدين، إضافة إلى أنه يُقوّض مصداقية الأمن ومؤسسات الدولة اللبنانية، ويُعزّز مخاوف المدنيين".
 
وفى السياق نفسه، قالت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، كيلى كرافت، إنها محبطة من دور قوات حفظ السلام الدولية "يونيفيل"، فى تلميح إلى التقصير الدولى فى مواجهة تجاوزات حزب الله واختراقه لخطوط الحدود، كما اتهمت الحزب الموالى لنظام طهران بالتجاوز، وأنه "يتبجّح علنا بأسلحته، ويتجاهل القرار الأممى رقم 1701، ويُملى على القوات الدولية أماكن وأوقات دورياتها الأمنية"، مُؤكدة أن قوات "يونيفيل" ممنوعة عمدًا من الوصول إلى مواقع أنفاق الحزب فى مناطق عملها، والتحقيق فى الأمر، أو التفتيش بشأن الأنشطة العسكرية الجارية.
 
إلى ذلك، تمتد إدانة الشارع اللبنانى لتجاوزات حزب الله وتغوّله بحق الدولة، منذ اندلاع تظاهرات أكتوبر حتى الآن، ودخل على الخط سياسيون وقادة أحزاب بالتلميح والتصريح، بينهم زعيم الحزب التقدمى الاشتراكى وليد جنبلاط، بل ورئيس الحكومة السابق سعد الحريرى، فضلا عن عشرات الشخصيات العامة. وفى السياق ذاته اعتبر تجمّع لقاء سيدة الجبل "المكوَّن من تيارات إسلامية ومسيحية" أن تخلُّص لبنان من الهيمنة الإيرانية وانفلات سلاح الحزب خارج ولاية الدولة أمر ضرورى، وأن على الجميع التزام بنود الدستور وقرارات المؤسسات الدولية، مُشدِّدين على أن أغلب اللبنانيين يرفضون انزلاق حزب الله العميق لتنفيذ أجندة إيران فى سوريا بشكل يتصادم مع المصالح الوطنية والروح اللبنانية.
 

دولة الحزب فوق دولة الشعب 

لا يُسيطر حزب الله على مشهد السياسة فقط، سواء بحصته البرلمانية ورئاسته المباشرة وغير المباشرة للسلطة التشريعية بموجب بنود اتفاق الطائف 1989، التى تمنحها للشيعة إلى جانب حكومة سنية ورئاسة مسيحية مارونية، ولا حتى عبر تحكُّمه فى الحكومة بالتغوّل البرلمانى، أو نفوذه داخل "قصر بعبدا" على أرضية التحالف مع التيار الحر والرئيس ميشال عون، وإنما يُمثّل البُعدان الاقتصادى والعسكرى أكبر جوانب نفوذه وسيطرته على مقاليد السلطة والإدارة التنفيذية والدولة بكاملها.
 
لدى الحزب، بحسب تقارير ومؤشرات العام 2016، نحو 20 ألف جندى نظامى و25 ألفا من الاحتياطيين، ولديه ترسانة أسلحة هجومية تشمل القذائف والصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى بين 120 و150 ألف قطعة، إلى جانب وحدات المشاة والدروع والصواريخ والقذائف المضادة للطائرات والسفن، وقذائف أرض أرض مضادة للدبابات، وبينما لا يملك أية قطع مُدرّعة داخل لبنان فإن لديه قدرات تدريع ودبابات من طرازى "T55" و"T72" فى سوريا، وتبلغ ميزانيته السنوية مليار دولار. قال حسن نصر الله فى تسجيل صوتى قبل أشهر إنها تأتى من مصادر إيرانية، أو بحسب تعبيره فإن "كل ما ينفقه حزب الله من رواتب وأسلحة وتجهيزات وطعام وعتاد يأتى من الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، لكن فى مقابل تلك التبريرات ذات الطابع المذهبى، يملك الحزب قاعدة اقتصادية قوية داخل لبنان!
بحسب تقارير صحفية، يسيطر حزب الله على نحو 140 معبرا غير شرعى على الحدود البرية، وعلى مطار بيروت، وخطّ خارج الرقابة بميناء العاصمة، وتمتدّ أنشطته إلى شبكات اقتصادية وتجارية فى أمريكا الجنوبية، وقد ألمحت تقارير أمريكية وأوروبية إلى ضلوعه فى عمليات غير شرعيّة تتصل بأنشطة المافيا وحركة الأسلحة والمواد المخدرة وتهريب النفط من بعض دول القارة اللاتينية، وإجمالا فإنه يملك اقتصادًا ضخمًا لا تعرفه مؤسَّسات لبنان، منه مثلا 2.8 مليار دولار واردات من الصين مقابل 1.2 مليار فقط للدولة الرسمية، وبينما يبلغ الدين اللبنانى العام 85 مليار دولار، أغلبه بسبب عجز الكهرباء الناتج عن ممارسات حلفاء الحزب وتلاعبهم بالقطاع عبر شركات مُدارة من موالين وسماسرة بالتيار الحر وغيره، فإن الحزب لا يُسدّد أية ضرائب أو جمارك على وارداته أو تجارته. فى المقابل لا تتجاوز تدفقاته من إيران 700 مليون دولار سنويا، بات مشكوكا فى استمرارها بانتظام مع تصاعد الضغوط الاقتصادية وتضييق دائرة العقوبات على طهران من جانب الولايات المتحدة وبعض حلفائها!
 

اغتصاب الشارع بالتهديد والقوة

مع دخول الألفية الجديدة، بدا تحالف حزب الله مع إيران، ووكالته للحرس الثورى بالمنطقة، أمرًا أكثر وضوحا من ذى قبل. وفى ضوء تنازع الإرادات، وتضرُّر الدولة اللبنانية من التمدُّد والاستقواء المُفرطين للحزب، صدر قرار من مجلس الأمن بنزع سلاحه وغيره من الميليشيات، لكنّ وضعيته تحسّنت عقب حرب 2006، إذ خلطت تيارات عدّة من مناوئى إسرائيل بين مواقفهم الداعمة لفلسطين، وصراع "نصر الله" الذى كبَّد لبنان خسائر فادحة، ليصبح الحزب فى ضوء تلك الحالة أكثر قوّة، وتتصاعد هيمنته السياسية والعسكرية تباعًا، حتى تسبَّبت تلك الصيغة المشوّهة فى إرباك الدولة ومؤسَّساتها، وإفشال الحكومة وأذرعها التنفيذية، وضرب الاقتصاد، ومُراكمة مزيد من الخسائر والضغوط على الموارد والمالية العامة وقدرات الإنتاج والتوظيف وتوفير السلع والخدمات، ليتطوَّر الأمر إلى موجة غضب شعبى قادت لاندلاع تظاهرات واسعة النطاق أواخر العام الماضى.
 
عقب اندلاع التظاهرات بدأ حزب الله محاولات تقويضها. كانت أولى الخطوات خطابات مُصوَّرة هدّد فيها "نصر الله" المحتجين، وقال إنه لن يسمح بإسقاط الحكومة أو المساس بالعهد (قاصدًا سلطة بعبدا الحالية)، ثم تصاعدت وتيرة التهديدات تباعًا إلى سياق يُضمر إشارات للفوضى أو تقويض الدولة وإرباك المجتمع، ولاحقًا بدأ الأمر يتّخذ منحى عمليًّا مباشرًا مع السعى لفضّ الاحتجاجات وإرهاب المُحتجّين، إذ تداول ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعى أواخر أكتوبر، صورًا ومقاطع فيديو لأفراد يرتدون قمصانًا سوداء، قالوا إنهم يتبعون الحزب، هاجموا ساحة رياض الصلح واعتدوا على المتظاهرين وكسّروا مُخيّماتهم، بينما أظهرت التسجيلات هتافات بعضهم القائلة: "يلّا من هون يا اللى ضد السيد حسن من هون يلّا"، ثم توجهوا بعد ذلك إلى منطقة "الصيفى" لتفريق تجمعات أخرى.
 
لاحقًا، توسَّعت الاعتداءات لتشمل مجموعات مُنظّمة من أنصار الحزب وحليفتها الشيعية "حركة أمل"، إذ شهدت ساحة رياض الصلح أواخر نوفمبر اشتباكات مع المتظاهرين. وأظهر بثّ حىّ عبر قنوات محلية عناصر من القوات المسلحة وجنود مكافحة الشغب، يُحاولون السيطرة على الموقف بتشكيل حواجز لفصل المجموعات الشيعية وحماية المواطنين على الطريق عند "جسر الرينج"، وفى تلك المشاهد ظهر أنصار الحزب والحركة مُلوِّحين بأعلام الفصيلين، وهاتفين: "شيعة شيعة"، مع هتافات داعمة لزعيم الحزب حسن نصر الله.
 

ذراع إيران فى المشهد العربى

رغم خفوت الآلة الدعائية التى اختلقت أسطورة حزب الله ودعمتها طوال العقدين الأخيرين على الأقل، ما تزال عمائم الضاحية الجنوبية تحظى بقدر من القبول والترويج فى أوساط بعض التيارات السياسية العربية، وبينها فئات من الماركسيين والقوميين والليبراليين والإسلاميين السنة، يُفترض أنها على الضفة المقابلة للحزب، وأنها تتَّخذ موقفًا مُضادًّا لفكرة الميليشيات فوق الوطنية المُؤسَّسة على أرضية مذهبية، وهو أمر ينطوى بالضرورة على قدر من التناقض وارتباك التأسيس الفكرى والأيديولوجى. يُضاف إلى ذلك دور الحزب فى المشهد السورى وامتداداته، بدءا من اغتيال رئيس الوزراء اللبنانى الأسبق رفيق الحريرى بالعام 2005، الذى ما تزال تقارير عديدة تنسبه للتحالف البعثى الإيرانى مع "نصر الله"، وصولاً إلى دوره فى توسعة رقعة الحرس الثورى وأجندة إيران داخل سوريا، ما قدّم مُبرِّرات سياسية سهلة للولايات المتحدة وإسرائيل وبعض المناوئين، للعب أدوار أكبر بالمشهد السورى، تأسيسًا على تغوّل طهران ووكلائها وتمدّد أذرعهم المسلحة!
 
تفكيك أسطورة الحزب ينطلق بالضرورة من العودة إلى سياق التأسيس. فرغم بروز الفكرة على أرضية الصراع العربى الإسرائيلى، وخلفيّات الحرب الأهلية اللبنانية، فإن حزب الله لم يُقدّم طرحًا أكثر نضجًا وتأثيرا فى تركيبة الصراع مع تل أبيب، بل على العكس منحها مُبرِّرات أكبر لترويج سرديّتها للمجتمع الدولى عن الإرهاب الإسلامى والحزام العربى المُعادى لها، كما أن ميليشيات "نصر الله" لم تتجاوز حالة الصراع الداخلى والاحتراب الأهلى، إذ اعتمدت الآليات نفسها التى أنتجت حرب المكونات السياسية، بامتلاكه ترسانة عسكرية ضخمة تتجاوز أُطر الدولة الوطنية وقواتها المسلحة ومصالحها العليا، حتى أصبح الحزب عمليًّا سلطة سياسية وعسكرية واجتماعية تتجاوز الهياكل المؤسَّسية، وتُعيد ترتيب أوراق الدولة وفق تطلُّعات "نصر الله" وما يراه فى صالحه، وهى انحيازات تتبع إيران بصورة أكبر من ارتباطها بالهوية اللبنانية وأزمات الدولة واحتياجاتها الحقيقية!
 
عمليًّا، يشغل حزب الله حيّزًا عريضًا وغير مفهوم بالدولة اللبنانية، بل والمشهد الإقليمى بالكامل، ويتحرَّك طوال الوقت كما لو كان فرعًا للحرس الثورى أو ملالى إيران ومراجع قُم، والأغرب من التحرُّكات ما تشتمل عليه من تحالفات عجيبة، تتوزعّ بين المارونيين، والقوميين ذوى الهوى البعثى، واليسار الماركسى، وغيرها من أخلاطٍ لا رباط بينها، حتى لكأنّ الحزب ثغرة إيرانية فى المشهد العربى، أو ثغرة عربية ينفذ منها مُشعلو الحرائق الآتون من الأرضية الإيرانية المُزلزَلَة بالأزمات!
 

الخروج من حفرة حزب الله

المشهد الراهن أقرب إلى حُفرة عميقة، حفرها حزب الله، وأسقط الدولة ومُكوّناتها المؤسَّساتية والحزبية فيها. إذ يبسط الحزب وزعيمه حسن نصر الله غلافًا من الهيمنة فوق سماء السياسة اللبنانية، سواء من بوابة تحكيم القوة العسكرية التى نازعت الجيش الوطنى وأزاحته لصالح ميليشيات الضاحية الجنوبية من بيروت، أو بالتحالف السياسى القائم مع حركة أمل الشيعية، وإلى جانبها التيار الحر الذى أسَّسه "عون" ويتزعمه صهره جبران باسيل، وزير الخارجية السابق. وقد تجلَّى التحالف بوضوح خلال الأزمات اللاحقة لتظاهرات أكتوبر ضد حكومة الحريرى، وما تسببت فيه من أوضاع اقتصادية ضاغطة، فقد خرج وقتها "نصر الله" مُدافعًا عن تيار عون ومُتشدِّدًا فى أنه لن يسمح بإزاحة الحكومة أو تحجيم سلطات الحزب، وحتى مع نجاح المتظاهرين فى إنفاذ إرادتهم، حضر "نصر الله" مُجدّدًا بفرض رؤاه على الحكومة الجديدة، فرغم نجاة التشكيلة من تحكّمه الكامل، فإن ما أقره الحزب والتيار الحر من مُحدِّدات باتت بمثابة العراقيل الدائمة أمام المؤسَّسات الدستورية، وفى طريق الدولة الساعية للخروج من أزماتها الاقتصادية والسياسية، التى كان الحزب شريكا فيها، أو أحد أبرز صنّاعها.
 
تأسَّس الحزب بالعام 1982، وبدأ عمله العسكرى بعدها بثلاث سنوات، وحتى 2000 خاض مناوشات محدودة مع إسرائيل، ظلَّت فى حيّز اللعب المستقرّ، حتى أنهتها الأخيرة بقرار الانسحاب من الجنوب اللبنانى، عدا مزارع شبعا، وصمت الحزب تقريبًا طوال ستّ سنوات، ناسيًا القضية وبقيّة الأرض، حتى قرَّر فجأة أن يُشعل فتيل الحرب فى يوليو 2006. تسبّب حزب الله وقتها فى مقتل وإصابة مئات المدنيين، وفى نزوح قرابة نصف المليون لبنانى ممّن طالتهم نيران المُغامرة المرسومة فى طهران، والمنتقلة جوًّا وبرًّا إلى الضاحية الجنوبية، عبر الأراضى السورية وأذرع الملالى من ميليشيات فيلق القدس التابع للحرس الثورى، والكتائب العسكرية التابعة للحزب. 
 
امتدت الحرب نحو 34 يومًا، وخسر فيها اللبنانيون 1200 قتيل، وأكثر من 5000 جريح، و500 ألف نازح باتجاه الشمال، فضلاً عن خسائر مادية تجاوزت 4 مليارات دولار. وقتها هلَّل الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد عقب وقف القتال تطبيقا لقرار مجلس الأمن 1701، معتبرًا دمار بيروت والجنوب انتصارًا، ربّما لأنه حقَّق مراد طهران فى صراعها على الجانب الآخر! آنذاك كانت إيران، الداعم والمموّل الأول للحزب، تخوض صراعًا مُحتدمًا مع الولايات المتحدة وقوى دولية على خلفية برنامجها النووى وتطوّراته، وربّما سعت إلى فتح جبهة أخرى تُخفِّف الضغط عنها. وهكذا نفّذ الحزب عملية غير محسوبة تمامًا، باختطاف جنديّين، ووضع البلد بكامله على طاولة المُقامرة، ما سهّل للبرنامج النووى الإيرانى قطع أشواط أوسع. والآن يتجدّد المشهد بصورة مشابهة، إذ تواجه إيران أزمة مُحتدمة مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولى، سواء على خلفية قصف قواعد عسكرية بالعراق، أو إسقاط طائرة تابعة للخطوط الأوكرانية، أو إتلاف ناقلات نفط بالخليج العربى، أو تغذية ماكينة الحوثيّين باليمن لاستهداف خطوط نقل النفط والمنشآت السعودية. 
 
تُوشك تلك المناوشات أن تنتهى إلى حرب، فضلاً عن عقوبات اقتصادية بالغة القسوة وآخذة فى التنامى، ترافقها اهتزازات داخلية فادحة للعملة والإنتاج ومُعدّلات البطالة والتضخّم، أنتجتها ضغوط العقوبات أو تداعيات أزمة وباء كورونا المستجد "كوفيد 19"، ما يُرجِّح أن تتوقّف عن ضخّ معوناتها المالية لحزب الله وظهيره اليمنى، وفى المقابل يسعى "نصر الله" لتعويض تلك الخسائر على حساب لبنان واقتصاده، مُتجاهلاً ميراث الفشل الناتج عن تحالفاته الداخلية والخارجية، وما أنتجه من تراجع فى المداخيل والإنتاج ومعدلات النمو وقطاع الكهرباء، فضلاً عن آثار المظاهرات، وتداعيات الوباء التى قلّصت حركة السفر والسياحة واقتصاد الخدمات، وهى مُكوّنات تستند إليها مالية لبنان بدرجة كبيرة، لكن الأخطر أن طهران وسط كل تلك التشابكات ربما تبحث عن مَهرب جديد من محنتها، بتسخين المنطقة، أو تفجير قنبلة إقليمية لصرف الانتباه بعيدا، والأرجح أن "نصر الله" سيكون دوما أداتها الذهبية الرخيصة، وغير المُكلفة سياسيا أو اقتصاديا، سواء بجسده فى لبنان، أو عبر أذرعه بسوريا واليمن. 
 
من واقع تلك التفاعلات، فإن مطالبة المجتمع الدولى، مُمثّلاً فى السكرتير العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، بنزع سلاح الحزب الآن، لا يُمكن فصلها عن تعقُّد الأوضاع السياسية بالداخل اللبنانى، وعن امتدادات التعقيد وانعكاساته على الملفات اليمنية والسورية والعراقية، إضافة إلى التهديد الذى يمسّ سوق النفط، فى وقت يتوالى فيه نزيفها وتبدو عاجزة عن الحفاظ على استقرارها أو ضمان الاستدامة الكافية لتحفيز اقتصاد الخليج والعالم، مع تراجع الطلب وانخفاض الأسعار بشكل يضطر اللاعبين الكبار لاعتماد إجراءات تقشّفية، ستضغط بالضرورة على التجارة وتداولات السلع والخدمات، وعلى مبيعات الأسلحة الأمريكية بالتبعية! هنا يبدو الأمر أكثر اتّصالاً بصراعات أعمق من المشهد اللبنانى، وأكثر من قدرات البلد الصغير على الاحتمال، ولا يبدو استمراء حزب الله لتلك الحالة، أو إصراره على اتخاذ لبنان بكامله درعًا لأجندته الإيرانية، إلا تضحية بالوطن من أجل المذهب، وإغراقًا للبنانيّين حتى يطفو الإيرانيّون فوقهم، وهى وضعية مقلوبة تمامًا، ليس لأنها صيغة فوق وطنية تُغامر بالدولة، ولكن لأنها ستتّصل وتمتدّ من دون شكّ إلى مزيد من الهيمنة وتعزيز النفوذ والقدرات العسكرية، وهو أمر يضع بيروت على صفيح المخاطر الساخن، حالما تتعقّد الأوضاع بين إيران والمجتمع الدولى، أو تتسبَّب تلك الوضعية فى إرهاق القاعدة الاقتصادية للمنطقة وتهديد النفط وتدفقات التجارة. وقتها لن تقود القوَّة التى يتباهى بها الحزب إلا إلى صراع جديد، سيدفع ثمنه اللبنانيون والمنطقة كما جرى فى 2006، لذا فإن إنقاذ لبنان ومحيطه لا يمكن أن يبدأ إلى من الضاحية، وتحديدًا من نزع سلاح ميليشيات "نصر الله" وإخضاعها لسلطة الدولة الوطنية، وإجبارها على أن ترفع علم لبنان بديلاً عن علم إيران أو راية الحرس الثورى أو عمائم الملالى السوداء!






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة