العمائم البيضاء لا تقى من الوباء.. مصارعة الدين والعلم فى حلبة "كورونا" تفجر الأسئلة.. لماذا يفرض الشيوخ رؤاهم على الأطباء؟.. متى تسكت الفتوى وتنطق النظرية؟.. وكيف استسهل الفقهاء المزايدة على الناس باسم الصيام؟

السبت، 11 أبريل 2020 11:52 ص
العمائم البيضاء لا تقى من الوباء.. مصارعة الدين والعلم فى حلبة "كورونا" تفجر الأسئلة.. لماذا يفرض الشيوخ رؤاهم على الأطباء؟.. متى تسكت الفتوى وتنطق النظرية؟.. وكيف استسهل الفقهاء المزايدة على الناس باسم الصيام؟
حازم حسين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
اجتماع قالوا إنه ضم شيوخا وأطباء وممثلين عن منظمة الصحة العالمية من خلال مكتبها بالقاهرة، أعلن بعده مجمع البحوث الإسلامية أنه لا يُوجد فى أزمة وباء فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" ما يستدعى إصدار رأى شرعى بجواز إفطار شهر رمضان الذى يبدأ فى غضون أسبوعين، وعليه يظل الرأى الشرعى على حاله بوجوب الصيام على كل عاقل مُكلف لا تتوافر فيه اعتبارات الاستثناء التقليدية الخاصة بالمرض أو السفر.
 
بحسب البيان الصادر عن المجمع، الثلاثاء الماضى، فى ضوء الجلسة الطارئة الثالثة عشرة للجنة البحوث الفقهية، فقد انتهى الرأى إلى أنه "لا يوجد دليل علمى حتى الآن على ارتباط الصوم والإصابة بفيروس كورونا المستجد، وعلى ذلك تبقى أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالصوم على ما هى عليه، من وجوب الصوم على كل المسلمين، إلا من رُخِّص لهم بالإفطار شرعًا من أصحاب الأعذار".
 
نظريا لا يبدو البيان، والرأى المحمول عليه، خارج دائرة العمل المعتادة لمجمع البحوث الإسلامية ولجانه، ولكن عمليا يُثير الموقف تساؤلات عديدة بشأن حدود الاتصال والانفصال بين الدين والعلم، ومنطقية استعجال الرأى الشرعى فى ظرف ملتبس، بل وإغلاق المسارات المفتوحة على الاحتمالات بيقينية الأحكام الشرعية، بما يُنتج قوة قاهرة فقهية لا تقل ضغطا عن القوة القاهرة التى يفرضها الوباء على العالم، أو يُقيّد بها فاعلية الوعى الفردى وقدرة الأفراد على التوصل إلى نتائج موضوعية سليمة!
 
 
 
 

رجال المزايدة بالدين

 
بالعودة قليلا إلى الوراء. كانت الاعتبارات الدينية ركيزة أساسية فى التعاطى مع أزمة فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" ومعالجة تداعياتها المحتملة. بدأ الأمر بآراء طبية واضحة عن خطورة التجمعات ودورها فى نشر العدوى، وعن ضرورة محاصرة المساحات الأكثر خطورة عبر تدابير عديدة منها إغلاق دور العبادة. وقتها لاقت تلك الآراء استهجانا ومزايدة من بعض الشيوخ، خاصة المتطرفين من التيارات السلفية ورواسب جماعة الإخوان الإرهابية، وبفعل تلك المماحكات الأخلاقية ظلت الأوضاع على حالها أياما طويلة.
 
فى وقت لاحق تداركت وزارة الأوقاف الأمر، وأصدر الوزير قرارا واضحا بإغلاق المساجد والزوايا. فى المقابل ظل عشرات من الشيوخ أو المحسوبين على تلك الفئة يمارسون نشاطا مضادا للقرار، وللتدابير الصحية السليمة، لترصد لجان التفتيش وكاميرات المواطنين وشهود العيان حالات عديدة لتجمعات أمام المساجد أو فى ساحات جانبية، وتطور الأمر لدى البعض إلى إدخال الناس وإقامة الصلاة سرا بالمساجد رغم إغلاقها!
 
رغم المزايدات التى لم تنقطع، إلا أن خفوت حدتها نسبيا كان بفضل أسبقية المملكة العربية السعودية باتخاذ إجراءات مشددة على صعيد إدارة الحرمين الشريفين. والحقيقة أنه رغم التأثير الإيجابى للموقف السعودى على وعى المسلمين فى أنحاء العالم، فإن المزايدة لم تنقطع حتى على بلاد الحرمين، وتجاهل الجميع وبينهم شيوخ أن حفظ النفس ثانى المقاصد الخمس العليا للشريعة والإسلام، وأن إيراد الناس موارد التهلكة تحت شعارات التدين والتعبد الطقوسى قد لا يكون من جوهر الإسلام ولا صحيح تعاليمه!
 
 
 

اسألوا أهل الذكر

 
لقرون طويلة تقدمت الرؤى الدينية على كل الاعتبارات، ووضع رجال الدين أنفسهم فوق رجال الاختصاص فى كل المجالات. المشكلة أن أمور الدين يحكمها الثبات بينما تتصف أمور الدنيا بالحركية والتطور، لذا تسببت تلك الوضعية فى إصابة كثير من جوانب الحياة اليومية بالجمود والتكلس. هكذا عانى الأطباء والعلماء والسياسيون والإعلاميون ورجال الاستثمار والمصارف وآلاف غيرهم من هيمنة نظرة الشيوخ البسيطة على واقعهم المعقد، ومثالا فقد ظلت مسائل مثل نقل الأعضاء أو فوائد البنوك محل اعتراض قاطع من الفقهاء، حتى مع اتجاه بعضهم إلى إجراء عمليات من تلك النوعية أو التربح من شركات توظيف الأموال المشبوهة خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى.
 
فى مقابل الاعتراضات الفنية ورؤى المختصين كان الشيوخ دائمى الاحتجاج بالآية السابعة من سورة الأنبياء "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، مُقيدين المجال الدلالى للوصف القرآنى فى أصحاب العمائم ومرتادى المنابر، بينما يقتضى الفهم القويم للمعنى حيزا دلاليا أوسع لمفردة "الذكر"، إذ مع تعليق جُملة الطلب على الشرط المتصل بانعدام العلم، يكون مناط التوجيه القرآنى فى استخلاص المعرفة من أهلها، ومن غير المنطقى أن يكون العلم بالطب مثلا لدى الشيوخ وأهل الفقه!
 
إذا أجرينا التوجيه القرآنى على الأزمة الراهنة، يكون العلم الحصرى بأمور السلامة وحفظ النفس وحتى إقامة الدين فى تلك الظروف لدى الأطباء والمختصين فى الفيروسات والأوبئة والأحياء الدقيقة والفارماكولوجى "الأدوية"، وهنا يتوجب على رجال الدين من الفقهاء والخطباء وأصحاب العمائم والمتكسبين من الاشتغال بالدعوة التراجع خطوات إلى الخلف، وإفساح المجال لأهل الذكر الحقيقيين فى هذا المقام بأن يُفندوا المغالطات ويُبيّنوا الحقائق ويُؤسسوا للمسارات السليمة التى تحفظ الحياة، وبالضرورة ستكون حفظا للدين لأنها تُعلى مقاصده على أرضية من الوعى والبحث والمعرفة، من دون تبسط أو تزيد ولا تهوين أو تهويل!
 
 

إهلاك الناس والدين

 
رغم تبسيط الأمور على مستوى الممتهنين للدين، إلا أنه فى الوجه العملى لا يُمكن الحديث عن حفظ الدين بمعزل عن حفظ النفس، لا سيما فى المخاطر الداهمة كالأوبئة والفواجع الإنسانية. فى الحقيقة لا دين بدون دائنين، ولا مساجد بدون مصلين، وما لم يكن الفقهاء والشيوخ حريصين على سلامة المؤمنين والمريدين فإنهم فى جوهر الأمر أقل حرصا على الدين نفسه. إذ لا منطق فى وضع الطقس فوق النفس، وتقديم مظاهر التدين على مقاصده!
 
أخرج مسلم فى صحيحه حديث الرسول عن الطاعون "إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها عليه، وإذا دخلها عليكم فلا تخرجوا منها فرارا"، وتلك الرسالة التى تلخص حالة الحجر الصحى التى عرفها العالم لاحقا، تأكيد لانعقاد الولاية فى أمور الصحة لأهل الاختصاص. فى ذلك قال المختصون إن إنهاء التجمعات ومنها المساجد إجراء احترازى مهم، وظل شيوخ كثيرون على عندهم أياما طويلة، وبالمثل يُحذر المختصون من الممارسات التى قد تؤثر على الصحة أو كفاءة جهاز المناعة، وقد تساعد فى استشراء العدوى بـ"كورونا" أو تُعجل بنشاط الفيروس، وإلى الآن ما يزال شطر من فريق المزايدة بالدين على حالة المكابرة والتنطع وإهلاك الناس بالجهل!
 
أخطر ما فى الأزمة الراهنة أن أهل الاختصاص أنفسهم ما يزالون غير محيطين تماما بفيروس كورونا المستجد، ما يجعل حديث الشيوخ أو غيرهم من غير المختصين اختراقا للعقل والعلم والمنطق، وإلقاء بالنفس فى التهلكة. من غير المفهوم أصلا أن العلماء والأطباء يلملمون شذرات المعلومات لتكوين صورة كاملة عن العدو الخفى، بينما يستسهل أصحاب العمائم الجزم برأى ذى طبيعة علمية بمنتهى الخفة ودون أن تطرف جفونهم!
 
مضى نحو خمسة أشهر من عمر الوباء (أحدث الدراسات أشارت إلى بدء العدوى به آخر نوفمبر الماضى) وإلى الآن لا يعرف المختصون على وجه القطع العائل الوسيط الذى انتقل منه الفيروس للبشر، ولا يحيطون بفترات نشاطه وآلية العدوى ومدة الحضانة وحزمة الأعراض. فى يناير قالت منظمة الصحة العالمية إنه لا ينتقل بين البشر، ثم تراجعت، ثم قالت إنه ينتقل فى الهواء ثم تراجعت، قالوا إن الحضانة 14 يوما ثم عدلوها إلى 28 ثم عادوا لأسبوعين، ورصدوا قائمة أعراض تشمل الحمى والسعال وجفاف الحلق وضيق التنفس، بعدها أضافوا الإسهال والإمساك وانعدام الشهية واضطرابات النوم وتسارع ضربات القلب وغيرها، وإلى الآن لا يبدو أن أهل الذكر يعرفون "كوفيد 19" معرفة كاملة، وبالأحرى فإن أهل الفقه لا يعرفونه من الأساس!
 
 
 

فى مسألة الصيام

 
الموقف الأخير من الشيوخ فيما يخص فتوى صيام رمضان أقرب إلى الاستسهال، حتى لو قالوا إنه نتاج اجتماع ضم أطباء. بعيدا عن المداخل العلمية فإن الشك الذى قد يُفضى إلى إزهاق نفس واحدة يكفى للتوقف والتثبت والإفتاء بالتوسعة على الناس أو الصمت، خاصة أن الصيام من الفروض التى اختص الله نفسه بإدارتها كاملة ولم يجعل لأحد سلطانا على الناس فيه لا بالعمامة ولا بالكرباج!
 
المفارقة أن حتى ما برر به الشيوخ موقفهم قد لا يصمد أمام البحث البسيط. إننا إذ نجهل طبيعة الفيروس الكاملة حتى الآن يصعب الجزم بأن إجراء ما من الإجراءات آمن وغير ضار، ناهيك عن أن الصيام سيوفر بالضرورة بيئة مناسبة للعدوى بسبب جفاف الحلق، الذى يساعد الفيروس على شق طريقه من الفم إلى خلايا مجرى التنفس والرئة التى ينشط ويبدأ ضرباته منها، كما يؤثر الصيام على لياقة الجسم ووظائف الأعضاء وجهاز المناعة نفسه مع ارتفاع لزوجة الدم والبولينا وتركز الأملاح وبعض المكونات الضارة، وباختصار فإنه لو لم يكن مضرا بوجه قاطع فإنه سيكون "عامل خطر" مضاعفا فى الظرف الراهن.
 
جانب من التضليل يستند فيه الشيوخ إلى أمور غير دقيقة عن أبحاث علمية تثبت فوائد الصيام. الحقيقة أن الصيام فريضة تعبدية لا صيدلية علاجية، وأن الدراسات التى يوظفونها مستغلين جهل الناس تتناول صيغة من التجويع المؤقت بدون تعطيش لتنشيط آلية الالتهام الذاتى "أوتوفاجى"، والاستفادة من التقويض المنظم وتدوير المكونات الخلوية للخلايا المعطوبة. وحتى بالنسبة لتلك الصيغة المختلفة من الصيام البسيط فإنها لن تكون آمنة فى ظروف وبائية كالتى يعيشها العالم حاليا.
 
خلاصة الأمر أن المجال الراهن يخص العلماء لا الفقهاء، وأن الرأى السليم فى الأزمة للأطباء وليس الشيوخ. لكن بدلا عن ذلك يستسهل البعض المزايدة التى قد تمثل ابتزازا نفسيا يجبر مريضا أو مواطنا خائفا على الصوم، بينما لم يكن يشعر أنه قادر عليه أو كان يخشى بشكل حقيقى من تبعاته فى ظرف وبائى، وكان الأسلم فى هذا الظرف المفزع أن يصمت الشيوخ متخلين قليلا عن المزايدة وعن طرقهم المعتادة فى قمع الناس وإدارة حياتهم ومخاوفهم، بدون أى علم، وبدون إنسانية أو رحمة للأسف!






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة