أحمد حسن عوض يكتب: الشعر والمعرفة

الإثنين، 13 أبريل 2020 05:30 م
أحمد حسن عوض يكتب: الشعر والمعرفة أحمد حسسن عوض

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل بوسعنا أن نستخلص معرفة من الشعراء أو معلومات من القصائد كتلك التى نلتقطها من وسائل الإعلام أو مقالات الصحف؟ قد يصدق هذا الأمر على كثير من نماذج الشعر القديم، حين كان الشاعر يقوم بدور المؤرّخ التابع للأمير أو القائد المنتصر أو يؤدّى دور وزير الإعلام الذى يتحدّث عن أحداث عصره، وهو تصورٌ ظلّ مهيمنًا على الشعر العربى حتى مطالع القرن العشرين، لا سيّما فى نتاج المدرسة الكلاسيكيّة الجديدة وشعرائها الكبار، البارودى وشوقى وحافظ الذين حاولوا فى عدد من قصائدهم أن يرتقوا بالحوادث التاريخيّة، وما يرتبط بها من معلومات إلى التّأمل فى جوهر تلك اللحظات لاستخراج العبرة أو العظة الأخلاقيّة وكأنّها حكمة الزمن المقطّرة بخبرة السنوات.
 
وربما استنفرت تلك الصياغات التى تقدّم المعرفة فى إطار الحكمة شعراء آخرين مثل الرصافى والزهاوى والعقّاد، فخطوا خطوات أكثر اتساعًا، وأقبلوا فى بعض قصائدهم على صياغة الأفكار والنظريات الشائعة فى حقول الفلسفة صياغة باردة تخلو من وهج الشعر وإشعاعه الفاتن ممّا اضطرهم أحيانًا إلى تقديم شروح نثريّة فى هوامش قصائدهم لإحساسهم بعجز نظمهم الشعرى عن تجسيد أفكارهم المعرفيّة.
 
ومن ثمّ لم يُكتب لتلك المحاولات أن تزدهر أو تتطوّر فى مسيرة الشعر العربي. وتربّعت العاطفة على عرش الشعر مرة أخرى عبر نتاج شعراء جماعة أبولو الذين هاموا فى فضاءات الوجدان والخيال، وانهمكوا فى صنع ألوان شعريّة مفارقة لما قد يتراءى لهم من معارف شائعة أو حقائق مبتذلة، إلى أن ازدهر تيّار شعر التفعيلة وأعاد بعض روّاده التّأمل مرة أخرى فى علاقة الشعر بالمعرفة، وأصبحت علاقة الشّاعر بالفكر كما يقول صلاح عبد الصبور"لا تنبع من إدراكه لبعض القضايا الفكريّة بل من اتّخاذه موقفًا سلوكيًا وحياتيًا من هذه القضايا بحيث يتمثّل هذه الأفكار بشكل عفوي... لتتحوّل فى نفسه إلى رؤى وصور كما يتمثّل النبات ضوء الشمس ليتحوّل إلى خضرة مُظللة وزاهية. فالشاعر لا يعرض آراء، ولكنّه يقدّم رؤية".
 
وهو تصوّرٌ يعكس أصداء التفاعل مع أفكار الشعراء الكبار أصحاب الحضور الراسخ فى مشهد الشعر العالمى مثل مالارميه الذى كان يرى أنّ الشعر يُصنع من الكلمات لا الأفكار، وإليوت الذى كان يقول بإنّ الشعر يقدّم الجانب الحسّى للمعرفة وليس الجانب العقلانى لها، لذلك فقد ظلّت تأثيرات ذلك التّصور الشعرى وغيره من الأفكار المشابهة ممتدة فى مشهدنا الشعرى العربى حتى لحظتنا الراهنة وإن تجلّت بمظاهر متعددة فى الشعر التفعيلى وقصيدة النثر بحسب رؤية كل شاعر ومزاجه الإبداعي، فى حين خفتت الأصوات التى كانت تنادى بأن يعبّر الشعر عن أفكار المذاهب السياسيّة، أو ينخرط فى صياغة القضايا الكبرى بطريقة تلائم وعى الجماهير. 
 
 
ولعلّ فى تحولات محمود درويش الأخيرة أكبر دليل على أنّ المعرفة السياسيّة أو غيرها من المعارف قد انصهرت فى أتونٍ واحد مع تجارب الشاعر وتفاعلاته اليوميّة وانفعاله بالفنون الأخرى لتخرج لنا قصيدة حديثة تعانقت فيها التّجارب الحيّة بالتجارب الثقافيّة فأنتجت رؤية شعريّة لا رأيًا سياسيًا.
إذ لم يعد الشاعر الحقيقى فى عصرنا الراهن شاعر السياق العام الذى يشبه الصحفى فى كتابة التصورات الراهنة أو نظم المعارف المتاحة أو حتى الجديدة.
 
ولم يعد أيضًا ذلك الحكيم الفيلسوف الذى ينطق بالحكمة أينما حلّ أو ارتحل، وإنّما أصبح إنسانًا بسيطًا لا يدّعى "معرفة" بقدر ما يقدّم "تجربة" يطرحها أحيانًا فى إطار من التشكك أو التواضع الذى كان ينشده أبو العلاء المعرّى فى بيته الخالد:
إذا قلت المحال رفعتُ صوتي
وإن قلت اليقين أطلتُ همسي
ليتلاقى ذلك الهمس العميق مع صوت الشاعر الحديث الذى يعيش لحظته بيقظة ويكتب قصيدته بوعى مغاير يكشف عن معرفة نوعيّة تجعلنا نطلّ على العالم بعين قادرةٍ على الدهشة من جديد.
 






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة