الالتهاب الركودى يضرب رئة العالم.. مستقبل الاقتصاد بعد كورونا محفوف بالمخاطر.. الأسواق تتأخر فى التعافى.. ارتباك المصارف واختلال الإنفاق.. اشتعال النفط وانطفاء النمو.. وأشباح البطالة والتضخم تهدد الكوكب

الخميس، 09 أبريل 2020 04:52 م
الالتهاب الركودى يضرب رئة العالم.. مستقبل الاقتصاد بعد كورونا محفوف بالمخاطر.. الأسواق تتأخر فى التعافى.. ارتباك المصارف واختلال الإنفاق.. اشتعال النفط وانطفاء النمو.. وأشباح البطالة والتضخم تهدد الكوكب
حازم حسين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

نشرت وكالة علوم الفضاء الأمريكية "ناسا" خلال مارس الماضى صورا تبيّن تراجع معدلات التلوث فى سماء الكرة الأرضية. وقدّرت فرق علمية آثار تلك الانتعاشة بأنها أنقذت حياة نحو 4 آلاف طفل و73 ألف بالغ بسبب تراجع انبعاثات ثانى أكسيد النيتروجين قرابة 35% خلال شهرين من الإيقاف الجزئى لمظاهر الحياة. نظريا تبدو الصورة مُشرقة لولا أن تلك الأرقام الإيجابية بمفردها، تنطوى على دلالات سلبية مزعجة حال وضعها فى سياق مكتمل مع مؤشرات أخرى. مبدئيا قتل الفيروس نحو 90 ألفا حتى الآن بما يتجاوز الأرواح التى أنقذها من مخالب التلوث، لكن الأخطر أن تلك النسبة من التراجع تعنى تقلص مستويات العمل وخسارة نحو ثلث الإنتاج الوظائف، أى تهديد عشرات الملايين بالفقر والموت جوعا!

زهاء 15% من البشر يعانون مستويات فقر ضاغطة، وبينما تحتاج الأسواق الوطنية مضاعفة معدلات نموها الحالية للنجاح فى انتشالهم من الفقر، والقدرة على توليد وظائف ودُخول تكبح جماح البطالة وتنقذ ملايين آخرين من التهاوى إلى ما دون خط الفقر، جاءت محنة فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" لتعيد الأمور عقودا إلى الوراء، وتمتص كل ما راكمته الأسواق من فوائض وقدرات إنتاجية. هنا لا يُمكن الاكتفاء بالآثار البيئية مرتكزا للدعم النفسى وتجاوز مسببات الهلع، إذ فى الحقيقة يكفى التمعن والفحص العميق لتلك المؤشرات التى تُقدم للعامة باعتبارها أثرا إيجابيا للوباء المستشرى عالميا، لأن يثير الخوف فى نفوس الجميع، الأمر لا يخص الحكومات والشركات ورجال الأعمال فقط، وإنما يطال العمال والمهنيين والحرفيين وربات البيوت والمتعطلين، فكل ما يهلل له خبراء البيئة الآن، أو يشدد عليه الأطباء وأساتذة الأوبئة والأحياء الدقيقة، سندفع جميعا فاتورته الكاملة لشهور أو سنوات مقبلة. سنتعافى حالما يُكتشف دواء أو فيروس، لكن الاقتصاد لن يشاركنا وقتها إحساس التعافى للأسف!

أزمة طاحنة وخيارات محدودة

 

يبدو مدى الأزمة فى الوقت الحالى واضحا، لكن من الصعب التنبؤ بما قد تؤول إليه الأمور. المعادلة محكومة بالمدى الزمنى ومستويات التضرر الفعلى، ثم قدرة الحكومات والمؤسسات على تجفيف الدماء وضخ حزم إنعاش تعيد الأسواق إلى مساراتها، ورغم أن كثيرا من الحكومات ما تزال فى أوج قوتها فإن الأمر قد لا يسير بتلك الوتيرة إذا استفحل الوباء، أو طال أمد انتشاره، أو تأخر قطار إنتاج اللقاح أو الدواء المنتظر!

عمليا تبدو الأزمة طاحنة والخيارات محدودة. فمن جانب تجد أغلب الدول نفسها محكومة بخيارين سيئين: إما تشغيل الأسواق وممارسة الحياة الطبيعية مع المغامرة باتساع رقعة الوباء وما يتولد عنها من أضرار قد تعصف بالاقتصاد قريبا، أو الإغلاق الكامل رغم عدم الثقة فى القدرة الفعلية على كبح الفيروس أو المدى الزمنى المحتمل لذلك ما يعنى خوض مغامرة مفتوحة ووضع الاقتصاد وحياة ملايين المستهلكين فى مهب الريح!

فى مقابل المعادلة المُغلقة حاليا، لا تبدو الآفاق المستقبلية أكثر انفتاحا أو بساطة على صعيد المخاطر وتعقد الحسابات. نظريا لا يُمكن اعتبار عتبة التوصل إلى لقاح أو كبح انتشار الفيروس محطة فعلية لإغلاق باب الأزمة، إذ حتى لو تعافى المصابون من "كوفيد 19" فإنهم على الأرجح سيظلون أسرى التداعيات وحالة الهلع الناجمة عنه لفترة غير قصيرة، وتلك الصيغة النفسية المرتبكة ستحكم أفكارهم وحركتهم فى المجال العام، من حيث كونهم مستهلكين أو تروسا فى منظومة الإنتاج. المحصلة أن العالم سيتأخر فى التعافى عن المصابين، وأن الآفاق المحتملة بعدما تنقضى الأزمة الطاحنة تبدو بالغة المحدودية والانغلاق، وربما تنترك آثارا سلبية على الاقتصاد لا تقل عمّا تسبب فيه الفيروس فى ذروة نشاطه!

تحت رحمة "كورونا فوبيا"
 

أخطر آثار فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" حالة الهلع التى باتت مسيطرة على الجميع، المنتجين والمستهلكين والوسطاء. من المُرجح أن تتطور رواسب تلك الأزمة مستقبلا إلى حدود نفسية تسهم فى ترشيد رغبات الفاعلين فى الأسواق أو تحجيم تطلعاتهم، بما يؤثر على خياراتهم فى الإنفاق الاستثمارى أو الاستهلاكى. سيكون الأمر أقرب إلى حالة رهاب "فوبيا"، ربما يعيش الاقتصاد تحت رحمتها لفترة غير قصيرة.

 

حتى لو لم يكن مُحتملا أن تتجدد موجات "كوفيد 19" الوبائية مرات أخرى، أو يشهد العالم محنة شبيهة مع فيروس جديد، فإن الخبرات والمخاوف التى امتحنها الأفراد خلال الأزمة الأخيرة ستقودهم على صعيد الخيارات الاقتصادية طوال الشهور وربما السنوات القليلة المقبلة. المشكلة أن وباء كورونا المستجد أعاد البشر إلى حيز أقرب للحياة البدائية، تقدمت فيه الاحتياجات البيولوجية الأساسية على حساب قائمة طويلة من الكماليات والخدمات والترفيه، وحال استمرار تلك الرؤية فإن الأمر يعنى تضرر عشرات القطاعات بتريليونات الدولارات ومئات ملايين الوظائف!

إذا تحققت تلك الصيغة فى إدارة الأفراد لشؤونهم الاقتصادية فسينعكس ذلك على السوق بوضوح، من خلال نمو الإنفاق الاستهلاكى على السلع والخدمات الأساسية، وتراجع الإنفاق على العقارات والسياحة والترفيه. هنا قد تتقلص المدخرات والودائع البنكية مع تزايد الاقتراض الشخصى، ويُمكن أن تشهد الأسواق فى المراحل الأولى ضغوطا تضخمية نتيجة تفوق المعروض النقدى على المعروض السلعى، لكن لن تستمر تلك الوتيرة المحمومة طويلا، بينما ستعمل الشركات على تعزيز قدرات التشغيل والإنتاج، هنا قد تنقلب الصورة تماما بزيادة المعروض وتراجع الطلب، لتتحول المؤشرات التضخمية الطفيفة إلى حالة ركود تُنذر باحتمالات كساد، خاصة مع تعطل بعض القطاعات الأساسية أو حذف ملايين الوظائف.

 

أموال ساخنة ونفط مشتعل
 

مقابل الاحتمالات المتشائمة لا تخلو الصورة من مسارات تقود إلى قراءات إيجابية. فى أحد الوجوه يُمكن توقع أن يخرج العالم من محنته الوبائية إلى فترة النقاهة متعطشا لحياته الطبيعية، وساعيا إلى تعويض الخسائر وما فاته من البهجة. هذا الاحتمال يقود إلى تنشيط ماكينات الإنتاج والاستهلاك والوصول بها إلى الذروة، لكنه يظل مرهونا بحجم الطلب ومؤشرات نموه، ومستويات الإنفاق الاستهلاكى، وقدرة المدخرات الشخصية والمصارف على تعزيز القدرات الشرائية للأفراد بما يصب فى صالح إنعاش الاقتصاد وتحسين مستويات النمو.

 

سيتعين على البنوك الإبقاء على مستويات الفائدة المنخفضة أو تقليصها، بما يسمح بتنشيط الإقراض الاستثمارى المغذى للإنتاج والنمو، وتحسين قدرة الأفراد على خلق طلب مكافئ للإنتاج المتنامى، لكن تلك الصيغة قد تتطور سريعا إلى مخاطر تضخمية مع زيادة المعروض النقدى بوتيرة أسرع من قدرة السوق على ضخ كميات مكافئة من السلع والخدمات، كما أن أسواق المال وقتها قد تشهد تدفقا الأموال الساخنة ونشاطا أكبر للمضاربين، بشكل يعزز مخاطر الارتباك وخسائر صغار المستثمرين. فى المقابل فإن زيادة معدلات الفائدة معناه تعويق المستثمرين عن استعادة أنشطتهم وتنمية حجم أعمالهم، فضلا عن تحجيم مستويات الإنفاق الاستهلاكى من خلال الاقتراض الشخصى، والأكثر خطورة أن المصارف ستمتص السيولة من أصحاب المدخرات الصغيرة على حساب القطاعات المتضررة مثل العقارات والبورصات والمشروعات الصغيرة وغيرها، ليتطور الأمر فى نهاية المطاف إلى ركود قد يتطور لكساد، مع اتجاه انكماشى للأسواق وخسارة مزيد من الوظائف والقدرات الإنتاجية!

 

بالتوازى مع كل تلك الاحتمالات، فإن سوق النفط ستشكل ضغطا إضافيا على الاقتصاد. خلال الأسابيع الماضية تهاوت الأسعار إلى ما دون 20 دولارا للبرميل، وحتى مع تعافيها جزئيا فى الأيام الأخيرة فإن الخسائر تظل فادحة. انتهاء أزمة كورونا سيدفع الأسواق القائدة إلى إنتاج مزيد من الطلب على النفط، مع تزايد متطلبات الدول المنتجة للطاقة فى إطار خطط الإنعاش وتعويض الخسائر السابقة، وعلى سبيل المثال فقد تكبدت شركات النفط الصخرى الأمريكية خسائر بعشرات مليارات الدولارات، وحتى تتعافى ويمكنها العمل لا يجب أن يقل السعر عن 55 دولارا للبرميل، وحتى تعوض خسائرها تحتاج لدفعه إلى مستويات تتجاوز 60 أو 65 دولارا، والاعتبارات نفسها قائمة لدى المنتجين الآخرين سواء داخل منظمة أوبك أو فى روسيا. تلك المؤشرات تعنى احتمال التوصل باتفاق بين المنتجين، أو تدخل الولايات المتحدة لتقليص المعروض العالمى سواء بضغوط مباشرة أو بإثارة اضطرابات فى إيران أو العراق وغيرهما، والمحصلة أن النفط سيتصاعد بقفزات سريعة مستعيدا مستويات ما قبل الأزمة، وقد يتجاوزها فى غضون أسابيع أو شهور قليلة من دوران عجلة الإنتاج العالمى، ويعنى ذلك مزيدا من الضغط على المستثمرين والمستهلكين، ومزيدا من تكلفة الإنتاج، وقدرات أقل على النمو وخلق الوظائف.

كُلفة الوباء وفاتورة الإنعاش
 

ما قد يُعطّل تعافى الاقتصاد أن كل الحكومات تقريبا خصصت حزم إنعاش عاجلة بتريليونات الدولارات. تلك الإجراءات امتصت كثيرا من الفوائض وزادت مستويات الديون، ومن المحتمل أن تضغط على المنظومة بما لا يسمح بتجديد الدعم بتلك الوتيرة، وهو أمر قد يعوّق الأسواق عن استعادة عافيتها سريعا. وإلى جانب ذلك فإن كثيرا من الحكومات ستتوسع بالضرورة فى إصدار مزيد من السندات، ومع تآكل المدخرات ومخاوف المستثمرين سيكون المعروض الحكومى أعلى من قدرة السوق على الاستيعاب، ما يعنى فائدة أكبر، وهنا قد تمتص الولايات المتحدة الجانب الأكبر من السيولة المتوافرة لتعيد تنظيم قدراتها، بينما تواجه دول أخرى مشكلات أكبر من قدراتها وما تملكه من أدوات.

تلك الأزمات الوطنية ستتعمق بالضرورة مع تغير أنماط العمل وأولويات الشركات. المؤسسات الصناعية الكبرى قد تلجأ إلى تفكيك مراكزها التقليدية وتوزيعها على أسواق عديدة فى أنحاء متفرقة، بينما ستتجه أنشطة التقنية والبرمجة والخدمات وبعض قطاعات التجارة للتوسع فى برامج التشغيل عن بُعد والحصول على خدمات العاملين المستقلين "فرى لانس".. تلك التطورات ستسلب ملايين العاملين وظائفهم الدائمة، وستبتر نسبة غير قليلة من اقتصاديات بعض الدول وخريطتها الاستثمارية لتوجهها إلى دول ومناطق أخرى.

 

رغم طبيعة الأزمة الراهنة وما يفرضه الوباء من تدابير، فإن الضغوط الاقتصادية المحتملة قد لا تسمح لأغلب الدول بتعزيز الإنفاق على قطاعات الصحة والبحث العلمى. بقاء الأمور على ما كانت عليه قبل الأزمة كافٍ لصيانة مخاوف المواطنين أو تغذيتها، بشكل سيُبقيهم تحت أسر حالة الهلع ورهاب كورونا، بما يُشكل خياراتهم الاقتصادية المستقبلية ضمن أفق التوقع الدائم بتجدد الوباء، وهو الأمر الذى يقود لارتباك الحسابات الشخصية بين الادخار والإنفاق، إشباع كل الاحتياجات أو الاكتفاء بالأساسى منها، التطلع للمستقبل أو البقاء رهن الحاضر، وكلها خيارات لا تُبشر بتعافى رئة العالم من آثار هذا الالتهاب قريبا!







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة