د. إبراهيم نجم

رسالة دار الإفتاء للعالم

الجمعة، 13 مارس 2020 06:39 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يعد التأكيد على ضرورة التواصل مع العالم من نافلة القول التى لا حاجة لنا بإعادة الكلام فيها لوضوحها، بل إن الأمر الواضح يحتاج أحيانًا للتنبيه عليه إذا كان من الخطورة بحيث يُخشى تجاوزه اعتمادًا على بديهيته وظهور أمره للعيان.
 
وقد فطنت المؤسسات الدينية المعنية بشؤون المسلمين وعلاقتهم بالآخر كالأزهر الشريف ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم إلى أهمية الحوار الإيجابى بين الحضارات من أجل عالم واحد يسع الجميع، فى ظل التقدم الحضارى الهائل الذى يقرب المسافات بين الشعوب والبلدان ويجعل من كوكب الأرض بيتًا لنا يسعنا العيش فيه معًا ويلزمنا عمارته وتحسين الحياة المشتركة فيه. 
 
وبناء عليه أخذت هذه المؤسسات الدينية على عاتقها تحقيق التعايش الذى دعا إليه رب العالمين حين قال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، ففهمت من ذلك وجوب التواصل مع الآخر انطلاقًا من فرضية الدعوة إلى الله بالتى هى أحسن، إذ قد تقرر فى الأصول أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 
 
وحيث إن الجماعات المتطرفة لم تحسن هذه الدعوة، بل إنها أساءت إلى صورة الإسلام فى الخارج وكدرت حياة المسلمين هنا وهناك قبل أن تسيء إلى الإنسانية عامة وتكدر صفوها، لذلك كان لزامًا على ولاة الأمور والمعنيين بالحوار الحضارى فى الداخل والخارج أن يمكنوا لهذه المؤسسات الدينية الوسطية حتى تزيحَ هذه الجماعات المتطرفة بخطابها المتشدد المختزل للإسلام فى الحدود والجهاد ولا تَعِدُ الناسَ إلا بالموت والخراب، وتقدمَ بديلًا عنه خطابًا معتدلًا يستقى من الأصول المقررة ويراعى سنَّة التجديد ويَعِدُ بالتطور ومواكبة العصر وتقديم حياة أفضل للجميع تحت مظلة الأعراف الدولية وفى ظل المبادئ العامة للأديان، التى تراعى صالح الإنسان وتوفر له ما يليق به من الكرامة التى فطر الله الناس عليها فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.
 
إن المناداة بعالم واحد يتعايش أبناؤه فى ظل مبادئ عامة ترعى حقوق الإنسان الأساسية، دعوة تساير التطور الحضارى للإنسان الذى انتقل من العصبية القبلية إلى المدنية الحديثة، وكل دعوة إلى الانعزال والتقوقع على الذات فضلًا عن مقاطعة الآخرين ومنابذتهم العداء هى ردة حضارية تعود بنا إلى عصور الهمجية، وانحطاط عن رتبة الإنسانية إلى عادات الغاب وثقافة القطيع، بل إنها معاداة لخطة الله سبحانه وتعالى الذى استخلف الإنسان لعمارة الأرض، فقال: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}. ولا ريب أن دعوات المنابذة والكراهية التى يبثها الخطاب العدائى لجماعات التطرف والإرهاب من جانب، واللاعبين على وتر الإسلاموفوبيا المتلاعبين بوعى الجماهير من جانب آخر، هى دعوات هدامة من شأنها أن تؤجج الصراعات وتؤخر بالتالى التطور الإنساني، وإنما السبيل إلى تفادى آثار هذا الخطاب الكارثى لا يكون إلا بالتعاون بين دول العالم المتحضر، بأن تتكاتف مؤسساته العلمية والإعلامية الدعوية والدينية لتقديم خطاب يحض على المحبة والتعايش والتواصل البنَّاء بين الشعوب؛ إيمانًا منها بأن هذه الدعوة هى خلاصة الأديان التى غفل عنها المتزمتون وأصحاب الأيديولوجيات الضيقة من الجانبين.
 
لقد اضطلعت دار الإفتاء المصرية بدورها فى هذا الصدد وسارت خطوات حثيثة على درب التواصل مع العالم الخارجى، وسعت بالمشاركة مع الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم إلى إجراءات عملية لتجسير الصلات بين العالمين الإسلامى والغربى، فأقامت المؤتمرات العالمية لمناقشة أوضاع الجاليات الإسلامية وإدماجها فى مجتمعاتها بشكل إيجابى بناء، وقامت بتدريب الأئمة والمفتين من مختلف دول العالم على مواجهة الفكر المتطرف، حيث نفذت الدار عشرات البرامج التدريبية داخل مصر وخارجها، من أجل نشر قيم الإفتاء المنضبط الذى يحقق مقاصد الشرع الشريف ويرسخ للأمن المجتمعي. نعم، لا زال الطريق طويلًا أمام تحقيق التكامل بين المؤسسات العالمية فى سبيل بناء عالم واحد يستقى قيمه من المبادئ العامة للأديان، ولكنه واعد فى النهاية مبشر بالخير الذى يعم الجميع، مستحق للجهد المبذول من أجله.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة