تحل اليوم ذكري وفاته الـ 54، فما أحوجنا إلى الاقتداء به والسير على نهجه العلمي الديني الوسطي الحق، فهو رجل لم يستطع أحد من غلاة التطرف أو حتى من غلاة الحداثة أن يطعن فيه أو يختلف على ما كان يكتبه برغم أنه يكاد يكون متوافقا مع الجميع، ومتسامحا مع الجميع، مثله مثل شيخه الأكبر وعالمه الأنور "محمد عبده" الذي يصح أن نطلق عليه لقب "مجدد الأمة" الحقيقي، الذي يعد قدوة للجميع، والذي سار الشيخ المجدد الكبير عبدالمتعال الصعيدى على نهجه بعلمية وحيادية وأدب وصبر.
وللأسف قد أنتج الشيخ عبد المتعال الصعيدي عشرات الكتب والأبحاث المهمة، والتى تنهض بالمسلمين من قاع الدنيا إلى قمتها، وتبرئ الدين الإسلامى الحنيف مما يلصقه به المغرضون، لكن ما يطبع الآن من عشرات الكتب التى تتجاوز الستين كتابا هذه لا يتعدى عشر إنتاجه، فقد أنتج الشيخ ما يقرب من خمسين كتابا مطبوعاً، وعشرين كتاباً مخطوطاً أهداها كلها للأزهر الشريف، ولا نكاد نسمع عن تلك الكتب شيئاً، ولتعرف كيف نبدأ فى تضييع هذا الإمام المجدد الكبير، وينتمى شيخنا الجليل إلى هذه الطائفة من العلماء الذين لم يخشوا فى الله لومة لائم، مصارحين بآرائهم التى ظلموا من أجلها فلم ييأسوا وظلوا على حالهم، يقولون ما يؤمنون به، ويكتبون ما يرونه صالحا، فوسط الاختلافات والتنازعات الدينية الكثيرة، كان من الواجب أن نبحث عن منهج جديد فى دراسة التشريعات الإسلامية ونشأتها، لنفرق كما كان الشيخ يقول بين الإسلام والتراث الإسلامى، فالإسلام هو دين الله الخاتم الذى ارتضى لنا أن يكتمل به إيماننا، وهو دين السماحة والحب والحرية والعقل والتوحيد والرقى، أما الموروث الإسلامى من أحكام فقهية، وتفاسير، ومذاهب، فهو الناتج البشرى عن عملية تأويل الإسلام، بما يناسب العصر الذى تم إنشاء هذا الموروث فيه، وهو ما يعنى أن يتحرر المسلم من التقيد بهذا الموروث طالما لم يخالف كتابا معصوما، ولا سنة صحيحة يقينية متواترة.
فى كتابه "المجددون فى الإسلام" يرصد "الصعيدي" العديد من المفارقات المؤلمة متحسراً على ما آل إليه حال المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، فيعلن استياءه من مغالاة البعض فى العبادات وتشددهم فيها، حتى يظن الواحد أن الإسلام دين عبادات فحسب، وهو الأمر الذى وصفه الشيخ بأن فاعليه "ابتدعوا رهبانية فى الإسلام" موضحاً أن الإسلام الحقيقى هو ما يصحبه الإنسان فى حياته كلها، فيرى باستنارته العالم، ويضرب الشيخ مثلاً باستنارة الصحابى الجليل عمر بن الخطاب فى أمور الدين معتبراً عمر بن الخطاب من المجددين، لأنه راعى التغيرات الاجتماعية فى أحكامه معطيا العقل مساحة أكبر فى التعامل مع نصوص القرآن والسنة، ولأن الشيخ كان دائم إعمال العقل، فقد أخذ على الإمام الشافعى قوله "كل قرشى غلب على الخلافة بالسيف، واجتمع عليه الناس، فهو خليفة" وقال: إن من يأخذ حقه بالسيف يكون غاصباً. وإجماع الناس عليه بعد ذلك لايصح أنْ يُسوّغ ما وقع، لأنه يكون ناشئًا عن عجزهم" كما أخذ الشيخ على بعض الأئمة والتابعين آراءهم فى النكاح، حيث قال الإمام سفيان الثورى "إذا نكح المولى العربية يُفسخ النكاح"، ما يعنى أنه يحرم زواج العربية بالمصرى أو التونسى أو الشامى، لأنه فى نظره "مولى" أى ابن بلد من البلاد المفتوحة، وهو ذات الرأى الذى أقره الإمام أحمد بن حنبل، وهو ما اعتبره الشيخ "عنصرية" لا تتناسب مع تعاليم الإسلام، ولا آيات الكتاب، ولا سيما ما جاء فى سورة الحجرات "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".
ولعل أكثر ما أثار الجدل فى كتب الشيخ عبدالمتعال الصعيدى، هما كتابا "الحرية الدينية فى الإسلام" و"حرية الفكر فى الإسلام"، وهما الكتابان اللذان يدفعان عن الإسلام شبهات الجبرية والإجبار والقهر، وأشد ما يميز هذا الكتاب كما جاء فى تقرير مجمع البحوث الإسلامية، أنه اتبع نفس أسلوبه مع الملحدين، فكان يعرض الرأى والرأى الآخر، ثم يوازن بينهما ويخرج بنتيجة يقبلها العقل ويقتنع بها، وكان سبب تأليف هذا الكتاب هو نشر مقال يقول فيه كاتبه أن المرتد عن الإسلام يقتل، فألف "الصعيدى" كتابه لينتهى إلى أن المرتد لا يُقتل، فتصدى لنقده عالم كبير من علماء الأزهر هو الأستاذ عيسى منون، عضو جماعة كبار العلماء وشيخ كليتى الشريعة والأصول بجامعة الأزهر، فأصدر الصعيدى الطبعة الثانية، وفيها كل ما قاله الأستاذ عيسى منون نقدا للكتاب، ثم رد الأستاذ عبدالمتعال الصعيدى على النقد، ليثبت وجهة نظره، وهو الشىء الذى مدحه الدكتور محمد رجب بيومى قائلاً: "إن هذا مما يحمد للأستاذ عبدالمتعال الصعيدى، حيث لم يشأ أن يُغرر على القارئ برأى جديد، دون أن يرجع إلى ما قيل عنه من قبل، كما يعرض صفحات كثيرة كتبها ابن حزم فى كتابه (الإحكام فى أصول الأحكام) وكلها تخالف اجتهاده، ورد عليها، وهو بما نقل عن الأستاذ عيسى منون والإمام ابن حزم، قد كشف الوجهة المخالفة لرأيه كشفا ساطعا، بحيث لا يحتاج قارئ إلى الرجوع إلى مصادر أخرى".
ويقول الشيخ الصعيدى فى هذا الكتاب، إن حرية الاعتقاد أن يكون للإنسان الحق فى اختيار الدين، ولا يكون لغيره الحق فى إكراهه على ما يعتقده بأية وسيلة من وسائل الإكراه، وإنما يكون له حق دعوته إليه بالإقناع بدليل العقل، أو بالترغيب فى ثواب الآخرة، والتخويف من عقابها، ويستشهد الشيخ الصعيدى على الحرية الدينية فى الإسلام بالعديد من الآيات مثل: "من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد"، و"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن"، و"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم"، و"إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين"، و"ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، و"لا إكراه فى الدين"، و" فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، مؤكداً أن الحديث الذى يستند إليه بعض القائلين بوجود إقامة حد الردة، وهو "من بدل دينه فاقتلوه" يعد من أحاديث الآحاد التى تفيد الظن ولا تفيد اليقين، كما أنه يخالف النص التشريعى الأول فى الإسلام وهو القرآن الكريم، ويخالف ما تواتر عليه من عدم قتل المرتدة، وهو ما يعنى أن قتال المرتد لا يصح إلا إذا حارب المسلمين، وبرغم وجهة النظر هذه، فقد دافع الشيخ عن موقف الصحابى الجليل أبو بكر الصديق مما عرف بحرب الردة، وأيد هذه الحرب فى كتابه "القضايا الكبرى فى الإسلام"، لأن من حاربهم الصديق لم يخرجوا من الإسلام، وإنما أبطلوا أصلا مما بنى عليه الدين وهو "الزكاة" فكانت الحرب لمنع الزكاة والاعتداء على الدين ومخافة الفتنة، ولو سكت أبى بكر على هذه الحالة، فلم يكن من المستبعد أن يبطل قوم آخرون الصلاة، وآخرون الصوم، ومن ثم يأخذ كل واحد من الدين ما يرتاح له ويترك ما لا يرتاح له فيضيع الدين.
أما فى كتابه حرية الفكر فى الإسلام، فقد ذهب الشيخ إلى أن الإسلام يعد أول دين يتيح الحرية المطلقة للإنسان، وقد كفل للمسلمين أن يعارضوا الرسول دون أدنى خوف، وبالتالى فإن التضييق على الناس فى باب الحرية الفكرية لا يتفق وصحيح الإسلام، لأن التعسف فى الحرية هو صناعة بشرية خالصة لا علاقة لها بالدين، فالإسلام لم يغلق باب الاجتهاد على الناس، والمجتهد لا إثم عليه فيما اجتهد فيه ولو أخطأ طريق الصواب، ما دام أنه التزم بالمعايير والضوابط فى اجتهاده، قائلاً إن "الإسلام يعتمد فى دعوته على تفكر العقل، لأن فى الكون نظاماً عجيباً يدل على وجود خالق له، فيكون الإيمان به عن اقتناع بوجود هذا النظام العجيب فى الكون، وعن اقتناع بوجوب إسناده إلى خالق عالم مريد قادر على خلقه"، ومؤكداً على أن الإسلام لا يعارض فكرا ولا يضطهد علما قائلاً: "العلم كالتفكر، مطلوب أولا لذاته، فإنه إنما يصح الإيمان بطريقة لأنه هو الذى يوصل إليه عن حرية واختيار، وهما شرط فى صحة الإيمان ولا حرية ولا اختيار إلا إذا اتخذ العلم طريقا مطلقا، وسار الإنسان فيه بنفسه يهتدى بهديه وحده فإذا وصل فيه إلى الإيمان بالله فبتوفيقه له، ولا يصح إكراهه على شىء بلا تدبر أو تفكير، وإلا كنا متناقضين فى جعله مختاراً أولاً ومكرها أخيراً، وكان الذى يليق بدل هذا التناقض إكراهه من أول الأمر" "ولا يعقل أن يدعو الإسلام إلى التفكر والعلم ثم لا يعطى من يدعوه إلى هذه الحرية العلمية، حتى يكون هناك سلطان عليه لغير العقل والعلم، ولا يخشى فى هذا بأس حاكم أو رجل دين، وإنما يجتهد فى العلم فليطلق له السراح ليسير إلى الأمام ولا يرجع إلى الوراء بل وينهض بأمته فى دنياها ودينها". وفى النهاية يؤكد الصعيدى على أن للعقل سلطة على النقل، وأن الإسلام فتح للعلماء باب الاجتهاد فى الدين، فأعطى للعقل سلطانه على دليل النقل، يستنبط منه ما شاء من أحكام الدنيا والآخرة، ويدخل فيه ما يلزم من التأويل ويدخل فيه ما يلزم من التخصيص والتعميم، ويدخل فيه ما يلزم من التقييد والإطلاق ويدخل فيه كل ما يلزم غير ذلك من ضروب الاجتهاد حتى يهيئه للحكم الذى يؤدى إلى ما اتفقا فيه من الغاية، وهو سعادة الناس فى دنياهم وأخراهم، وحتى لا يكون على الناس حرج فى الدين، لأن الدين يسر لا عسر".
أما في كتابه "القضايا الكبرى في الإسلام" فيبحر الشيخ الجليل في أكثر القضايا التاريخية المهمة التي شكلت أزمات كبيرة في التاريخ الإسلامي، نازعا عنها ثوب القداسة ومتقمصا روح القاضي المحايد مبينا الصحيح فيها والمعتل، مهما كانت أقدار أطراف هذه القضايا أو مكانتهم، وهو كتاب يستحق أن نفرد له حلقات منفردة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة