عالم ما بعد كورونا لن يكون نفسه عالم ما قبل كورونا.. عبارة أظنها تحمل كثيرًا من المصداقية، فهذا الفيروس الذي لا يُرى إلا بأدق الأجهزة المجهرية، لم يبق في الكرة الأرضية شبر إلا وكان له فيه ذكر، ولم يدع هذا الفيروس مجالا من مجالات الحياة الإنسانية إلا وكان له تأثير فيه.
صار هذا الفيروس الآن يحكم العالم- إن جاز التعبير- فالخطط والقرارات الإدارية والاقتصادية وطرق التنفيذ، توضع وفق حسابات أزمته الراهنة، وما بعد زوال أزمته، وحتمًا ستكون لأزمة كورونا تأثيرات متفاوتة على الدول بحسب نسبة تفشي الوباء وقدرة كل دولة على تجاوز خسائره، ما يؤشر على أنه لن تبقى دولة على حالها بعد أزمة كورونا، بل ستتغير أوضاع الدول، وسينعكس أثر هذا الوباء على أمزجة الشعوب.
انتشر وباء كورونا وجاب كل بلاد العالم، فهو لا يميز بين جنس أو لون أو نوع أو سن، ولا يقف عند حدود دولة أو قارة، أو عند باب مسؤول أو مواطن عادي، ولا يفرق بين مشهور ومغمور، ولا شريف ووضيع، بل يتحين الفرص ليتسلل إلى أي منزل في أي مكان وفي أي وقت، ليفتك بأفراده وبمن حولهم.
بات هذا الفيروس كابوسًا مزعجًا لدى جميع الناس، صار كل شخص يتخوف على نفسه وأهل بيته ويتحسس نفسه مفزوعا لمجرد إحساسه بأعراض نزلة برد عادية أو أي إرهاق، كل فرد يشعر في كل لحظة أن المرض قريب منه جدا، وأن دوره قد حان، وقد يصل الحد ببعض الناس إلى توهم أعراضه رغم سلامتهم.
غيّر وباء كورونا في سلوكيات سكان العالم، في تصرفاتهم خلال حياتهم اليومية، وفيما يتعلق بالنظافة الشخصية والبيئية، وامتد تأثيره إلى اختيارهم لأصناف الأطعمة والمشروبات، وعلاقاتهم الاجتماعية، وعاداتهم وتقاليدهم في السلام والتعامل مع بعضهم بعضا.
أحدث هذا الفيروس شللا عالميا، فقد تسبب في تجميد الأنشطة الرياضية حول العالم، وتعليق المدارس، وغلق المسارح ودور السينما والمساجد والكنائس، وصارت المؤسسات تغير من نظم عملها بالاعتماد على طرق تخفف من عدد الأفراد في المقرات، وإتاحة العمل عن بعد.
أصبحت البشرية الآن تقف في خندق واحد لمواجهة عدو للجميع، هو هذا الفيروس اللعين كورونا، الذي قضى على آلاف الأشخاص ومازالت ألوف أخرى تئن تحت وطأته، وتسرع الدول لتبادل الخبرات الطبية والمقترحات والمساعدات الوقائية، وصارت كل هيئات البحث العلمي في العالم بأسره مسخرة للبحث عن علاج أو دواء للتخلص من هذا الوباء.
ورغم حزمة الإجراءات الوقائية التي لجأت إليها الدول في محاولة للسيطرة على انتشار هذا الفيروس بالحد من اختلاط الأفراد ومنع الزحام والتجمعات، وأهم هذه الإجراءات حظر التجوال، فإن هناك بعض الظواهر السلبية الخطيرة تتعلق بسلوكيات فردية ومفاهيم وثقافات مجتمعية، قد تهدد بسرعة تفشي هذا المرض واتساع دائرة انتشاره.
بعض الأشخاص يتصف باللامبالاة، فلا يكترث للإجراءات الوقائية المطلوب مراعاتها لتجنب هذا الوباء، في تصرفاته الشخصية، وخلال تعامله مع الآخرين، بل يزايد ويستشهد عن سوء فهم بقول الله تعالى: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
وفي مجتمعاتنا الشرقية لدى الناس نظرة طبقية بالنسبة للأمراض، فهناك أمراض يعدونها فوقية لا يتحرج أصحابها أن يطلع الآخرون عليها، فمرض النقرس مثلا أحيانا يتباهى به أصحابه، ويزعمون أنه مرض الملوك، وهناك أمراض يرونها عيبا ووصمة عار على أصحابها فيخشى أصحابها البوح بها، وهو ما يلاحظ في التعامل مع الأمراض المعدية والأمراض الجلدية على سبيل المثال.
وإزاء هذا الزخم الذي أحدثه وباء كورونا، ونظرا لكونه مرضا معديا، وسريع الانتشار، فإنه قد تبدو أعراض الإصابة به على أحد الأشخاص فيخجل من الإبلاغ عن نفسه وقد يتحرج ذووه أيضا من الإفصاح عن حالته، خوفا من النظرة الدونية التي تلاحقهم من معارفهم وجيرانهم، وظنا منهم أن الإصابة بهذا المرض عار يلتصق بصاحبه ولا يفارقه حتى بعد مماته، خصوصًا أن هناك فيديوهات تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي تعرض طرقا مهينة في دفن الموتى ضحايا هذا الوباء.
وتكمن الخطورة هنا في كون المصاب لا يعرض نفسه فقط للخطر، ولكنه يعرض أهل بيته وأهل منطقته، لأن الواقع الذي لا يمكن إنكاره أنه مهما نفذ المواطنون إجراءات حظر تجوال طواعية أو إجبارًا، فإن أي أسرة مجبرة على خروج أحد أفرادها للشارع لجلب مستلزمات معيشة وعندئذ يتعامل مع آخرين، ويلامس باب العقار الذي يقطنه وسور السلم أو زر المصعد، ولعل هذا ما يفسر إجراءات الحجر الكامل التي تمت مؤخرا على عقارات بأكملها في مدينة بورسعيد.
وهنا أرى ضرورة أن يضاف إلى الإرشادات الوقائية التي تقدمها حملات التوعية من وزارة الصحة والمختصين، إرشادات نفسية للمصابين بهذا المرض ولذوي المرضى، وألا تقتصر الإرشادات فقط على مراعاة النظافة الشخصية والبيئية، والمسافات الاحترازية عند التعامل مع الآخرين.
كما يجب على وسائل الإعلام أن تبرز الدور التوعوي للمؤسسات الدينية مثل دار الإفتاء والأزهر الشريف والكنيسة، وأن تضع ضمن أهدافها تغيير مفاهيم الناس بالنسبة للإصابة بهذا المرض، وإفهامهم أن الوباء لا يمثل عيبًا أو عارًا على صاحبه، وإنما هو ابتلاء قد يتعرض له أي شخص، وأن الشخص المصاب الذي لا يبلغ عن إصابته يحمل وزر نفسه ووزر كل من يتسبب في عدواهم، لاسيما أن دار الإفتاء كانت سباقة بفتوى أن الالتزام بالتعليمات الصحية والوقائية التي تقررها وزارة الصحة والمؤسسات المعنية، من الواجبات الدينية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة